سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
الحبيب الأسود
أسخف تمارين العبث السياسي أن تجد نفسك أمام مشهد كل طرف فيه يحاول أن يتذاكى على الطرف الثاني، ليقنعه بأنه قادر على قلب الطاولة عليه، وأن يتم ذلك بين عدد ضئيل من الشخصيات التي لا يهمها أن تكون قد اختطفت إرادة شعب أو أساءت إلى مصالح دولة، ولكنها تفكّر بالأساس في مصالحها الخاصة والفئوية، وتستفيد من غطاء دولي وفّرته آليات قريبة من لعبة شد الحبال يديرها أشخاص يبدون على وشك فقد عقولهم من وطأة ما يصادفهم يوميا من مستجدات صادمة وغير منتظرة.
عندما خرج وفدا مجلس النواب ومجلس الدولة الليبيين إلى وسائل الإعلام قبل أيام في العاصمة المغربية الرباط ليؤكدا أن البلاد تتجه إلى انتخابات برلمانية ورئاسية في الرابع والعشرين من ديسمبر، وأن على الشعب أن يستعد لهذا العرس الديمقراطي، رحب العالم بذلك، وقال أكثر المراقبين تشاؤما: يبدو أننا أخطأنا تقدير الأمور، وأن علينا أن نتفاءل خيرا، كنّا نعتقد أن أعضاء الوفد سيتصارعون في ردهات الفندق الضخم الذي اجتمعوا فيه لا أن يخرجوا علينا والبسمات تعلو وجوههم وأخبار التوافق تخرج من أفواههم لتعصف بجميع الأحكام المسبقة.
الحقيقة، أن التوافق لم يحصل في الرباط لأن الوفدين لم يتطرقا أصلا للقضايا الخلافية، والسبب أن السفير الأميركي المبعوث الخاص لبلاده في ليبيا ريتشارد نورلاند كان حاضرا هناك، وعندما تحضر الولايات المتحدة، يتظاهر كل طرف بأنه لا يقبل أن يلوي العصا في يدها.
بعد يومين، كان المئات من ميليشيات “بركان الغضب” الموالية لحكومة عبدالحميد الدبيبة، قد خرجت في مظاهرة بمطار طرابلس الدولي الذي تم تخريبه وحرقه وإخراجه عن الخدمة في العام 2014، ثم أصدرت بيانا أعلنت فيه أنها لن تسمح أبدا بانتخابات رئاسية يترشح لها قائد الجيش (المتخلي مؤقتا عن منصبه) خليفة حفتر أو سيف الإسلام القذافي، وهددت بأن في حال حصول ذلك ستغلق صناديق الاقتراع، وهي قادرة طبعا، فغرب البلاد لا يزال إلى اليوم تحت رحمة الميليشيات.
لم يأت أصحاب البيان بشيء من عندهم، فالإخوان وحلفاؤهم وأمراء الحرب ممن يعتبرون أنفسهم مؤتمنين على ثورة فبراير، وبعض الزعامات الجهوية في مصراتة، ولوبيات الفساد، ومن يدورون في فلك الحكومة والمجلس الرئاسي لديهم نفس القناعات، وهناك من يشترطون تنظيم الانتخابات على مقاس مصالحهم وتحالفاتهم الداخلية والخارجية، ويرون أن انتخابات يترشح لها حفتر وسيف الإسلام لا يمكن أن تمرّ، حتى أن مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، قال في حديثه عن نتائج زيارته إلى طرابلس قبل أيام، إن المجلس الرئاسي والحكومة مترددان في ما يتعلق بانتخابات ديسمبر، والرئيس محمد المنفي أشار إلى مبادرة سيطرحها في مؤتمر استقرار ليبيا في الحادي والعشرين من أكتوبر الجاري تقضي بأن يتنازل بعض الأفراد المثيرين للجدل عن حقهم في الترشح، وقال مجلس الدولة إنه لن يقبل تنظيم الرئاسيات وفق قانون انتخاب الرئيس الصادر في التاسع من سبتمبر الماضي عن مجلس النواب، وبدأت تحركات لإعادة تنشيط الدائرة الدستورية لنقض أحكام القانون، في حين كانت هناك مؤشرات من أطراف أخرى على أن يتم الضغط بقوة من أجل التوصل قبل نهاية أكتوبر إلى قرار بتأجيل الانتخابات الرئاسية والاكتفاء بالانتخابات البرلمانية.
في اليوم الموالي لمسيرة “بركان الغضب”، عقد مجلس النواب جلسته التي أقرّ فيها قانون الانتخابات البرلمانية، وكان من بين بنوده تأجيل تلك الانتخابات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية بثلاثين يوما، على أن تتزامن مع الدور الثاني للرئاسيات في حال الاضطرار إلى تنظيمها إذا لم يفز أحد المترشحين بالأغلبية المطلقة في الدور الأول، وهذا يعني ببساطة أن تأجيل الانتخابات الرئاسية أو عدم توفير المناخ الملائم لتنظيمها سيقابل بالحيلولة دون تنظيم الانتخابات التشريعية، وبقاء الوضع على ما هو عليه إلى أجل غير مسمى، وبالتالي فإن على من ينوون عرقلة انتخاب الرئيس في الغرب أن يتقبلوا عرقلة انتخاب البرلمان من الشرق.
ولا تتوقف التجاذبات عند هذا الحد، فرئيس الحكومة الذي يعمل من أجل تكريس شعبيته وكأنه سيترشح للرئاسيات أو أنه سيبقى في الحكم إلى ما لا نهاية، كان قد فتح خزائن الدولة لتزويج الشباب بمنح كل شاب مقبل على إتمام مراسم الزفاف مبلغ أربعين ألف دينار (حوالي 8800 دولار أميركي)، وعندما قرر مجلس النواب حجب الثقة عن الحكومة، قيل إنه لا يريد السعادة والهناء والبهجة والرخاء للشباب، وخرج أبناء الفئات الفقيرة والمحرومة ليعلنوا مساندتهم للدبيبة ولرفع لافتات التنديد بعقيلة صالح ومجلسه، وبالطبع لم يسكت البرلمان عن ذلك، وإنما رفع السقف عاليا، وأقرّ بأغلبية الأصوات قانونا يفرض على الحكومة صرف مبلغ خمسين ألف دينار (حوالي 11 ألف دولار) لكل أسرة ليبية، فإذا اعتبرنا أن هناك مليونا و500 ألف أسرة، فعلى الحكومة أن تصرف حوالي 16 مليار دولار أميركي، وما على الدبيبة إلا أن يستجيب حتى لا يقال إنه ضد سعادة الجماهير المحرومة من ثروة بلادها الطائلة، وما على محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير إلا أن ينفذ الأمر، ولاسيما أنه بات جزءا من المشهد السياسي العام الدائر في فلك رئيس الحكومة والإخوان.
وبينما يضحك عقيلة صالح في مجلسه بالقبة، سعيدا بتوريط الحكومة وعبثه بمجلس الدولة والإخوان، يدعو رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عماد السايح إلى اجتماع عاجل، أكد خلاله على ضرورة صياغة إطار قانوني ودستوري للعملية الانتخابية المقبلة، يتوافق عليه الجميع، حتى يساهم في إقامة انتخابات حرة، وتقبل بنتائجها كل الأطراف المشاركة في العملية السياسية، وهو ما يعني أن المنفي غير راض على القانونين الصادرين عن مجلس النواب بخصوص الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويبحث عن أفضل وسيلة للإطاحة بهما وتعويضهما بقاعدة جديدة.
والسيد المنفي الذي يحيط نفسه بعدد من الموهوبين في فن الإشارة والاستشارة، والمقربين من الإخوان وممن كانت لهم دورات تدريبية في تركيا، كان قد وعد بمبادرة يطرحها قريبا، وقد تتضمن انقلابا تاما على البرلمان قد تصل إلى حله، وإيجاد الإطار القانوني والدستوري للانتخابات من خلال مرسوم رئاسي يلغي ما سبق إقراره، وفي هذه الحالة على المجتمع الدولي أن يبدأ العمل بجدية من أجل تحديد موعد جديد للانتخابات قد يكون في ديسمبر 2021.
إنه العبث السياسي في أعتى تجلياته ليس فقط عندما يرغب هذا الطرف أو ذاك في إقصاء الطرف المقابل، ولكن عندما يحسب أنه الأذكى والأقدر على خيوط اللعبة حتى وإن أدى ذلك إلى خنق شعب بكامله ومنعه من تنفس هواء الأمل والتفاؤل بعد عشر سنوات من الدمار والخراب.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر