سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
سارة عبد العزيز
شهد العالم خلال العام المنقضي تطورات متسارعة لجائحة تعد هي الأسوأ، ليس فقط بسبب ما حصدته من أرواح، وإنما أيضاً نتيجة لما تسببت فيه من تكبد العديد من الدول والقطاعات الاقتصادية خسائر فادحة وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمي. وفي حين تستعد الولايات المتحدة الأمريكية خلال الشهر الجاري لتنصيب الرئيس رقم (46) في تاريخها، فإن التحدي الاقتصادي يعد في مقدمة أولويات أجندة عمل الرئيس القادم، خاصة في ظل اشتداد الموجة الثانية من الجائحة، وما قد يرتبط بها من تحديات قد تعمق من تداعيات الموجة الأولى.
وفي ظل التحديات التي قد يواجهها الرئيس القادم، فإن التساؤلات ما زالت تُطرح حول وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهل سيمكن الاحتفاظ بذلك الوضع خلال السنوات القادمة، حيث قام “أليكس أنتز”، وهو محلل سابق في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، بإعداد مقال تحليلي حول تنافسية وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية، وحجم المكاسب التي تحققها الولايات المتحدة من ذلك الوضع والمخاطر المرتهنة بها. وقد خلُص الكاتب إلى مجموعة من الإجراءات التي يمكن اتّباعها لتحسين والحفاظ على وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية في ظل المنافسة التي تواجهها من بعض العملات الأخرى الوطنية والافتراضية.
الوضع الحالي للدولار
بعد ما يقرب من 50 عاماً من إنهاء الولايات المتحدة لنظام “بريتون وودز”، لا يزال الدولار هو العملة المهيمنة في العالم. ففي وقتنا الحالي، يتم استخدام الدولار فيما يقرب من (85٪) من جميع معاملات الصرف الأجنبي. كما أن ما يقرب من ثلثي جميع الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك المركزية هي بالدولار. ويشير تعريف العملات الاحتياطية العالمية إلى أنها تلك العملات التي تهيمن على سلة العملات الأخرى التي تشكل احتياطيات البنوك المركزية من العملات الأجنبية، وتستخدم على نطاق واسع خارج بلدانها الأصلية في المعاملات المادية، وكذلك من قبل الأسواق المالية الدولية في العقود والتداولات والأدوات المالية. كما يربط عدد كبير من الدول أسعار صرف عملاتها بتلك العملات الاحتياطية العالمية.
ومنذ بداية التجارة والتمويل الدوليين، كانت هناك ثلاث عملات احتياطية عالمية، وهي: الجيلدر الهولندي الذي ساد خلال الفترة من القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، والجنيه الإسترليني البريطاني الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم الدولار الأمريكي الذي اكتسب الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية.
مزايا العملات الاحتياطية العالمية
يتيح احتفاظ الدولار بمكانته كعملة احتياطية على المستوى العالمي مزيجاً من المزايا والمخاطر، فمنذ عام 1945 أضحى الدولار هو العملة العالمية المهيمنة بلا منازع على نظام التجارة العالمي. وبشكل عام، يطرح ذلك الوضع مجموعة من المزايا من أهمها:
أولا- تعزيز الموقف المالي للولايات المتحدة الأمريكية: حيث تسعى البنوك المركزية في دول العالم، خاصة تلك الموجودة في الدول النامية، إلى الاحتفاظ بأصول مقومة بالدولار يمكن بيعها بسهولة من أجل شراء عملاتها، ودعم اقتصاداتها في أوقات الأزمات. ونتيجة لذلك، فإن معظم احتياطيات العملات الأجنبية التي تحتفظ بها البنوك المركزية غير الأمريكية هي بالدولار. وتخلق هذه المشتريات الضخمة طلباً هائلاً على سندات الخزانة الأمريكية، مما يرفع من أسعارها، ويضع ضغطاً على أسعار الفائدة الأمريكية. وفي الوقت ذاته، تستفيد الولايات المتحدة من عائدات السندات غير المحدودة بفضل الاستخدام الأجنبي المكثف للدولار في معاملات العملات التقليدية.
وبناءً عليه، فإنه في حال طرح عملة أخرى محل الدولار فسيؤدي ذلك إلى تقليل الطلب على الدين الأمريكي الخاص والحكومي من خلال تشجيع المستثمرين على شراء الأصول المقومة بعملة أخرى، مما يؤدي إلى ارتفاع مدفوعات الفائدة الأمريكية على الديون، والإضرار بالوضع المالي الأمريكي.
ثانيا: حائط صد لحماية الاقتصاد الأمريكي: يحمي تفوق الدولار الاقتصاد الأمريكي من الصدمات الناشئة في الخارج. فبغض النظر عن حالة الاقتصاد العالمي، يُنظر إلى الدولار على أنه استثمار جذاب. فعندما يكون الاقتصاد الأمريكي قوياً، يضخ المستثمرون الأموال في السوق الأمريكية، مما يزيد من الطلب على الدولار ويعزز وضع العملة. بل إنه عندما يكون الاقتصاد العالمي ضعيفاً أو كانت توقعاته غير مؤكدة، يدفع المستثمرون الأموال أيضاً للسوق الأمريكية، مما يؤدي بالمثل إلى ارتفاع قيمة الدولار. فالوضع القوي للدولار يعزل المستهلكين في الولايات المتحدة عن تقلبات الأسواق العالمية، ويحمي مستوى معيشتهم. فمع بداية جائحة (كوفيد-19) ارتفع الدولار بنسبة (8٪) حتى مع انهيار العملات الرئيسية الأخرى.
ثالثا- تحسين القدرة التنافسية للشركات الأمريكية: يعمل تفوق الدولار -على صعيد آخر- على تحسين القدرة التنافسية للشركات الأمريكية، حيث إن الشركات الأمريكية لا تحتاج عادةً إلى التحوط ضد تحركات أسعار الصرف. وينطبق هذا بشكل خاص على الشركات التي تصدر الديون بالدولار، حيث لا تواجه المشاكل الخاصة بعدم تطابق العملة.
رابعا- أداة لممارسة النفوذ العالمي: بالإضافة إلى كل ما سبق، تعد هيمنة الدولار أداة قوية لممارسة النفوذ العالمي، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في المؤسسات المالية متعددة الأطراف التي تشرف على النظام المالي العالمي، حيث مثلت هذه المؤسسات، ولا سيما صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي، قنوات لممارسة نفوذ الولايات المتحدة، من خلال النظام القائم على القواعد ضد المنافسين الأكثر استبداداً، وفي مقدمتهم الصين. وبشكل عام، تساعد الهيمنة الدولارية والأهمية المصاحبة للنظام المالي الأمريكي على ضمان بقاء الولايات المتحدة صوتاً مهيمناً في الشؤون العالمية.
خامسا- شن الحروب الاقتصادية: تقترن هيمنة الدولار بقدرة الولايات المتحدة على شن الحروب الاقتصادية. ففي الوقت الحالي، تُدير وزارة الخزانة الأمريكية أكثر من (30) نظاماً للعقوبات، والتي تستهدف مجموعة من الدول في مقدمتها كوريا الشمالية وإيران وبوروندي. وتحجب برامج العقوبات الأصول الخاصة بالأفراد والكيانات المحظورة، كما تخضع الشركات والبنوك التي تتعامل مع كيان محظور لغرامات ضخمة، مما يحفزها على تجنب التعامل معها. وفي الوقت نفسه، تمنع الكيانات الأجنبية التي تتعامل مع الكيانات المحظورة من الوصول إلى النظام المالي الأمريكي.
وفي حقيقة الأمر فإنه إذا فقد الدولار مكانته كعملة مهيمنة، فإنه سيفقد هذه المزايا السابقة، لكن وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية قد يجلب مخاطر كبيرة، حيث يخلق وضع العملة الاحتياطية العالمية توجهاً نحو زيادة الديون، الخاصة والعامة، والتي قد تؤدي إلى فقاعات الائتمان. فقد أدى الازدهار في الائتمان الذي غذى فقاعة العقارات في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أسوأ ركود منذ 80 عاماً. ومع انتشار الجائحة مؤخراً، اضطرت العديد من البنوك المركزية إلى خفض قيمة عملاتها، وهو ما جعل سداد الديون الحالية المقومة بالدولار أكثر صعوبة. ومن ثم، فإنه من المتوقع أن تواجه أكثر من (11) دولة أزمات ديون في غضون السنوات الخمس القادمة.
العملات المنافسة للدولار
في الوقت الذي سيطر فيه على العقلية الأمريكية تصور بأن الين الياباني قد يكون هو أكثر العملات المرشحة لمنافسة الدولار الأمريكي عقب إلغاء نظام “بريتون وودز”، وذلك بصورة كبيرة خلال فترتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبصورة أقل في أوائل التسعينيات، حيث اعتقد أكثر من ربع الأمريكيين أن اليابان هي أقوى قوة اقتصادية في العالم، وكان أكثر من نصفهم يرون أن هذه القوة الاقتصادية تمثل تهديداً كبيراً للولايات المتحدة من المعسكر السوفيتي. إلا أنه بعد انفجار فقاعة الأسهم والعقارات في أوائل التسعينيات، تباطأ النمو الياباني، وانهار التضخم إلى الصفر تقريباً، ومن ثمّ تراجع الاعتقاد بمنافسة الين للدولار لصالح مجموعة من العملات الأخرى من أهمها:
أولا- العملة الأوروبية (اليورو): أضحى اليورو (وهو العملة المدعومة من البنك المركزي الأوروبي، والذي تم طرحه في عام 1999) على مدى العقدين الماضيين، هو العملة الأكثر منافسة للدولار، حيث يتم الاحتفاظ حالياً بحوالي (20٪) من الاحتياطيات العالمية باليورو (ثاني أكبر حصة من الاحتياطيات).
لكن قدرة اليورو على الهيمنة تقوضها عدة مشاكل رئيسية: الأولى هي أن اليورو عملة شاملة يتم تداولها عبر اقتصادات (19) دولة لا تشترك في سوق أصول مشترك، ومن ثم فإنه لكي تتطور عملة احتياطي عالمي يحتاج المستثمرون إلى أن يكونوا قادرين على وضع أموالهم في أسواق عميقة وسائلة، ولا يوجد سوى القليل من هذه الأسواق في منطقة اليورو.
على صعيد آخر، يواجه اليورو أيضاً نمواً ضعيفاً، وفي ظل ضعف التوقعات في السنوات القادمة فإن المستثمرين قد يتراجعون عن وضع أموالهم في أسواق قد تواجه حالة من التدهور. أما المشكلة الأخيرة في منطقة اليورو فتكمن في سياستها. فبصفتها اتحاداً نقدياً بدون اتحاد مالي، كافحت منطقة اليورو لتعويض فترات الازدهار والانهيار الائتمانية المدمرة. وقد أدى ذلك إلى تباعد واسع في النتائج الاقتصادية، مما أدى إلى تأجيج الاستياء السياسي بين الدول.
وفي حين أدّت الاستجابة الأوروبية لجائحة (كوفيد-19) إلى تشكيل ما يمكن تسميته بالاتحادات المالية بين الدول الأوروبية لإنقاذ اقتصادات الدول المحيطة في أوقات الأزمات، حيث وافق الاتحاد الأوروبي في يوليو على إصدار (750) مليار يورو من الديون المشتركة، لتمويل التحويلات المالية إلى الدول التي تكافح من أجل التعافي من الجائحة. وفي حين يمكن أن تنافس تلك الاتحادات الوضع المالي للولايات المتحدة؛ إلا أن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي أن الدفاعات المتحمسة عن السيادة الوطنية ستفشل الجهود المبذولة لتشكيل اتحاد مالي دائم بين الدول الأوروبية. كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قد يستتبعه خروج دول أخرى مثل إيطاليا. وفي هذه الحالة، لن يجد المستثمرون أماناً في ظل اقتصاديات يخيم عليها الشك.
ثانيا- العملة الصينية (الرنمينبي): يمثل تدويل الرنمينبي عنصراً أساسياً في استراتيجية الصين للخروج من سياسة “الاختباء والمباشرة” التي تهدف إلى إخفاء صعوده، علماً بأن التدويل سيقلل من اعتماد الصين على الولايات المتحدة، ويساعدها على تطوير أسواقها، ويؤسس لطرح شنغهاي كمركز مالي بديل. وفي هذا السياق، دفعت الحكومة الصينية الشركات الخاصة إلى إصدار الفواتير وتسوية الصفقات بالرنمينبي، وطلبت من الشركات الحكومية أن تحذو حذوها، وشجعت البنوك المركزية الأخرى على تبني الرنمينبي. كما ستساعد مبادرة “الحزام والطريق”، والتي تسعى من خلالها إلى استخدام مؤسساتها لتمويل وبناء البنية التحتية فيما يصل إلى (68) دولة، على تدويل الرنمينبي من خلال إنشاء نظام تجاري يدور حول الشركات الصينية.
أما على صعيد التحديات، فإن الصين تواجه بعض العقبات الكبيرة على المدى القصير، فحالياً يتم إجراء (2٪) فقط من المعاملات عبر الحدود باليوان الصيني. فمنذ عام 2015، أوضحت الإجراءات التي اتخذها بنك الشعب الصيني أن القادة السياسيين سيستمرون في السيطرة على قيمة العملة. وبدلاً من الاستمرار في تحرير حساب رأس المال الخاص بها، شددت الصين من ضوابط رأس المال.
ومن ثم فإنه للتنافس بشكل مباشر مع الدولار، يتعين على الصين إنهاء ضوابط رأس المال، وتحرير أسعار الفائدة، والسماح بتعويم اليوان (الوحدة الرئيسية للرنمينبي). إلا أن تنفيذ ما سبق يستلزم تحولاً كبيراً في نموذج التنمية الصيني، والتقليل من سيطرة حزب الشعب الصيني. ومن ثم فإن الأهمية المتزايدة للصين في الأسواق العالمية تجعل اليوان الصيني منافساً طويل الأمد للدولار. ولكن على المدى القريب، ستقتصر رغبة بكين في التركيز على الأسواق المحلية كوسيلة لمتابعة أهدافها الاجتماعية والجيوسياسية الأوسع.
ثالثا- نظام حقوق السحب الخاصة.. صندوق النقد الدولي: يعد من ضمن المنافسين التقليديين لوضع الدولار، وهو أصل احتياطي دولي استحدثه صندوق النقد الدولي، حيث يخصص أصلاً احتياطياً يسمى “حق السحب الخاص” (SDR) للدول الأعضاء، مع قيمة تستند إلى سلة من العملات (حققت الصين نجاحاً رئيسياً في تدويل عملتها عندما قام صندوق النقد الدولي بإدراج اليوان في هذه السلة في عام 2015). وقد تمثل الهدف الأساسي من حقوق السحب الخاصة في أن تكون بمثابة شكل إضافي للسيولة في نظام بريتون وودز القائم على الدولار. وقد قام صندوق النقد الدولي بالصرف من ذلك الاحتياطي منذ إنشائه في أربع مناسبات منذ عام 1970، وذلك على الرغم من دعوات الصين المتكررة لتوسيع استخدام حقوق السحب الخاصة في الثمانينيات والتسعينيات.
رابعا- العملات المشفرة (الافتراضية): ففي ظل رواج الاقتصاد الرقمي، اكتسبت العملات الافتراضية المشفرة المزيد من الاهتمام من جانب المستثمرين عبر التعاملات الرقمية، فقد طرحت شركة فيسبوك عملتها المشفرة الجديدة (Libra) والتي تأمل بأن تصبح الأساس لنظام مالي جديد، لا يسيطر عليه سماسرة السلطة، سواء في وول ستريت أو البنوك المركزية. وتعتمد قيمة (Libra) على قيمة سلة من العملات -مثل حقوق السحب الخاصة- وهي مخصصة للاستخدام الفردي، لا سيما لإرسال الأموال عبر الحدود. كما ستحل هذه الوظيفة الأخيرة محل الأنظمة المكلفة مثل (Western Union) وغيرها.
وقد شجع طرح العملات المشفرة من قبل الشركات بعض الدول على التفكير في إصدار العملات المشفرة كبديل عن النظام المصرفي التقليدي. ففي العام الماضي، قام محافظ بنك إنجلترا “مارك كارني” باقتراح أن تقوم البنوك المركزية بشكل مشترك بإنشاء عملة افتراضية لتكون بمثابة العملة الاحتياطية العالمية كبديل للدولار. وفي حين، يتمتع هذا الخيار بفوائد واضحة للدول التي تشعر بالآثار غير المباشرة للسياسة المالية والنقدية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال الروابط الاقتصادية وروابط أسعار الصرف؛ إلا أنه قد يواجه رفضاً حاسماً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
كيف يمكن الحفاظ على الهيمنة الدولارية؟
يشير الكاتب إلى أنه في حين تتعدد العملات الوطنية والافتراضية التي أضحت تهدد الوضع التنافسي للدولار كعملة احتياطية عالمية؛ إلا أن التهديد الأكبر أصبح يأتي من الداخل نتيجة لسوء الإدارة المالية والنقدية، والتدخلات المتكررة وغير المحسوبة من جانب القادة السياسيين الأمريكيين. وبناء عليه، طرح الكاتب مجموعة من الإجراءات التي يجب على صانعي السياسة التفكير جدياً في العمل عليها لضمان استمرار جني الفوائد المرتبطة بهيمنة الدولار كعملة احتياطية عالمية، ومن أهم تلك الخطوات مايلي:
أولا- تخفيض الديون الوطنية: بلغ حجم الدين الأمريكي بنهاية مارس 2020 أكثر من (23) تريليون دولار، حيث تفاقمت الديون نتيجة لموافقة الكونجرس على توفير أكثر من (3) تريليونات دولار ضمن حزمة التحفيز الاقتصادية لمواجهة تداعيات الجائحة. ومن ثم، فإنه من المتوقع أن يصل حجم الدين أو يتجاوز (100٪) من الناتج المحلي الإجمالي. وفي حين يجادل البعض بأنه لا يوجد ما يبرر القلق بشأن ارتفاع مستوى الديون الأمريكية، لأن الولايات المتحدة تصدر عملتها الخاصة، ويمكنها طباعة ما تحتاجه من النقود؛ إلا أنه -على الجانب الآخر- يشير المتشككون إلى أن ارتفاع مستوى الديون قد يؤدي إلى زيادة رأس المال الأجنبي بفعل وفرة المدخرات العالمية، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض العائدات الأمريكية، وإبقاء أسعار الفائدة منخفضة في المستقبل المنظور، وهو ما حدث بالفعل، حيث انخفضت عائدات الخزانة الأمريكية إلى أدنى مستوياتها بعد الجائحة حتى مع ارتفاع الإنفاق.
ثانيا- خفض عجز الحساب الجاري: قد يكون من الأجدى لصناع السياسة الأمريكية العمل على خفض عجز الحساب الجاري، حيث إن ذلك العجز قد يؤدي إلى إغراق العالم بالكثير من الدولارات، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار. وقد طرح الكاتب عدة خيارات يمكن اللجوء إليها لتضييق ذلك العجز، والحفاظ على هيمنة الدولار على المدى الطويل، ومنها خفض حجم الإنفاق والاقتراض الحكومي، والذي من المتوقع أن يؤدي إلى تحسين الوضع المالي والميزان التجاري للولايات المتحدة، وكذلك تعزيز معدل الادخار الأمريكي. هذا إلى جانب، استمرار الولايات المتحدة أيضاً في تعزيز حجم الصادرات، مع دعم الجهود المبذولة لتوطين أجزاء من سلاسل التوريد التصنيعية والتكنولوجية المهمة للأمن القومي الأمريكي. وقد يكون من المجدي أيضاً الدفع نحو إجراء إصلاحات في منظمة التجارة العالمية (WTO) لاستعادة مساحة معقولة من الامتيازات للسياسات التصنيعية والتجارية المحلية. حيث إن فك بعض قواعد “التكامل العميق” لمنظمة التجارة العالمية مع الحفاظ على البنية الداعمة للتجارة الحرة والمفتوحة سيخلق نموذجاً أكثر ديمومة للتجارة في المستقبل.
ثالثا- دعم الاحتياطي الفيدرالي: يوجّه الكاتب أيضاً إلى أنه من المهم تعزيز وضع البنك الاحتياطي الفيدرالي لضمان عمل الأسواق المقومة بالدولار، فإن ما يقرب من (40٪) من الديون العالمية مقيدة بالدولار. ومن ثم فإن احتمال عدم توافر الاحتياطيات الدولارية قد يؤثر على استقرار النظام العالمي. فخلال الأزمة المالية لعام 2008، شكلت ندرة الدولارات العالمية تهديداً كبيراً لدور الدولار كعملة احتياطية دولية. حيث ارتفعت تكاليف الاقتراض بالنسبة للشركات التي سعت للحصول على الدولارات اللازمة لسداد الديون وتنفيذ الصفقات. كما حدث تدافع مماثل على الدولارات في مارس 2020 مع اشتداد أزمة جائحة (كوفيد-19) وآثارها على المستثمرين.
وبناء عليه، فإن تخصيص الكثير من الدولارات للبنوك المركزية الأجنبية في أوقات الأزمات -والتي يمكن استخدامها لتخفيف ضغوط التمويل محلياً- يعزز دور الدولار كملاذ آمن. وبالتالي، فمن الأهمية بمكان بالنسبة للفاعلين السياسيين تشجيع الاحتياطي الفيدرالي على استخدام هذه السلطة عند الضرورة. كما يجب على أعضاء مجلس الشيوخ الذين يستجوبون المرشحين لمجلس محافظي البنك الاحتياطي الفيدرالي التأكد من دعمهم لقيام المؤسسة بتولي هذا الدور.
رابعا- تقليل التلاعب بالدولار: فمنذ انهيار بريتون وودز، كان التدخل الأمريكي بشكل كبير في أسواق العملات نادراً نسبياً ومقتصراً -إلى حد كبير- على أوقات الأزمات. إلا أنه مع تولي الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” تغير الأمر بعض الشيء، حيث أشارت بعض التقارير الصادرة في عام 2019 إلى أن “ترامب” كان يفكر في بيع الدولار مقابل العملات الأجنبية الأخرى، وذلك لإضعاف قيمته، وبالتالي تعزيز الصادرات الأمريكية؛ إلا أنه تم رفض ذلك الاقتراح. وقد كان من ضمن التداعيات السلبية المتوقعة لمثل ذلك التدخل، هو أن يُغرق التدخل الأمريكي في وقت قصير سوق الصرف الأجنبي الذي يفيض بتريليونات الدولارات في المعاملات اليومية، ومن ثم زعزعة ثقة الكثيرين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها مركز النظام الاقتصادي العالمي.
على جانب آخر، يتوقع المستثمرون أن تعمل الولايات المتحدة على تأجيج التضخم من أجل تقليل التزاماتها، وذلك في حال أصبحت أعباء الديون كبيرة، وهو ما قد يؤدي إلى التحول عن الدولار.
خامسا: الحد من الاستخدام المفرط لآلية العقوبات: في حين يمنح الوجود العالمي للدولار للولايات المتحدة أداة قوية في السياسة الخارجية؛ فإن الاستخدام المفرط للعقوبات يحمل في طياته مخاطر كبيرة على المدى الطويل، لأنه قد يشجع حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها التجاريين على تقليل اعتمادهم على الدولار. كما يمكن أن يؤدي إلى إنشاء نظام مالي بديل، مما يقوض الأهداف والآليات التي يعمل من خلالها نظام العقوبات الحالي. وقد عدد الكاتب مجموعة من الآليات التي لجأت إليها الدول لتجاوز آلية العقوبات الأمريكية التي يتم فرضها على بعض الدول، ومنها آلية دعم التبادل التجاري (INSTEX)، التي طورها الاتحاد الأوروبي للحفاظ على قنوات التجارة مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، وإعادة فرض العقوبات. وعلى الرغم من أنه من المحتمل أن تفشل تلك الآلية في تحقيق نتائج اقتصادية ملموسة؛ إلا أنها تكشف عن اتجاه في طريقه للنمو لإنشاء بنية مالية موازية تستبعد الدولار. وإن كانت تلك الآلية تعد ظاهرة للعلن، إلا أن الأكثر خطورة هو سعي الصين لإنشاء عملة مشفرة مدعومة من الدولة، يمكن إخفاء هويتها، وبالتالي حماية المشاركين من العقوبات، مما يوفر وسيلة بديلة للسلع والأموال للتنقل عبر الحدود، وهو ما يوفر للشركات حلاً بديلاً موثوقاً للنظام المالي الدولي، وتقويض ميزة رئيسية لوضع الاحتياطي الدولاري.
ختاماً، يمكن القول إن الوضع الحالي للأسواق المالية الدولية وما تواجهه من تحديات في ظل جائحة عالمية واسعة الانتشار وشديدة التبعات الاقتصادية، وكذلك الاستخدام الواسع للدولار في تسعير السلع العالمية، وكبر حجم الاقتصاد الأمريكي؛ كلها أمور توفر ضماناً بأن الدولار سيظل العملة الاحتياطية العالمية في المستقبل المنظور.
إلا أنه في الأمد المتوسط والبعيد، فإن صعود الصين، واستمرار عجز الولايات المتحدة عن معالجة الاختلالات الاقتصادية الكبيرة؛ سيجعل المستقبل متعدد الأقطاب النتيجة الأكثر ترجيحاً، خاصة في ظل التزام الصين بأن تكون قوة عالمية رائدة بحلول عام 2050، واستمرارها في تحقيق نمو اقتصادي قوي، وممارسة المزيد من نفوذها الاقتصادي في الخارج، إلى جانب استئناف تحرير أسواقها المالية، ففي هذه الحالة سيصبح من المرجح تحول الأصول المقومة بالرنمينبي إلى وجهة لمزيد من المستثمرين الأجانب.
وبمزيد من التفاؤل، فإن خسارة هيمنة الدولار ليست حتمية، حيث إن الحفاظ عليه يحتاج إلى إرادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة في عالم اليوم لتخفيض العجز المالي والتجاري، والحفاظ على دور الدولار كملاذ آمن.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر