سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
منيرة الغدير
سأبدأ هذا المقال بالتأكيد على أن العلاقة بين السعودية وأميركا، لن تحقق استدامة أهدافها التي رسمتها السياسة الخارجية، إن لم يكن للسعودية استراتيجية واضحة في الديبلوماسية الثقافية، وبُعد جاذب للتأثير على الرأي العام الأميركي الذي يكاد لا يعرف شيئًا إيجابيًا عن مجتمعها عدا الشذرات العابرة والمرتكزة على تمثيلات نمطية واستشرافية، وبخاصة في الإعلام الأميركي، ويقتصر الاطلاع ومتابعة تطورات العلاقة بين البلدين على المهتمين بقضايا الشرق الأوسط.
بالطبع، توجد أسباب جوهرية لغياب التأثير على الرأي العام الأميركي، وذلك لندرة المحتوى الثقافي، والحضور الإنساني للمجتمع السعودي، والمراكز والبرامج التي توظف الديبلوماسية الثقافية وأدوات القوة الناعمة الجاذبة؛ ليتم تأسيس بنية لتبادل الأفكار والقيم وأنسنة السياسة. إن القدرة على الإبهار وإقناع الرأي العام، تحدث من خلال استعراض فسيفساء الثقافة: اللغة، والآداب، والفن، وكل ما يثير الفضول المعرفي لدى الإنسان الأميركي، سواء كان يقطن مدينة كبيرة، أم في بلدة في وسط أميركا المحافظ في عزلته. وقد أثبتت تجارب الدول الأوروبية تفوقًا في الديبلوماسية الثقافية، حيث بدأت السبق بريطانيا بإنشاء “المجلس الثقافي البريطاني” عام١٩٣٤م، وله فروع في ١٠٠ دولة. وأميركا بدأت أنشطتها في هذا المجال في ١٩٣٨م، ونعرف تأثير ثقافتها الشعبية في مدن العالم وأزقتها الفقيرة. ومن منا لم يأسره الانبهار والإعجاب بالثقافة الفرنسية التي تم نشرها عبر مؤسسات كثيرة تُعنى باللغة والفن والتبادل الثقافي. حتى إن بلدًا مثل ألمانيا عانت سلبية الصور التي ارتبطت بها بعد العنف النازي، فقامت بإنشاء “معهد جوته” في ١٩٥١م لتعليم الألمانية وتشجيع التبادل الثقافي، وها هي فروعه تتجاوز ١٥٩ معهدًا في العالم، أحدها هنا في الرياض. أيضًا حذت اليابان حذوها بعد تعرض صورتها لخسارة معنوية مع هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فأنشأت “مؤسسة اليابان” في عام ١٩٧٢ التي أصبح لها ٢٤ فرعًا في ٢٣ دولة، وتهدف إلى نشر الثقافة والفنون وتعليم اللغة اليابانية والتبادل الثقافي. كل هذه الدول حققت نتائج فعالة في التأثير على الرأي العام، لأن النتيجة الطبيعية بعد التعرف على الجوانب الثقافية والحضارية لمجتمع ما، هي انبثاق الصور الإيجابية والإقناع من خلال الجذب وليس الإكراه، وامتلاك المصداقية والاحترام بعيدًا عن الاختلافات الجارحة. والذي يميز كل هذه التجارب، هو بُعدها عن السياسية الخارجية لهذه الدول، وهذه المسافة مهمة للغاية لتحقيق أهداف هذه البرامج الثقافية وخلق العلاقات الطيبة.
وفي هذا السياق، أستدعي تعريف ميلتون كامينجز للديبلوماسية الثقافية بأنها “تبادل الأفكار والمعلومات والفن والجوانب الأخرى للثقافة بين الأمم وشعوبها من أجل تعزيز التفاهم المتبادل.” بل إنها الملاذ المفضل للحكومات، وقد التقط هذه الفكرة عنوان كتاب ريتشار أرندت (الملاذ الأول للملوك: الديبلوماسية الثقافية الأميركية في القرن العشرين) الذي أشار فيه إلى نتائج دراسة استقصائية بشأن أهمية الديبلوماسية الثقافية، التي أكدت فعاليتها، وبخاصة فيما يتعلق بالتكلفة والتأثير، كما أشارت إليه نتائج الدراسة وتوصلت إلى آثار إيجابية على العلاقات الدولية بين الدول.
وحين ندلف إلى الحديث عن العلاقات السعودية الأميركية، نجد أمامنا أسئلة تطرح نفسها:
لماذا تتغير بشكل دراماتيكي مسيرة وطبيعة العلاقات السعودية الأميركية الطويلة ما بين غمضة عين رئيس وأخرى؟ وما هي أسباب تحول العلاقة بين الطرفين من شريك استراتيجي إلى مجرد أحد الأقطاب الخمسة في الشرق الأوسط، وبخاصة في الفترة الرئاسية لبراك أوباما والموسومة بالتصدعات والفشل وبخاصة من وجهة نظر الديبلوماسية العربية؟
الكثير من السياسيين والإعلاميين في أميركا – تحديدًا – يعتقدون أن العلاقة بين السعودية وأميركا، تعتمد بشكل كلي على البترول وبيع الأسلحة، أي أنها اقتصادية بحتة. لكن التحولات التي طرأت على هذه العلاقة السبعينية، تكشف أبعادًا جيوسياسية أخرى، بعضها واضح للمتخصصين في العلاقات الدولية والشرق الأوسط، وبعضها معقد وغامض بسبب تغيرات السياسة الأميركية في المنطقة. لقد أريق حبر غامق في محاولة البحث في خبايا ومبررات هذه العلاقة ما بين البلدين، ونشرت كتب وأبحاث ورسائل دكتوراه، بالإضافة إلى المقالات الصحفية التي تزيد مع أي تغير يطرأ على مناخ هذه العلاقة. وأي مهتم بسياسة الشرق الأوسط، يلاحظ أننا في السعودية وفي العالم العربي نضع كل الملفات على مكتب رئيس واحد، وحين يأتي مرشح جديد وحقبة جديدة، تتبعثر هذه الملفات لنبدأ في صياغة السياسية الخارجية وأولوياتها في ظل تحول العلاقات الخارجية لواشنطن. والسبب باختصار، عدم توظيف الثقافة في الديبلوماسية الخارجية، والالتفات لجذب الطرف الآخر عبر أدوات القوة الناعمة.
وعلى سبيل المثال، تغير مصير العلاقات السعودية والأميركية، توضحه فترة رئاسة أوباما الذي كان يرى أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، فلذلك وضع خطة للشرق الأوسط تتركز على خمس قوى: مصر، والسعودية، وتركيا، وإيران، وإسرائيل، ولكنه فشل في خلق التوازن، ما زاد في التوتر وتسابق المحللون والخبراء في نقاش ورصد التنبؤات لمصير العلاقات السعودية الأميركية التي وصفت “بالمتوترة”، “المعقدة”، “الطلاق الطويل”… إلخ؛ مما جعلها تثير المزيد من التساؤلات عن استمراريتها وجدواها. ولخص هذا أحد الإعلاميين حين وجه سؤالاً مباشرًا لبارك أوباما:
ماذا تفعل عندما يتضح بشكل متزايد، أن أحد شركاء الشرق الأوسط منذ فترة طويلة لا يتقاسمون قيمكم، أو العديد من اهتماماتكم؟
هذا السؤال مهم للغاية، لأنه يكشف عدم التوظيف المكثف للدبلوماسية الثقافية السعودية التي من شأنها تقريب وجهات النظر وردم الهوة الثقافية وإلقاء الضوء على الأهداف المشتركة بين المجتمعات. إن ضعف أو غياب هذه الديبلوماسية، يشكل خطورة على المدى الطويل، لأن الفضاء مهيأ لخلق تمثيلات وتصورات عن المجتمع السعودي تزيد في إغراقه في الغرابة والغموض، مما يبعث القلق، ويرسخ فرضية أنه مخترق من أيديولوجيات متطرفة تصطدم مع القيم الغربية كما يتردد في الخطاب الإعلامي الأميركي. إن غياب البعد الثقافي والإنساني، عزَّز فكرة “صدام الحضارات”، وكثَّف الاعتقاد بصعوبة التبادل والحوار بين الثقافتين والمجتمعين، لأن اختلافاتهما الثقافية والدينية تجعلهما لا يلتقيان.
ولقد كان واضحًا بعد فوز الرئيس الحالي للولايات المتحدة، دونالد ترمب، ظهور تحولات في سياسة أميركا الخارجية، لأنها ابتعدت عن مفهوم العلاقات الخارجية الواقعية التي أرادها أوباما، واتجهت لمسار السياسية الأميركية البيروقراطية كما أطلق عليها عدد من المحللين الأميركيين. وجاء مع الرئيس الأميركي ترمب إلى البيت الأبيض، جناح أيديولوجي يتبناه عضو مجلس الأمن السابق، ستيف بانون الذي يعتقد أن الخطر القادم على أميركا والعالم، يتمثل في الإسلام الراديكالي. هنا تغيرت العلاقة بسبب نظرة ترمب للمشهد السياسي في الشرق الأوسط، وتحولت القضية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى مهمة تخليص المنطقة من هذا الشبح المتطرف والمتمسك بتلابيب أيديولوجية دينية عنيفة كـ(داعش) وبقايا القاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى.
ويظن هذا الجناح الجديد في البيت الأبيض، أن هذه الاستراتيجية سيكون لها تأثير على الرأي العام الأميركي الذي سئم من ثنائية الصراع بين فلسطين وإسرائيل المزمنة. وجاءت زيارة الرئيس ترمب للرياض لتتوج هذا التغيير.
على الرغم من هذه التغيرات في السياسة الأميركية الخارجية، إلا أننا في المأزق نفسه، أي أن العلاقة اختزلت في ظرف سياسي تحكمه اتفاقيات معينة سيختفي بعضها مع تغير الرئيس الحالي برئيس جديد، ومن ثم تبدأ الديبلوماسية السعودية في العمل مرة أخرى، وكأن ما كان لم يكن، وبخاصة أن الديبلوماسية الثقافية لم تُفعل لكي يتم إنشاء أسس راسخة لبلورة هذه العلاقة واستدامتها بعد غرس المصداقية من خلال التبادل الثقافي لتحقيق المصلحة الوطنية على المدى الأبعد.
ما هي التطورات التي تنتظر العلاقات السعودية الأمريكية بناء على التحولات الجديدة وماهو مستقبل الثقافة داخل الدبلوماسية الخارجية للسعودية؟ وهل سيتم إنشاء مؤسسات لها وتوظيف الدبلوماسية السيبرانية؟
أكاديمية سعودية قامت بالتدريس في جامعة كولومبيا وجامعة هارفارد*
@arabia77
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر