فهل تُحدِث حرب الموصِلات بين الولايات المتحدة والصين قطيعة بين المعسكرين الشرقي والغربي؟ أم أن هناك حدودا للتنافس يجب التوقف عندها؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة أن تستغني عن استيراد العناصر المهمة الداخلة في صناعة الموصِلات وغيرها من الصناعات المهمة، من الصين، التي تهيمن على إنتاجها وصناعتها؟ وهل تتمكن الصين فعلا من الاستغناء عن التقنية الأميركية والغربية المتطورة، أو الأسواق الغربية الثرية التي ساهمت في صعودها وتطورها؟
القضية بالنسبة للولايات المتحدة هي قضية أمن قومي، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، إهمالها أو تركها للزمن، لذلك أقدم الكونغرس على سن قانون الموصِلات لعام 2022، الذي شرَّع تقديم محفزات مالية بقيمة 50 مليار دولار، للشركات الأميركية التي تستثمر في قطّاع الموصِلات خلال السنوات الخمس المقبلة، بل بإمكان المؤسسات والشركات الغربية الحليفة أن تستفيد أيضا من هذه المحفزات المالية والتسهيلات الضريبية، خصوصا أستراليا، التي حصلت شركاتها العاملة في إنتاج عناصر الأرض النادرة، التي تدخل في صناعة الموصِلات، على تمويل أمريكي بموجب هذا القانون.
أما بالنسبة للصين فإن القضية تتعلق بالتنمية الاقتصادية والتقدم التكنولوجي، ومستقبل الصين الاقتصادي وموقعها في العالم. الصين تعتمد على التكنولوجيا الأميركية المتطورة في صناعاتها، وتعتمد أيضا على الأسواق الأميركية والغربية في تصريف منتجاتها، وتعظيم ثروتها وتوسيع نفوذها في العالم، الذي بدأ يزاحم النفوذ الأمريكي.
ومن هنا شعرت الولايات المتحدة، والدول الحليفة لها، بأنها تساعد منافسا مناهضا لها، يتوسع على حسابها، بل يصطف مع أعدائها، والمثال هنا هو ما يعتقده الأميركيون، والغربيون عموما، بأن الصين اصطفت مع روسيا في غزوها أوكرانيا وتهديدها أوروبا، رغم أنها، رسميا على الأقل، تقف على الحِياد، لكنها فعليا تساعد روسيا، عبر التعامل معها تجاريا واستيراد الطاقة منها، وعدم إدانة غزوها أوكرانيا، بل عقدت معها “صداقة بلا حدود” قبيل الغزو، الأمر الذي شجّع القيادة الروسية على غزو أوكرانيا.
وتأتي أهمية الموصِلات، بالنسبة للولايات المتحدة، من أنها تدخل في تكوين الصناعات المتطورة، بما فيها الأسلحة الحديثة والأنظمة العسكرية، كالرادار والصواريخ والطائرات المقاتلة والأقمار الصناعية والآليات المدرعة والطائرات المسيَّرة وأنظمة الاتصالات. لذلك لن تستطيع الولايات المتحدة أن تدافع عن مصالحها، وعن حلفائها في العالم، إن لم تتوفر لها إمداداتٌ وفيرة للموصِلات، ونفاذٌ سهلٌ إليها، يمكنها الاعتماد عليه عند الحاجة.
وكانت الولايات المتحدة، حتى تسعينيات القرن الماضي، تنتج 37% من الموصِلات في العالم، لكن هذه النسبة تدنت الآن إلى 12%، وفق البيانات التي نشرتها جمعية صناعة الموصلات، (SIA)، والسبب هو الاستثمارات الهائلة للدول الأخرى في هذا القطاع، وتركيز الولايات المتحدة على التصميم والتطوير، وصناعة المكائن التي تنتج الموصِلات، واعتمادها على تايوان وكوريا الجنوبية في توفير حاجتها من الموصِلات. مثل هذا الاعتماد صار مخاطرة أمنية، حسب خبراء، بسبب التهديدات العسكرية الصينية لتايوان، وسعي الصين للهيمنة على منطقة جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، بل حتى غرب آسيا والشرق الأوسط.
وعلى الرغم من السعي الحثيث لإدارة الرئيس بايدن للتوسع في صناعة الموصِلات بكل أنواعها، إلا أن هناك معوقاتٍ عمليةً لهذا التوسع، بالسرعة التي ترغب بها الإدارة. وأهم هذه المعوقات عدم توفر العدد الكافي من الأيدي العاملة الماهرة، خصوصا مع القيود المفروضة على الهجرة، بل هناك تهديدات جمهورية بإلغاء مشروع استقدام المهاجرين كليا.
ويشكل المهاجرون 40% من الأيدي العاملة الماهرة في قطاع الموصِلات حاليا، حسب مجلة الإيكونوميست، لكن التوسع السريع يحتاج إلى خبراء في الكمبيوتر ومهندسين وتقنيين متمرسين، وهؤلاء غير متوفرين حاليا، ولن يتوفروا خلال فترة الخمس سنوات المخصصة للتوسع، لأن عملية الإعداد لتأهيل العاملين في هذا القطاع وتدريبهم، التي بدأت على قدم وساق، تستغرق فترة تمتد بضع سنوات.
الجامعات والمعاهد الأميركية بدأت بإعداد مؤهلات للتخصص في صناعة الموصِلات، بتمويل من الشركات المستفيدة منها، مثل (إنتل). كلية بورتلاند في ولاية أوريغون، مثلا، خصصت مِنحا مجزية للطلاب المنخرطين في دورات تأهيلية سريعة، بلغت 500 دولار أسبوعيا لكل طالب. بينما أنشأت كلية ماريوكوبا، في ولاية أريزونا، دوراتٍ لتخريج العاملين خلال عشرة أيام، واتفقت مع شركة (TSMC) التايوانية على توظيف المتخرجين. لكن هذه المحاولات، رغم أهميتها، لا تبدو كافية، بل ربما قاصرة، لأن من الصعب اكتساب المهارات في صناعة متطورة ومعقدة كالموصِلات، خلال عشرة أيام.
وتقدِّر جمعية صناعة الموصِلات نقص الأيدي العاملة الماهرة في هذا القطاع بـ67 ألف عامل بحلول عام 2030، أما نقص الأيدي العاملة في عموم الولايات المتحدة، فقدرته بـ 1.4 مليون، يقابله 70 ألفا سنويا من خريجي الجامعات في حقل الهندسة، أي أن مجموع المتخرجين سيبلغ 490 ألفا خلال سبع سنوات، وهو ثلث العدد المطلوب في قطاع الصناعة، ما يعني أن الولايات المتحدة ستضطر لاستقدام مهاجرين متمرسين لسد النقص. وفي خلاف ذلك، فإن إرباكا سيحصل في الاقتصاد الأمريكي، وأن مستوى الأجور سوف يرتفع بسبب التنافس، الأمر الذي سيقود إلى رفع معدل التضخم، الذي يسعى البنك الفدرالي لكبحه منذ العام الماضي.
شركة (TSMC) العملاقة، التي أعلنت في العام الماضي أنها سوف تستثمر 40 مليار دولار في الولايات المتحدة في مجال تصنيع الموصِلات، وأن الإنتاج سوف ينطلق عام 2024، أعلنت الشهر الماضي أن موعد بدء الإنتاج سوف يتأخر حتى عام 2025 بسبب نقص الأيدي العاملة الماهرة! وقال المدير العام للشركة، مارك ليو، لمجلة الإيكونوميست إن الشركة تعتزم استقدام خبراء من تايوان لتدريب طاقمها الأمريكي، كي يؤدي عمله بالكفاءة المطلوبة.
أما الصين فقد خصصت ترليون يوان، (أو رنمينبي، وهو الاسم الرسمي للعملة الصينية)، أو ما يعادل 140 مليار دولار، للاستثمار في قطاع الموصِلات، في أكبر تحفيز صناعي تقْدِم عليه الحكومة الصينية حتى الآن، وفق تقرير وكالة رويترز في ديسمبر 2022. وتهدف الاستثمارات الصينية في قطّاع الموصِلات إلى تحقيق الاستقلال الذاتي عن الولايات المتحدة وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان وهولندا، في هذا المجال الحيوي، الذي صار سلاحا جيوسياسيا عالميا، وتعتبره الصين الحجر الأساس لتقدمها التكنولوجي.
وما يعزز قدرة الصين على تصنيع الموصِلات هو امتلاكها للمعادن الداخلة في صناعتها، مثل الغاليوم والجرمانيوم، اللذين حظرت تصديرهما إلى الدول الأخرى مؤخرا. كما تهيمن الصين على إنتاج وتصنيع ومعاملة معادن الأرض النادرة، الضرورية للصناعة الحديثة، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت والغرافيت. لكن محاولات التحالف الغربي لكسر احتكارها هذه المعادن قد بدأت، خصوصا بعد استخدامها هذه الميزة سلاحا للضغط على الدول الغربية.
الخشية الأميركية والغربية من الصين تتصاعد، وهي تتجاوز الفروق الحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين، إذ يوجد اتفاق على هذا الأمر، والفرق بينهما هو في درجة الشدة في التعامل مع الصين. في عهد دونالد ترامب، مثلا، استُهدِفت شركة هواويي (Huawei) الصينية للاتصالات، ومُنعَت من الحصول على الموصِلات المتطورة. لكن الخطأ كان في عدم التشاور مع حلفاء أميركا في أوروبا وآسيا، الأمر الذي دفع الشركات الراغبة بمواصلة التعامل التجاري مع الصين، إلى نقل إنتاجها إلى دول محايدة، لإخفاء المنشأ، ما مكن هواويي من مواصلة عملها، وإن كان بأرباح أقل.
مقاربة إدارة بايدن تختلف عن إدارة ترامب، فهي تعير اهتماما أكبر للتنسيق مع الحلفاء، من أجل أن تكون العقوبات مؤثرة، سواءٌ على الصين أو غيرها. وحسب مجلة الإيكونوميست، فقد كانت هناك فكرة بتشكيل منظمة للدول المصدرة للموصِلات (أوسك)، على غرار الدول المصدرة للنفط (أوبك)! لكن واشنطن ترددت في تأسيس مثل هذه المنظمة لأن وجود دول كثيرة، تتفاوت حصصُها السوقية، يجعل التوصل إلى قرارات فاعلة صعبا، والأفضل أن يكون هناك تنسيق بين الدول الرئيسية المنتجة للمكائن والأدوات المستخدَمة في صناعة الموصِلات، وهي الولايات المتحدة وهولندا واليابان، فالتفاهم بينها أسهل من التجمعات الكبيرة، خصوصا وأن القول الفصل سيكون لواشنطن، في ظل استعداد اليابان للتعاون، إذ كانت أول دولة غربية تنتبه للتهديد الصيني. مع ذلك، يوجد تنسيق لضبط إنتاج وتصدير الموصِلات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي يضم 27 دولة، وهناك أيضا التحالف الرباعي بين الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان (Quad).
لقد صار قطاع الموصِلات في غاية الأهمية عالميا، لأنه يدخل في إنتاج الصناعات المتطورة، ما جعل التنافس بين المعسكرين الغربي والصيني على أشده. إن نجح التحالف الغربي في عزل الصين عن الابتكارات العلمية الغربية، فإن الصين لن تعدمها القدرات على الاعتماد على نفسها على الأمد البعيد، وقد بدأت فعلا في السير في هذا الاتجاه. لا شك أن الصين سوف تتكبد أضرارا اقتصادية كبيرة، في الأمدين القريب والمتوسط، الأمر الذي يحد من سرعة تطورها، لكن التحالف الغربي سيتضرر أيضا من عزل الصين وفقدان أسواقها الهائلة، خصوصا مع استعداد الصين للرد بالمثل.
لم يكن اختلاف الأنظمة السياسية العالمية عائقا أمام التعاون الاقتصادي بالقدر الذي بلغه الآن، إذ صار يؤدي إلى تعميق الهوة الثقافية بين الشعوب، ويجعل من الشك وانعدام الثقة، بديلا للتعاون والتنسيق. وإن كان السلاح النووي رادعا لاندلاعِ حربٍ عالمية مدمرة، فإن ثمن الحرب الاقتصادية باهظ أيضا، لأنها تشتت الجهود وتساهم في جر العالم إلى الوراء، في وقت يدرك الجميع أن التنافس هو الأساس الذي يقوم عليه الابداع والتطور، بينما تؤدي القطيعة إلى التلكؤ والتراجع.
المصدر: skynewsarabia