سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مسفر بن علي الموسى
بعيدًا عمَّا قد يقال في هذه المناسبات من وصف عاطفي أو خطاب بروتوكولي أو لغة احتفالية، رغم مناسبتها للسياق العام باعتبارها جزءًا من الثقافة الشعبية الشرقية، إلا أن هناك ما يدعو للتأمل الجاد المعتمد على المنهج العقلي والنظرية الأصيلة. وعودًا إلى العنوان أعلاه، فإن هناك ما يلفت الانتباه نحو علاقة هذا الاتجاه السياسي المتمثل في تنصيب الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد والنظرية (الغائية) التيليولوجية. هذه النظرية التي تتجاوز الأعراف والتقاليد الإجرائية المعقدة وتستبدلها بالغاية النهائية والنتائج الكلية التي يمكن اختصارها في مصطلح (المصلحة النهائية العامة). ومن هنا ينطلق السؤال الرئيس: ما علاقة هذا الفعل السياسي مع المصلحة النهائية العامة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، ينبغي عدم تجاهل السياقات السياسية والاقتصادية التي تشكل الخلفية المعرفية والمدخل العام لفهم المتغيرات التي تمر بها السعودية بوجه خاص، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام في هذه الفترة. وكلا السياقين (السياسي والاقتصادي) يمكن وصفهما باطمئنان كامل بأنهما يشهدان توترًا حادًا ويحتاجان إلى تغيير جذري في التعامل معهما برؤى سياسية جريئة وغير نمطية. هذه الرؤى بدأت ملامحها تتشكل من خلال رؤية اقتصادية شاملة، وتحالفات إقليمية ودولية، وجهود عسكرية فاعلة، وحلول جادة وجذرية لمكافحة الإرهاب. ما سبق يمهد للحديث عن دولة سعودية جديدة تحتاج إلى نمط حديث في شكل القيادة تستوعب كل هذه المتغيرات. هنا يبرز دور الملك سلمان الذي وثق بشخصية الأمير محمد بن سلمان ليدفع به شابًا إلى المناصب القيادية الكبرى وزيرًا، ثم وليًا لولي العهد، ثم وليًا للعهد. ولكن ماذا رأى الملك في محمد بن سلمان حتى يكون أيقونة المرحلة وممثلاً لشكل القيادة الحديثة. برزت شخصية ابن سلمان في اللحظات الأولى منذ دخوله عوالم السياسة ودهاليزها. حيث اختاره الملك، بالإضافة إلى منصبه وليًا لولي العهد، رئيسًا لأعلى مجلس اقتصادي وتنموي في السعودية. في الشهور الأولى قدَّم الأمير محمد بن سلمان خطة تنموية واقتصادية تعدُّ هي الأكبر والأوضح على مر التاريخ السعودي تمثلت في التحول الوطني 2020 ورؤية السعودية 2030.
بالإضافة إلى ملف الرؤية في المجال الاقتصادي والتنموي، برزت شخصية ابن سلمان كقائد يدير التحالفات السياسية الناعمة، وتلك التي تحتاج إلى حشد القوى والتدخلات العسكرية. هذه الملفات التي أبرزت شخصية الأمير محمد بن سلمان للشعب السعودي وللمجتمع الدولي، مثلت الشخصية المناسبة للمشاركة عن قرب في قيادة الدولة السعودية الحديثة، التي اختارها الملك لتحقيق المصلحة العامة بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى. ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب:
أولًا: تحتاج الرؤية السعودية إلى استقرار في إدارتها لضمان استمرارها. هنا قد يكون التداخل منطقيًا عند طرح رأي مختلف يتبنى فكرة استقرار الرؤية وإمكانية تغيير فريقها الإداري. وللعارفين في مجال الإدارة العامة، فإن مثل هذه المشاريع تحتاج إلى شخصية القائد التي تتجاوز فكرة الإدارة المجردة. فمحمد بن سلمان لا يدير الرؤية فحسب، وإنما حشد لها كل الخبرات والمكاتب الاستشارية التي شكلت تناغمًا وروحًا متسقة لديها عقيدة التحول من الدولة الريعية إلى نظم إنتاجية، وأي تغير طارئ أو غير محسوب فقد يضر بهذا التناغم وهذه العقيدة.
ثانيًا: محمد ابن سلمان ليس قائدًا لهذه الرؤية فحسب، وإنما فاعل فيها من خلال قدراته المعرفية التي اتضحت للرأي العام وغيرت في مفاهيم المجتمع نحو الإدارة التقليدية. فمنذ ظهوره الإعلامي الأول على شاشة عربية، أبدى ابن سلمان قدرة ذهنية عالية في فهم تفاصيل المشروع الحلم. في اللقاء الثاني، اتضح أن الأمير جزء من هذا التحول الوطني نحو القيادات المعرفية الشابة التي غيرت مفهوم الخطاب السياسي التقليدي. ففي كل تجارب المتابع السعودي، لم تكن الشخصيات السياسية بهذا العمق المعرفي الذي يبعث على الاطمئنان.
ثالثًا: شهدت قيادة محمد بن سلمان تغيرًا في حيوية اتخاذ القرار السياسي. فوضوح الرؤية وتجلي إجراءاتها غير كافية للمضي بها إلى الأمام، بل تحتاج إلى وتيرة متسارعة ومتزامنة في استصدار القرار السياسي من مجلس الوزراء حتى لا يتعطل المشروع. وضح ذلك في مجموعة من المشاريع الجزئية والتغيير في الوزراء الذين لا يستطيعون مواكبة الإنجاز. من هذه المشاريع – على سبيل المثال – مشروع صندوق الاستثمارات العامة، وأنظمة الاستثمارات الأجنبية، ومشاريع هيئة الترفيه وغيرها الكثير التي تم اختزال فترات تعديلاتها الإجرائية والإنشائية من سنوات إلى شهور معدودة.
رابعًا: القدرة على إنشاء التحالفات الدولية أو الإقليمية بسرعة فائقة وبسرية تامة. يظهر ذلك في الكثير من التحالفات التي كان ابن سلمان جزءًا منها. على سبيل المثال، استطاع أن يحشد الكثير من الدول في التحالف العربي لدعم الحكومة الشرعية في اليمن والحرب ضد ميليشيات الحوثي. هذا الحشد استطاعت السعودية أن تدعمه بقرار دولي من مجلس الأمن ليحول هذا الحشد إلى واقع فعلي يمارس نشاطه على الأرض دون أن يتنبه أحد قبل ليلة واحدة من بدء الحرب. وهو ما جعل الشعب السعودي يصف هذه المرحلة السياسية بمرحلة الحزم والعزم كدلالة شعبية على ثقتها بالقيادة والاطمئنان لهذه القدرات.
خامسًا: مهارة المفاوضات والقدرة على استغلال التغيرات السياسية للمصلحة الوطنية. هذه القدرة تحتاج إلى الدهاء السياسي الذي يمكن قراءته في زيارة محمد بن سلمان الأخيرة إلى واشنطن وقلب كل التوقعات في إعادة تحالفات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة إلى وضعها الطبيعي. هنا يبدو أن السعوديين ومعهم ابن سلمان تنبهوا لشخصية الرئيس الجديد، ليعملوا بعد ذلك على بناء تقاطع المصالح والرغبات. وهو ما قطع الطريق على محور الشر في المنطقة وجنبنا الكثير من التبعات التي كاد أن يحدثها أوباما في نهاية عهده. هذه الاستراتيجية استكملتها السعودية مع واشنطن في الرياض في ثلاث قمم ثنائية وإقليمية حشدت لها خمسين دولة، اختتمت بمجموعة من المشاريع التنموية والاقتصادية والأمنية التي تصب في مصلحة جميع الأطراف المشاركة.
هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن يكون تنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد، متماشيًا مع رؤية الملك والأسرة المالكة (ممثلة في هيئة البيعة) لتحقيق المصلحة الغائية الكبرى.. مصلحة وطن وشعب بايعه في الدقيقة التالية للقرار.
أكاديمي متخصص في الإنتاج التلفزيوني والوثائقي*
@MisferAlmousa
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر