سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
لقد غادر دونالد ترمب البيت الأبيض. ومع تولي جو بايدن سدة الرئاسة في أميركا، يأمل العالم أن تبتعد الولايات المتحدة عن نهج المواجهة التخريبي لترامب تجاه العلاقات مع الصين، وأن تتخذ الخطوة الأولى نحو نهج عملي. وما سيوضع على المحك هو مسألة ما إذا كانت هذه العلاقة الثنائية الحاسمة ستعمل على تقوية النظام العالمي أو تحطيمه.
لقد كان ترمب وجائحة «كوفيد 19» بمثابة اختبار مؤلم، ولكنه أساسي لكل من الرفاهية الوطنية ومفهوم النظام العالمي المترابط. فقد اعتبر ترمب العولمة عائقاً أمام تطلعات أميركا القومية. ولكن الوباء أثبت أننا نعيش في مجتمع عالمي مترابط.
إن التهديدات النظامية مثل الوباء تتجاوز قدرة أي بلد على حلها. وإذا أهملنا صحة أفقر الناس في العالم، وسبل عيشهم، فإن فيروس «كورونا» سيتحوّل ويعود ليطاردنا، حتى في أغنى المجتمعات المغلقة.
وواجهت سياسة ترمب هذا الواقع بصرامة، ورحبت بالرأي القائل بأنه فقط الدول القومية أو النخب التي تسيطر عليها يمكنها معالجة المشكلات العالمية. ويتقاسم هذا الافتراض «المتحيز» واضعو استراتيجية الدفاع والأمن التقليديين، الذين عادةً ما يعتبرون الأسبقية الوطنية أمراً مفروغاً منه، مما يؤدي إلى نتائج محصلتها صفر، مثل ما يطلق عليه اسم فخ ثوكيديس.
ولكن التهديدات التي تواجه الأمن البشري تنشأ جميعها داخلياً من خلال تفاعل أجزاء العالم.
وكما قال عالما البيئة فريتجوف كابرا، وبيير لويجي لويزي، في ملاحظة لهما في كتابهما الصادر عام 2014، The Systems View of Life، «المشاكل الرئيسية في عصرنا هي مشاكل نظامية- كلها مترابطة، وتعتمد على بعضها البعض». لذا فهي «تتطلب حلولاً منهجية». ومع ذلك، فإن الحلول المنهجية تقع في فخ العمل الجماعي، لأن الأجزاء لن تعمل معاً لحل مشاكل الكل.
إن علماء البيئة ليسوا قوميين، لأنهم يدركون أن المحصلة أكثر من مجرد مجموع أجزائها. ففي عام 1981، أشار عالم المستقبل الأميركي، ر. بكمنستر فولر، إلى أن البشرية وصلت إلى «مسار حاسم» يربط بين التدمير النووي المؤكد المتبادل وبين الانقراض الناجم عن ارتفاع درجة حرارة المناخ.
وبعد مرور أربعين عاماً، لم يعد لدى العالم الكثير من الوقت لمعالجة ارتفاع درجات الحرارة ومستويات سطح البحر، والكوارث الطبيعية التي تزداد وتيرتها وخطورتها، واتساع نطاق عدم المساواة الذي صنعه الإنسان.
ولحسن الحظ، أظهر ترمب أن الحلول الجزئية ليست ناجعة. فشعار أميركا أولاً يعني أميركا لوحدها. ولا يمكن لأي بلد، حتى ولو كان بقوة الولايات المتحدة، إدارة الأزمات المحلية بدون الموارد التي يمكن أن تأتي فقط من الانتعاش الاقتصادي العالمي.
لقد تعلم صانعو السياسة الصينيون من التجربة المريرة التي خلصوا من خلالها إلى أن بلادهم أيضاً لا تستطيع حل المشكلات العالمية بمفردها. فعلى سبيل المثال، أسفر الانكماش الذي تعرضت له الصين في عام 2009، والذي ساعد العالم على التعافي من الأزمة المالية العالمية لعام 2008، إلى تكاليف محلية ضخمة.
ورغم أن المتحيزين يقسمون العالم إلى دول وطبقات وعقائد، يدرك دعاة العولمة أن الإنسان والطبيعة واحد. فالإنسانية هي أكثر من فئة أو عرق أو عقيدة، وقد لا يوجد حل مثالي لمشكلة جزئية، بل فقط العمل الجاد المستمر لمعالجة ما يهم الجميع.
هل يمكن أن يكون الاعتراف بهذه الفجوة الذهنية ومحاولة سدها مفتاح التفاهم المتبادل بين الغرب والصين؟
في كتاب «تاريخ الحضارات» للمؤرخ الفرنسي الكبير، فرناند بروديل، قال هذا الأخير في عبارة اقتبسها عن عالم الصينيات، الفرنسي مارسيل غرانيت، «الصينيون إما مؤمنون بالخرافات أو عمليون، أو بالأحرى كلاهما في آن واحد». إن عبارة ( كلاهما في آن واحد) هي التي يصعب على الإنسان الغربي استساغتها.
لقد فهم بعض المفكرين الغربيين بالطبع مثل هذه الثنائيات. إذ لاحظ الخبير الاقتصادي جوزيف شومبيتر، على سبيل المثال، أن الأسواق تستمد ديناميكيتها من «التدمير الخلاق» لريادة الأعمال.
إن هذه النظرة العالمية لعبارة «كلاهما في آن واحد» تشير إلى أن المنظورات الجزئية والخطية والصفرية والأحادية تسيء فهم المجتمع العالمي المترابط اليوم.
إذ تخشى أميركا من أن الصين قد تستولي على القيادة العالمية، في حين أن الصين قلقة من أن تعرقل الولايات المتحدة تحولها نحو الحداثة. وأدت هذه الديناميكية إلى تفاقم حالة انعدام الأمن في أكبر كيانين اقتصاديين في العالم، مما خلق أرضية خصبة محتملة لمزيد من المواجهة، بل وحتى لاندلاع صراع عسكري.
والسؤال الحقيقي ليس ما يسميه الصينيون «مشروع الأمل» – قائمة أمنيات لا يمكن تحقيقها – ولكن بالأحرى أفضل طريقة لإدارة المقايضات الصعبة اللازمة لتحقيق السلام والازدهار اللذين يريدهما جميع شعوب العالم. لقد أقنع الوباء الصينيين بأن نظام الحزب الواحد في بلادهم، مهما كانت عيوبه، تعلَّم وتكيف بسرعة بما يتعلق بمكافحة المرض مقارنة مع أميركا التي كان ترمب يديرها بصورة سيئة.
وفي الواقع، يتعامل الحزب الشيوعي الصيني الآن مع المنافسة العالمية والنقد على أنهما شكل من أشكال ردود الفعل السياسية. وبصورة أو بأخرى، يجعل هذا بقية العالم «حزباً معارضاً» فعلياً يدفع الحزب الشيوعي الصيني للحفاظ على أدائه وشرعيته.
ومكنت هذه الواقعية الاستراتيجية الصين من المضي قدماً في عدد من الأشكال الجديدة للمشاركة الدولية، بما في ذلك الاتفاقية التجارية الجديدة للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، والاتفاقية الشاملة بشأن الاستثمار مع الاتحاد الأوروبي، وتعهد الصين بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060.
إن ما يسمى بـ«استراتيجية التداول المزدوج» في الصين هي إشارة إلى بايدن بأن القادة الصينيين منفتحون على التعاون الاستراتيجي في معالجة تغير المناخ، والتصدي للوباء، واستعادة التجارة والاستثمار العالميين حتى يكون لدى كل دولة المزيد من الموارد لمعالجة عدم المساواة والاختلالات على المستوى المحلي.
وفي العالم الحقيقي، يمكن الجمع بين التعاون والمنافسة، ويجب على الحكومتين الأميركية والصينية أن تبدآ في إدراك أن مثل هذا النهج هو السبيل الوحيد للمضي قدماً لتعزيز الاستدامة والمرونة. وكما في جميع المحادثات، يمكن أن تحدد الخطوة الأولى طبيعة العلاقات.
ويمتلك الرئيسان، بايدن وشي جين بين، اللذان عانا من أربع سنوات من الاضطراب السياسي بسبب ترمب، فرصة حقيقية لعكس المسار.