هل يبشر هذا الانخفاض بانتعاش اقتصادي، أم أن الاقتصاد العالمي مازال هشا أمام المتغيرات الاقتصادية والسياسية الدولية، وأن الانخفاض مؤقت وقابل للتراجع؟
مراقبون كثر متفائلون بأن الانخفاض التدريجي في معدل التضخم، رغم اختلاف أسبابه بين الدول الرئيسية في العالم، هو مؤشر على أن الاقتصاد العالمي بدأ يتعافى دون الحاجة للمرور بفترة من الكساد، التي كان البعض يخشى أن تكون حادة، بل حذر كثيرون من تحوله إلى كساد تضخمي خطير.
هناك قياسان شائعان لمعدل التضخم. الأول هو معدل التضخم الأساسي Core Inflation Rate الذي يُسقِط من حساب المعدل المواد المتقلبة الأسعار، لأن إدخالها يشوه الاتجاه العام للأسعار، خصوصا المواد التي ترتفع أسعارها ارتفاعا شاهقا ومفاجئا. والنوع الثاني هو التضخم المؤقت Headline Inflation Rate والذي يشمل جميع المواد والخدمات. لكن المعدل السائد هو الأساسي. هناك قياسات أخرى منها (مؤشر الأسعار الاستهلاكية CPI) و(مؤشر أسعار الجملة WPI)، وهما مستخدمان في العديد من الدول لقياس الأسعار الاستهلاكية التي تؤثر على معظم الناس.
انخفض معدل التضخم في الدول الأوروبية، بسبب انخفاض أسعار الطاقة، لكن هذا الانخفاض قد لا يدوم طويلا، خصوصا بعد رفع الإغلاق في الصين وإنهاء سياسة تصفير الإصابات بكوفيد 19، التي اتبعتها السلطات الصينية منذ أواخر عام 2019، ما يعني أن الصين سوف تستهلك المزيد من الطاقة مع اشتداد الحركة الاقتصادية فيها، وهذا سيؤدي إلى رفع أسعارها من جديد.
إضافة إلى ذلك، فإن اعتدال فصل الشتاء الماضي قد وفر نسبة كبيرة من الطاقة التي كانت ستستهلك لو كان البرد قارسا. كما أن امتلاء خزانات الوقود الأوروبية، قد أوقف شراء الغاز، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الأسعار. لكن العديد من الخزانات قد شُيِّدت، أو أنها في طور التشييد، ما يعني أن الكثير من الدول سوف تحتاط للمستقبل بخزن المزيد من النفط والغاز خلال الصيف المقبل.
لكن مؤشر الأسعار الاستهلاكي، الذي يقيس المواد الغذائية، مازال مرتفعا في الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ 18.5% في ديسمبر الماضي على الرغم من انخفاض معدل التضخم الأساسي للشهر الثاني على التوالي. أسعار العديد من المواد الغذائية تواصل ارتفاعها، وفي بعض البلدان ارتفعت عاليا، إذ بلغ معدل ارتفاعها في هنغاريا إلى 50%، ولتوانيا 33.5% وأستونيا 30.8% حسب جريدة يورونيوز.
وفي بريطانيا بلغ معدل التضخم 11.1% في أكتوبر الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ 41 عاما، لكنه بدأ في النزول ليصل إلى 10.5% في ديسمبر. الحكومة البريطانية مصممة على خفض معدل التضخم مهما كلف من ثمن، لذلك لم تتفاوض بجد مع نقابات العمال التي أضربت في معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية، من الممرضين وسائقي الإسعاف إلى عمال الإطفاء وسائقي القطارات والمعلمين والأطباء.
وفي الهند لم يتأثر معدل التضخم كثيرا، بسبب استقرار أسعار المواد الغذائية، ولو قورن المعدل بالأعوام السابقة، فإننا سنجد أن الاتجاه العام له قريب من عام 2022. ولو قورن المعدل في شهر ديسمبر 2022 (5.72%) مع شهر ديسمبر 2021 (5.59%)، لاتضح أن الفارق ضئيل جدا. وتستخدم الهند مقياسا CPI وWPI لقياس التضخم. لكن الاقتصاد الهندي مازال ينمو بقوة، مقارنة مع العديد من دول العالم إذ يقترب معدل النمو من 7%.
التضخم في أستراليا مازال مرتفعا، بل هو الأعلى منذ عام 1990، إذ قارب 8% في نهاية عام 2022، وتشير التوقعات إلى أنه سيبدأ بالنزول هذا العام. وفي كندا، بدأ معدل التضخم بالانخفاض فعلا، إذ تدنى من 6.8% في نوفمبر إلى 6.3% في ديسمبر. وفي كوريا الجنوبية، تضاعف معدل التضخم في عام 2022، عما كان عليه في عام 2021، ليصل إلى 5.1% ويعتبر هذا الارتفاع الأعلى منذ الأزمة المالية عام 1998. ومن المتوقع أن يبدأ بالنزول ليصل حسب التوقعات إلى 4% في نهية 2023. وفي تركيا، ارتفع معدل التضخم خلال عام 2022 إلى 64.3%، لكنه بدأ بالنزول في 2023 إلى 51.9%، حسب مؤسسة ING للاستشارات والأبحاث الاقتصادية.
التفاؤل يسود البرازيل أيضا مع تولي الرئيس لولا دي سيلفا الحكم مرة ثالثة، بعد فترة تخبط اقتصادي سادت في البرازيل منذ نهاية فترته الثانية عام 2010، إذ تخبطت حكومة خليفته، ديلما روسيف، وطالتها اتهامات فساد، ما أدى إلى انكماش اقتصادي خطير، رغم أنها ورثت اقتصادا ينمو بمعدل قارب 8%. بعد ذلك جاء الرئيس اليميني، جايير بولسونارو، الذي اتخذ من دونالد ترامب مثالا له، إذ قام مؤيدوه باقتحام المباني الحكومية احتجاجا على هزيمته الانتخابية. وفي عهد بولسونارو، تدهورت البيئة وتدنى الأداء الحكومي وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4%، لكن الذي أسعفه في عاميه الأخيرين، هو ارتفاع أسعار النفط وفول الصويا، وهما من الصادرات البرازيلية الرئيسية.
ولكن، هل يتمكن دي سيلفا من انتشال الاقتصاد البرازيلي بالسرعة التي يتمناها البرازيليون؟ المؤشرات الاقتصادية تبدو مشجعة. فقد انخفض معدل التضخم من 12% عام 2022 إلى دون 6% مطلع 2023. وما ساعد على تخفيف الضغوط على الاقتصاد البرازيلي، خصوصا تقليص تكاليف خدمة الديون، التي بلغت 88% من الناتج المحلي الإجمالي، هو انخفاض سعر الفائدة الأمريكي، ومعه انخفاض سعر الدولار. كما أن ارتفاع أسعار النفط وفول الصويا، وحلول البرازيل محل أوكرانيا في إنتاج الذرة، تقدم دعما ضروريا للاقتصاد.
دول أمريكا اللاتينية التي عانت انكماشا اقتصاديا عامي 2019 و2020، وتعاني العديد من دولها، كالأرجنتين وفنزويلا، من معدل تضخم مرتفع مزمن، بدأت تنمو بقوة وحققت نموا بلغ 7% عام 2021، وهي مقبلة على نمو اقتصادي رائد، حسب مؤسسة GlobeNewswire، التابعة لمؤشر ناسداك للأسواق المالية. معدل التضخم في الأرجنتين بلغ 95% عام 2022، وتشيلي (12.8%)، وفنزويلا (234%)، والمكسيك (8.33%) والأوروغواي (8.46%) والباراغواي (4.8%) وكولومبيا (13.1%) وبيرو (8.46%). وحسب مؤسسة Swiss Re للتأمين فإن التضخم في أمريكا اللاتينية قد بلغ مداه الأقصى، وأن الاتجاه العام سيكون تنازليا.
الاتفاقية المعقودة بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة ميركوسور، التي تضم كلا من البرازيل والأرجنتين وبارغواي وأوروغواي، سوف تساعد على تعزيز التعاون الاقتصادي بين المجموعتين. كذلك فإن التقارب بين الأرجنتين والبرازيل، مثلا، بلغ درجة الاتفاق على إصدار عملة مشتركة. وكان الاتحاد الأوروبي قد أوقف العمل باتفاقية التعاون، احتجاجا على سياسات رئيس البرازيل السابق، بولسونارو، المضرة بالبيئة.
اليابان خالفت باقي الدول الصناعية بخصوص معدل التضخم وأسعار الفائدة، إذ سارت في الاتجاه المعاكس، فقد ارتفع معدل التضخم إلى 4% بسبب ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي المدعوم بارتفاع الأجور. ومع أن بنك اليابان أعلن بأنه سيبقي سعر الفائدة قريبا من الصفر، بهدف تحفيز النمو الاقتصادي، لكن هذا الوضع لن يستمر طويلا، إذا ما واصل معدل التضخم ارتفاعه. لكن معدل التضخم الياباني يبقى منخفضا، مقارنة مع المعدلات العالمية.
وفي الصين يتوقع المراقبون نموا اقتصاديا نشيطا، مدفوعا بارتفاع الانفاق الاستهلاكي، خصوصا بعد التخلي عن سياسة تصفير الإصابات بكوفيد 19، وأن هذا النمو سوف ينعش الاقتصاد العالمي. وقد أكد رئيس الوزراء الصيني، لي كيكيانغ، أن الإنفاق الاستهلاكي سيكون الدافع الأكبر لنمو الاقتصاد الصيني “وأن تحفيز الاستهلاك هو خطوة لتوسيع الطلب الوطني، وأن هناك حاجة لتفعيل الدور الهيكلي في الاقتصاد الصيني”.
وفي الولايات المتحدة، انخفض التضخم نتيجة لانخفاض أسعار المواد الاستهلاكية والصناعية المستوردة، بسبب ارتفاع سعر الدولار، إضافة إلى انخفاض أسعار الطاقة. وقد تصاعدت الآمال باستقرار الأسعار دون المرور بفترة كساد، وتزايد التفاؤل مع ارتفاع أسعار الأسهم الأمريكية في مؤشر S&P، بنسبة 5% منذ بدء السنة.
غير أن انخفاض الأسعار يؤشر في الوقت نفسه إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي، أي انخفاض النمو الاقتصادي، وهذا غير محبذ في الظروف الطبيعية، لأنه مؤشر على قرب حلول الكساد.
سوق العمل الأمريكية مازالت نشطة بسبب تنامي الثقة بتعافي الاقتصاد، لكن هذا النشاط ربما يدفع البنك الفدرالي إلى رفع أسعار الفائدة، أو على الأقل عدم خفضها، خوفا من أن يتسبب في رفع معدل التضخم، خصوصا مع إقدام بعض الشركات الأمريكية، مثل أسواق (وولمارت)، على رفع أجور العمال، من 12 دولارا إلى 14 دولارا في الساعة، بزيادة قدرها 16.5%، نتيجة لارتفاع إنتاجية العمل بنسبة 1%.
ارتفاع الأجور سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية لسببين. الأول هو أن توفر المال لدى المستهلكين سوف يدفعهم إلى زيادة الانفاق الاستهلاكي، الأمر الذي يزيد التنافس على المواد الاستهلاكية، الذي يقلص العرض ويرفع الأسعار. قد يتأنى المستهلكون في الإقدام على زيادة الإنفاق، ويفضلون الادخار، خصوصا مع ارتفاع أسعار الفائدة، لكن هذا غير مؤكد، خصوصا مع تزايد التفاؤل بتحسن الظروف الاقتصادية.
السبب الثاني، هو أن الشركات التي ترفع الأجور، تسعى عادة إلى تعويض هذه الكلفة عبر رفع أسعار منتجاتها، وهذا يحصل في أكثر الأحيان. غير أن العديد من الشركات راكمت ثرواتٍ طائلةً خلال الفترة الماضية، ويمكنها التأني في رفع أسعار منتجاتها، وتأخير رفع الأسعار إلى مرحلة مقبلة، وهذا محتمل في الظروف الحالية.
الشركات عموما، والعملاقة منها تحديدا، تنظر نظرة بعيدة الأمد إلى أداء الاقتصاد الكلي في مناطق نشاطها، لأسباب تتعلق بربحيتها. فارتفاع معدل التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة وتقلص النمو الاقتصادي، تربك الوضع الاقتصادي العام، وهي في الوقت نفسه تربك خطط الشركات المستقبلية، وتحد من أرباحها واحتمالات توسعها، لذلك فإن لها مصلحة في مساعدة الحكومات على خفض معدل التضخم واستقرار الأسعار.
انخفاض معدل التضخم في دول العالم الرئيسية يبشر بخير، لكن المتغيرات السياسية، كالعلاقة بين الصين والولايات المتحدة، وتواصل الحرب في أوكرانيا، واستمرار النشاط الإيراني المزعزع لاستقرار الشرق الأوسط، أو التغيرات البيئية والمناخية، قد تربك الخطط الاقتصادية وتحدِث مفاجآت تفرض اتباع سياسات مغايرة.