سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. ياسر عبد العزيز
سُئل الحجاج بن يوسف عن تعريفه لـ«السياسة»، فأوجز قائلًا: «أن تُقْدم في موضع الإقدام، وأن تُحجم في موضع الإحجام»، وهو المعنى الذي أعاد الفيلسوف السياسي الإيطالي ميكافيلي شرحه والتأكيد عليه.
سيأتي القادة والسياسيون البراجماتيون لاحقًا ليعزفوا على اللحن ذاته، وسنجدهم يغيرون تحالفاتهم، أو يشنون الحروب ضد الأصدقاء القدامى، أو يعقدون معاهدات الصلح مع الأعداء المقيمين على العداء، وسنتذكر عند تلك الوقائع ما قاله رئيس الوزراء البريطاني التاريخي تشرشل، حين لخص ذلك المعنى فى عبارته الشهيرة: «لا صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، وإنما مصالح دائمة».
يبدو أن هذا ما دأب عليه الرئيس التركي أردوغان غالبًا، ويبدو أن هذا ما يفكر فيه تحديدًا في الوقت الراهن، بعدما تبين له أن الاستمرار في معاداة مصر وحلفائها فى العالم العربى سيجلب له أضرارًا أكبر بكثير مما سيوفره من عوائد.
لقد أقام أردوغان على العداء تجاه مصر وشقيقاتها السعودية والإمارات والبحرين منذ عام 2013، وخصص موارد ضخمة وجهودًا كبيرة من أجل الإضرار بمصالح الدول الأربع على أكثر من صعيد، لكنه الآن يبدو فى طريقه لتغيير طريقته والبحث عن سبل لترطيب العلاقات مع تلك البلدان.
يقدم أردوغان المثل الأوضح على البراجماتية السياسية المفرطة، وهو أمر يظهر جليًا في علاقاته أولًا بمحيطه الإقليمى، التى بدأت باستراتيجية «صفر مشكلات»، ثم أدركنا لاحقًا كيف انتهت إلى «مشكلات مع الجميع».
أفرط الرئيس التركي في التودد إلى نظيره السورى بشار الأسد قبل اندلاع الانتفاضة في سوريا فى 2011، وبعدها تحول إلى عدو شرس وغادر، حيث أسهم في تحويل سوريا إلى مستنقع إرهابى، وراح يقطع أوصال هذا البلد العربي الشقيق ويغرقه بالمرتزقة الإرهابيين وينتهك سيادته على أراضيه.
حاول أردوغان أن يفعل الأمر ذاته مع مصر، لكنه لم ينجح بطبيعة الحال، فذهب إلى ليبيا ليسهم في تعميق محنة هذا البلد الشقيق، كما أوغل في معاداة السعودية والإمارات، مثلما فعل مع عدد آخر من دول الإقليم تحت وهم «الخلافة المزعومة» وحلم زعامة العالم الإسلامي.
شنّ الرئيس التركي الهجمات المعادية عبر العديد من الجبهات، وخاض الحروب المتوازية معتمدًا على عناصر قوته الصلبة التى تطورت في عقد الإنجازات (2003- 2013)، قبل أن يستفيق على حقائق مزعجة تمثلت في تضعضع تلك القوة، واهتزازه الاقتصادي، ومأزقه الجيوستراتيجي، وضغوط المعارضة الداخلية، وتململ الشارع، والاستنفار الأوروبي ضده، والمعاندة الروسية والأمريكية لجموحه وسياساته الحادة.
في سبتمبر الماضي، بدأ أردوغان ونظامه في إعطاء إشارات مختلفة للدول العربية التي ناصبها العداء، حيث راح هو وبعض أركان إدارته يخطبون ود مصر، ويرسلون إشارات عن عظمتها، وقوة جيشها، وضرورة أن تستمر المحادثات النوعية بين الجانبين «بصرف النظر عن أصل الشقاق وجوهر الخلاف».
وفس غضون ذلك، تلقى أردوغان رسالة واضحة من مصر، مفادها أن نهجه «يفتقر إلى المصداقية»، وأن «تدخلاته المسيئة في الشؤون الداخلية لا تتوقف»، وأن «دعمه للإرهاب في ليبيا لا يوفر أساسًا سليمًا للنظر في طلبه بإصلاح العلاقات، وأن مصر لا تتعامل في هذا الملف منفردة، بل من خلال تنسيقها مع حلفائها».
استوعب أردوغان الرسالة، وراح يرسل إشارات المودة إلى السعودية، ويخفف من لهجته المعادية للإمارات، وقد أعطت الرياض إشارات إلى إمكانية مناقشة المسائل الخلافية بشكل منفتح.
يريد أردوغان أن يعيد تشكيل علاقاته مع مصر على نحو أقل عداوة وأكثر تفاهمًا، أما مصر فلا ترغب في استمرار العداء، وقد أظهرت قدرة على لجمه وإيلامه في أكثر من موضع، وهي حريصة وقادرة على أن تكون أي حلحلة في هذا الملف تالية لتوقف التدخلات المشينة في شؤونها الداخلية ودعم الإرهاب والإضرار بمصالحها الاستراتيجية.
المصدر: المصري اليوم
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر