سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مرح البقاعي
العقوبات الأميركية التي وضعها الرئيس ترمب بشكل تصاعدي بعد انسحابه من الاتفاق الذي أبرمه سلفه باراك أوباما مع طهران، وما تلاه من تهديد واشنطن بقطع الطريق أمام أي شركة تتعاون مع إيران للوصول إلى النظام المصرفي الدولي، نجحت في خنق الاقتصاد الإيراني من خلال لجم التجارة الخارجية والاستثمارات.
حالة الإحباط التي عانى منها الاقتصاد الإيراني دفعت بطهران إلى حضن الصين، التي تمتلك التكنولوجيا وتحتاج للنفط. فإيران واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، لكن صادراتها تراجعت منذ أن بدأت إدارة ترمب بفرض عقوباتها في العام 2018؛ في المقابل، تحصل الصين على حوالي 75 في المئة من نفطها من الخارج وهي أكبر مستورد في العالم بأكثر من 10 ملايين برميل يوميا تمّ تسجيلها في العام الماضي.
وفي الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة من ذيول جائحة كوفيد – 19 ومن التباطؤ الاقتصادي نتيجة لانتشار الفايروس المسبب للمرض، الذي يحلو للرئيس ترمب تسميته بـ”الفايروس الصيني”، تشعر بكين بالضعف الأميركي وتستغل الموقف لتجاهل التهديدات الأميركية والمضي في شراكتها مع إيران.
تُظهر مسودة الاتفاقية الاستراتيجية التي أبرمتها بكين مع طهران مؤخرا أنه، وعلى عكس معظم الدول، تشعر الصين أنها في وضع يسمح لها بتحدّي الولايات المتحدة، بل وأنها قوية بما يكفي لتحمّل وزر العقوبات الأميركية كما فعلت في ذروة الحرب التجارية التي شنّها الرئيس ترمب على التجارة معها. إلا أن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت على لسان المتحدثة الرسمية باسمها أن “الولايات المتحدة ستواصل فرض تكاليف على الشركات الصينية التي تساعد إيران أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم”.
تدرك واشنطن بعمق أنه من شأن اتفاقية الاستثمار والأمن المبرمة بين الصين وإيران أن توسّع نفوذ الحكومة المركزية في بكين إلى حد كبير في الشرق الأوسط، ما يجعل الدماء تجري من جديد في شريان الحياة الاقتصادية لإيران من جهة، بينما يخلق محاور توتر جديدة مع الولايات المتحدة من جهة أخرى. فقد صاغت إيران والصين شراكة اقتصادية وأمنية شاملة من شأنها أن تمهد الطريق لمليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية في الطاقة والقطاعات الحيوية، ما يقوّض جهود إدارة ترمب لعزل الحكومة الإيرانية ومعاقبتها اقتصاديا وسياسيا بسبب طموحاتها النووية العسكرية.
وتشير وثيقة التعاون الصيني الإيراني إلى تعميق التعاون العسكري بين البلدين، ما قد يمنح الصين موطئ قدم في منطقة كانت الشغل الشاغل والمجال الحيوي للولايات المتحدة لعقود خلت. أما بنود الاتفاق العسكري فتدعو إلى تدريبات وتمارين وأبحاث عسكرية مشتركة، وتطوير أسلحة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. والمنطقة حيوية وإستراتيجية بالنسبة لواشنطن ولاسيما أن أسطولها الخامس يقبع في مملكة البحرين على الخليج العربي. كما أن معظم نفط العالم يمر عبر مضيق هرمز حيث ستستثمر الصين في جزيرة جاسك على مدخل الخليح، ما سيمنحها موقعا لا يضاهى في منطقة هي غاية في الحساسية والأهمية بالنسبة للولايات المتحدة.
لقد قامت الصين بالفعل ببناء سلسلة من الموانئ على طول المحيط الهندي، ما أدى إلى ظهور عقد من محطات التزود بالوقود والإمداد من بحر الصين الجنوبي إلى قناة السويس. وفي حين أن الموانئ تجارية بطبيعتها، إلا أنه من المحتمل أن تكون لها قيمة عسكرية في المستقبل، ما سيسمح للبحرية الصينية المتسارعة النمو بتوسيع انتشارها ونفوذها.
تشمل هذه الموانئ هامبانتوتا في سريلانكا وجوادر في باكستان، والتي يتم انتقادها على نطاق واسع باعتبارها موطئ قدم لوجود عسكري محتمل، على الرغم من عدم نشر قوات صينية رسميا فيها حتى الآن. وكانت الصين قد افتتحت أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في العام 2015، بدعوى دعم قواتها المشاركة في العمليات الدولية لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال. هذا التجمّع العسكري الذي بدأ قاعدة لوجستية أصبح الآن أكثر تحصينا، وهو يقع على بعد أميال من القاعدة الأميركية في ذلك البلد.
كما عززت الصين تعاونها العسكري مع إيران منذ بداية العام 2014، وكان آخر مظاهر هذا التعاون في شهر ديسمبر العام 2019، عندما انضمت مدمرة الصواريخ الصينية، شينينغ، إلى مناورة بحرية مع البحرية الروسية والإيرانية في خليج عمان. ونقلت وكالة أنباء الصين الجديدة المملوكة للدولة عن قائد البحرية الإيرانية الأدميرال حسين خانزادي قوله إن التدريبات أظهرت أن “عصر الغزو الأميركي للمنطقة قد انتهى”.
لا ريب أن التجربة الصينية في الاستثمار في دول أفريقية وآسيوية لم تكن ناجحة أو داعية للتفاؤل برفع الإحباط الاقتصادي الذي تعاني منه بعض الدول التي دخلت في علاقات اقتصادية مع الصين كما تأمل إيران، فقد خلّفت الاستثمارات الصينية اقتصادات مثقلة بالديون في الدول التي استثمرت فيها. غير أن المثير لقلق واشنطن أن اقتصادات تلك الدول أصبحت في حالة تبعية لبكين، ما يستدعي تبعيات ممكنة في قطاعات حيوية أخرى عسكرية وأمنية إستراتيجية وبخاصة أن الولايات المتحدة تستشعر الخطر المستقبلي الذي يثيره تركيز بكين على الموانئ التي غدت مفتوحة لاستثماراتها في إيران والتي تمتد على طول ساحل بحر عمان.
من المستبعد أن تقع مواجهات تقليدية مباشرة بين الصين والولايات المتحدة في ظل هذا التوتّر العالي بين البلدين، بالرغم من الظروف التي تحيط به وفي مقدمتها محاولة بكين إنقاذ طهران من الغرق، إلا أن بوادر مواجهات رقمية كبرى بدأت تشق طريقها مع وصول تقنية الاتصالات من “الجيل الخامس” الرقمي إلى أيدي المستهلك العالمي، وتلك المواجهات غير التقليدية هي الأخطر لأنها لا تدور حول المنافسة في عوالم التكنولوجيا، وحسب، بل تتعداها إلى النقاط الساخنة بين البلدين في التجارة والأمن.
وفي الأسابيع المعدودة القليلة قبيل الانتخابات الأميركية لم ينس الرئيس ترمب، رغم انشغاله بحملته الانتخابية، أن يصدر قرارا رئاسيا بمنع منصتي “تيك توك” و”وي تشات” الصينيتين في الولايات المتحدة علما أن 20 مليون أميركي يملكون حسابا على تيك توك فقط.
فصل المقال يكمن في ماهيّة الصراع القادم بين العملاقين الرقمييْن العظيمين الذي يتمحور حول رؤيتين مختلفتين كليا للإنترنت ولطريقة إدارة الشبكة العالمية، الأولى من صياغة الصين والأخرى بصياغة أميركية خاصة، وكل من الطرفين يطمح إلى فرض رؤيته على الآخر وتثبيت نفسه كسيد مطلق في حياكة خيوط الشبكة العنكبوتية وجيلها الخامس الذي سينجح من يديره في السيطرة على مستقبل العالم.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر