هل معركة “الحداثة والأصالة” استقرأت النسوية؟ | مركز سمت للدراسات

هل معركة “الحداثة والأصالة” استقرأت النسوية؟

التاريخ والوقت : الخميس, 5 سبتمبر 2019

محمد الغامدي

 

لا تملِ عليّ شروطك بل أملِ علي أفكارك، وعندها سأقع أنا في الفخ. هذا ما يبدو عليه عالم الشبكة الآن، فسير الثقافة فيها يتحرك بسرعة مذهلة، ويؤثر في مجتمعاتنا العربية بشكل نود اللحاق به. لقد غامرنا عبر متواليات ثقافية سحقت معظم العادات والتقاليد التي كنا نسير، إلى درجة أن أصبنا بخيبة أمل، ونحن نشاهد (النسوية) تقفز قفزاً في مسار حياتنا، ليس من ذنب يؤطر لهذه النسوية، ولكن الذنب يكمن في الجانب الذكوري الذي ارتكب معصية كبيرة بتهميشه للمرأة على مدى أربعين سنة أو ما يقاربها، بل إن جانباً من جوانبه، من قبل، كان قد تصدى لتعليم المرأة في البداية كي تبقى في بيتها ولا تخرج منه.

وقد جاءت (النسوية) بصورتها الجديدة لتتمرد على ذكوريتنا، ولتفتك بسيطرتنا على هذا الجانب، كأنها تنتقم منّا جراء ما فعلناه طوال عقود مضت، العملية هنا لا ترتبط بحركة طبقات في المجتمع ولكنها تسعى لإثبات وجود.

تأخر الاستقراء

وليست المشكلة في أن هناك من تتبنى هذه الحركة في السعودية، لأنهن يسرن متأخرات كتأخر المثقفين أنفسهم في مناقشة القضايا التي تمر على العالم، ومعركة الحداثة والأصالة لم تكن في صلب هذا الموضوع، حتى أنها لم تقدم ولم تؤخر باتجاه النساء الكاتبات، بل كن في صفحات الملاحق من دون صور. وبكل أسف في الوقت الذي ينتهي العالم من موضوع ما نبدأ نحن العرب في مناقشته، وكانت القيادة في هذا للمثقفين المصريين، بحيث إنهم بعد أن يمضي ربع قرن أو أكثر على قضية في الثقافة العالمية يبدؤون في مناقشتها في عالمنا العربي، وبعد أن يمضي عقد بعد مصر يبدأ مثقفونا في مناقشة الموضوع!

ولعل الواضح أمامنا الآن في الغرب هو أن النساء أنفسهن بدأن يتصدين للحركة. وكي نعلم ما يدور في إطار كلمة (النسوية) كل ما علينا هو استخدام محرك البحث العملاق (قوقل) وكتابة كلمة (نسوية) سيظهر لنا أكثر من ستة ملايين عنوان كي نتحرك فيها ونقرأ معلوماتها.. وهذا يدلل على أن النشاط في هذا الاتجاه يسير بشكل قوي في عالمنا العربي، وكأن هذه الحركة لم تبدأ من ستينات القرن الماضي.

كتبت أليس جاردين مقالة ترجمتها ونشرتها مجلة الثقافة العالمية قالت فيها إن النسوية (تختلف عن حركة البوليتاريا، التي يتعين أن تتشح باليسارية. وما أقصده باليسار هنا هو أقصى اليسار المتطرف، أي الحركة التي تهدف إلى الإطاحة بالمجتمع عن بكرة أبيه. وفضلاً عن هذا، فلو حصلت النساء بالفعل على المساواة الكاملة مع الرجال فسينقلب المجتمع رأساً على عقب) وهو رأي يأتي من امرأة تملك أقصى حريتها في أمريكا، ومع ذلك فإنها تضع الأمر في الميزان دون أن تخشى مثل هذا الرأي، رغم أنها كانت من مناصري الحركة النسوية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وكانت تُجالد وتحارب من أجل هذه الحركة.

لقد كانت أليس منبهرة جداً بالكاتبة سيمون دي بوفوار ولهذا كانت تميل إلى آرائها كثيراً، ولكنها اكتشفت مبكراً أنها مجرد عابثة، لا قيمة لما تقدمه بعد أن ثبت تبعيتها لسارتر.

وجاءت شهادة (باتريشيا لانسا) في مقالة بعنوان: (النسوية والأسرة)، لتؤكد على أخطار النسوية، حيث بيَّنت أن النسوية انطلقت في هجومها على الأسرة من شعار (سيمون دي بوفوار) أن المرأة لم تولد أنثى، وإنما المجتمع هو الذي جعلها كذلك، معتبرة أن هذا الشعار يمثل حرباً ضد طبيعة المرأة، وقالت: إنه لا بد لنا من أن نُعلن بوضوح عن حقيقتين أساسيتين: الأولى: إن كون الإنسان رجلاً أو امرأة ليس بناءً اجتماعيّاً، لكنه حقيقة بيولوجية لها دورها في منهج التناسل البشري، والثانية: إن النظرية الفرويدية بمفاهيمها عن الجنس والرجل، كان لها أثرها العام على العلاقات الجنسية وحياة الأسرة، وأكدت أن فكرة تحرير المرأة لم تجذب إليها إلا ضعيفات العقول اللواتي وجَدن في (نسوية الجندر) هذه تفسيراً مقبولاً، وتعويضاً عن المآسي والكوارث اللاتي عِشنها.

وبغض النظر عن لمحة جاردين عن سارتر، والتي تبدو أنها مسيسة، وأنه هو من أذلها، مستدلة بجملة أنطوانيت فوك العدائية تجاه بوفوار والتي قالت فيها (وقع اختيار النسويين على بوفوار كما لو كانت بقرة مقدسة، فهن أشبه بالنساء الأمازونيات اللائي يحطن بالقذافي، وهن يتحلقن حولها في شيء من الحذر.. وفي نهاية القصيد، فإن بوفوار ليست سوى امرأة عادية، لم تتوقف طوال حياتها عن محاولة تجاوز الجمع المحيط بها).

بينما جوليا كريستيفا الفيلسوفة والناقدة البلغارية الأصل، والتي تميل إليها أليس جاردين، وهي صاحبة الصياغة الأشهر لمصطلح (التناص)، (كانت كريستيفا صوتاً نسويّاً قويّاً، وجزءاً فاعلاً في الحركة النسوية الفرنسية التي توصف بأنها أهم الحركات النسوية في العالم بجانب النسوية الأمريكية، وقد أفرزت أهم الأصوات في الحركة النسوية، لعل سيمون دي بوفوار وكتابها (الجنس الثاني) وجملتها الأشهر (المرأة لا تُولَد امرأة، بل تصبح امرأة) هي التعبير الأبرز عن قوة النسوية الفرنسية.

لكن كريستيفا بدأت مبكراً في مراجعة مسلّماتها النسوية، فانسحبت وكتبت أفكارها الخاصة. طرحت كريستيفا مفهوم (الأمومة maternity)، لم تواجه به البطريركية التي تفهمت أسباب وجودها، وقبلت جزئيّاً بعض تجلياتها، بل واجهت الأفكار النسوية. إن قراءة مجمل الموقف الجديد لكريستيفا يخلص إلى أنها ترى أن الأمومة هي واجب المرأة، وهي تعتقد أن الرجال يخلقون عالم القوة والتمثيل representation، في حين تخلق المرأة الأطفال. الأمومة لديها مثال للخبرة التي تستدعي تساؤلاً عن الذات الموحدة، وتصبح الأمومة هي الذات في حالة تكون، وتطرح سؤالاً عن الحد بين الذات والآخر، لأن الجسد الأمومي يحتوي على آخر. مع الأمومة من المستحيل التمييز بين الذات والموضوع من دون الدخول في تقسيمات اعتباطية. وهي تحلل الأمومة كي تقدم رؤيتها التي ترى أن هذا التمييز بين الذات والموضوع، وكل التحديدات للذوات الموحدة، كلها أمور اعتباطية).

السخرية هي الحل

إن المفهوم الآخر الذي دخلت معه كريستيفا في نقاش هو مفهوم الاختلاف، وهو مصطلح متجذر في أدبيات الحركات النسوية على تنوعها، يقصدن به في أبسط تعريف له (الاختلاف عن الرجل)، لكنه في الحقيقة مفهوم معقد يستدعي معه مفهومين أساسيين: (الجنوسة) و(الهوية). لقد كان مفهوم الاختلاف ملتبساً عند النسويات، فعلى حين رتبن على الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة نتائج يتصل أغلبها بالجنس مما لا يتسع المقام لعرضه هنا، فإنهن لم يسلمن بأن لهذا الاختلاف البيولوجي آثاراً تتصل بتقسيم العمل بينهما. أما كريستيفا فقد سلمت بذلك، وأفردت مساحة كبيرة في كتاباتها النسائية لموضوع تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وأفردت مساحة لأهمية الإنجاب في حياة المرأة، وما يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى في طبيعة الوظائف التي يمكن أن تقوم بها، والحفاظ على الأسرة التي تنجب في إطارها، والبيت الذي ترعى فيه الطفل داخله. رأت كريستيفا أن اضطهاد المرأة يرجع جزئيّاً إلى اختزال الثقافة الغربية للنساء في موضوع الإنجاب، بينما يجب أن نعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الأمرين، يجب أن نعيد الاعتبار للأمومة، وأن نعيد النظر في العلاقة بين الأم والطفل.

وركزت كريستيفا على مفهوم الاختلاف من الزاوية التي تطرحها الحركات النسوية، لقد رأت أنهم يتحدثون عن الاختلاف بمفهومه الواسع، أي اختلاف النساء عن الرجال من دون مراعاة للفروق الفردية داخل كل نوع، بينما ترى هي أنه (من الصعب الحديث باسم كل النساء)، لأن الحديث باسم المجموع يعني إنكار الفروق الفردية، ودمج الأفراد في المجموعات هو سلوك القطيع. نبع موقفها هذا من رؤيتها بأن النسوية هي حركة النساء البيض الغربيات من الطبقة الوسطى، ومن الصعب تعميم أطروحتها لتشمل كل النساء داخل هذه الثقافة من دون اعتبار للفروق الفردية، أو حتى الفروق الجماعية بين الطبقات. وإذا كانت هذه رؤية كريستيفا، فالأولى أن نقول معها كما قال أرنولد توينبي قبلها: إن بعض الأفكار قد تُكوِّن ملائكة في مجتمعاتها، لكنها تتحول إلى شياطين إذا انتقلت لمجتمعات أخرى. ما سبق لم يكن كل الموقف الذي أخذته كريستيفا من النسوية، لقد كانت لها آراء أخرى حول العلاقة بين الرمزي والسيميائي والموقف من المرأة، والكيفية التي يجري بها تأطير المرأة في سياق الثقافة الغربية، لكن مجمل موقفها لخصته في عبارة (السخرية من النسوية هي الحل).

لب القصيد من هذا أن حقبة الحداثة والأصالة لم تقرأ لنا مثل هذه الحكاية، ولم تطرق المواضيع التي بالإمكان مناقشتها من أجل المستقبل، ولم تتحرك في طور تهيئة المجتمع لمثل هذه القضية التي ستأخذ أبعادها السياسية قبل الاجتماعية، وكان الصراع قائماً على الهامش، والتحرك يتم عبر تشويه المجتمع فقط، وأسره في بوتقة الأفكار التي يريدها كل طرف. وكما نرى في هذه القضية الماثلة أمامنا أن الانبهار بالخارج أدى إلى التعلق، الذي اكتشفت معه (أليس) أن الحياة ليست على هذا المنوال، وأن الصورة التي رسمتها عن بوفوار وعن هذه الحركة كانت حماسية في وقت الشباب، ولم تقدم لها شيئاً لا هي ولا صديقتها كريستيفا، ومن هنا فإن الصورة (الحداثية) لهذا المفهوم في مجتمعنا بدأت تظهر، واتخذت مع الانفتاح المعلوماتي أبعاداً تحتاج إلى قراءات، ليس قراءات بل دراسات وأبحاث علمية مقننة، لا تتوقف على العاطفة، بقدر ما تحرك العقل، كي لا نفاجأ بأن (النسوية) سيطرت على المجتمع دون أن ندرك ذلك.

تسييس النسوية

إن المجتمع الغربي يتحرك عبر (الجسد المتحرر) وليس عبر (العقل المتحرر) فهو ما يزال يعتبر الرجل هو الآخر للمرأة، والفوارق مستمرة بينهما دون أن يغيّرها فكرياً، رغم إلحاحه على أن المرأة في العالم الثالث مضطهدة، وفي نفس الوقت تتساءل تيريسا برنين وهي فيلسوفة نسوية (ماذا لو كانت النسوية تعني إلى حد بعيد رفض الصور السلبية الملتصقة بالآخر وهو تصور إسقاطي فيما ترى بما يسمح للعديد من النساء بالشروع في التخلي عن المؤثرات التاريخية السلبية لمفهوم الغرب في الأنوثة في فضولنا الثقافي؟ ماذا يحدث لمطالب المرأة في الاعتراف بها وبحاجتها للأمان عندما تمر بتحولات راديكالية تاريخية جغرافية إبّان القرن الحادي والعشرين؟).

وقد لاحظت هاسلانغر وهي فيلسوفة أن مجلات العقل والمراجعة الفلسفية والفلسفة والشؤون العامة لم تنشر أي مقالة تحتوي على مضمون نسوي خلال خمس سنوات، ووجدت هاسلانغر أن 34 % من 1450 فيلسوفاً هن نساء، بينما المعدل العام هو 21 % حسب دراسات علمية تؤكد ذلك في أمريكا. مكتشفة أن هناك تحيّزاً ضد المرأة. وتثبت سارة شولمان أنه يتم تجاهل النساء الفيلسوفات حتى أولئك الذين يتم تصنيفهم بالأكاديميين (فإنه لا يواجه أي مشكلة مع النسوية، لكنه في الآن عينه يصف الزميل الجامعي النسوي على أنه غير أكاديمي، ودخيل متطفل، ومصدر لإثارة المتاعب).

أي بوضوح تام هو أن الغرب يعمل على التصدي لزحف (النسوية) لأنهن بدأن يشطحن عن الأساسيات في الحياة، ويذهبن إلى أبعاد تفكك المجتمعات.. وبما أن الحركة من الأساس سياسية، وليست اجتماعية، فإن المؤثرات السياسية ستقودها نحو تحقيق أهداف السياسيين وليس صوب تحقيق أهداف المجتمع، وحقوق الإنسان والادعاءات التي يملينها أو تُملى عليهن ليتحركن في إطارها!

 

المصدر: المجلة العربية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر