هل تستطيع آسيا إعادة اختراع التجارة العالمية | مركز سمت للدراسات

هل تستطيع آسيا إعادة اختراع التجارة العالمية

التاريخ والوقت : الأحد, 9 مايو 2021

بيلهاري كوسيكان

 

دعونا لا نصدق دعايتنا، فإعادة اختراع التجارة العالمية في آسيا يعد اقتراحًا جذابًا ظاهريًا مع إنه يواجه بعض الإشكالات، حيث يفترض أن هناك اقتصاد دولي حر ومفتوح على إعادة الابتكار، كما يفترض أن هناك “آسيا” تتجاوز المعنى الجغرافي، وأن لـ”آسيا” تعرف موقف مُوحّد مشترك تجاه التجارة، وهو موقف متفوق بطريقة ما على مواقف الدول الأخرى، ويفترض أيضًا أن “آسيا” يمكنها أن تخفف من الضغوط التي تعرض لها نظام التجارة الدولية، كل هذه الافتراضات صحيحة.

صحيحٌ أن آسيا هي موطن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة “RCEP” والاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ، كما أن معظم الدول الآسيوية لديها عمومًا مواقف أكثر انفتاحًا تجاه التجارة الحرة من مواقف الولايات المتحدة وأوروبا- لكن معظم وليس الكل- فالدول التجارية ليست مجتمعة دائمًا حول التجارة الحرة، والاستثناء الأهم في ذلك هما الهند والصين.

تمثل هذه الاقتصادات العملاقة انحرافات هائلة تفوق بكثير دول التجارة الحرة في القوة المتوسطة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ناهيك عن الاقتصادات الصغيرة مثل سنغافورة وتايوان.

المواقف الهندية والصينية تجاه التجارة الحرة متناقضة إن لم تكن تجارية صريحة، فالهند والصين تستجيبان في المقام الأول لمتطلبات كل منهما وفقًا لديناميكياتهما الخاصة، ومن غير المحتمل أن يتطور أيٌ منهما بشكلٍ تلقائي نحو تجارة حرة دائمة.

لقد كان الأمل في انتخاب “ناريندرا مودي” رئيسًا للوزراء في عام 2014، قائمًا على استقراء من البيئة الصديقة للأعمال التي قيل أنه رعاها في ولاية “غوجارات”، لكن أن تكون صديقًا للأعمال التجارية لا يعني أن تكون صديقًا للتجارة الحرة، حيث يعد انسحاب الهند من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة دليلًا على أن تحرير التجارة ليس من أولويات أجندة “مودي” الاقتصادية.

أكثر ما يهم “مودي” وحزب “بهاراتيا جاناتا” هو السلطة، والمصدر الرئيسي للسلطة هو المال والذي يمثل شرط لا غنى عنه للنجاح الانتخابي في الهند، ويحتاج “مودي” إلى إرضاء رجال الأعمال الهنديين وليس الأجانب، فالشركات الهندية ليسوا أصحاب تجارة حرة بشكل فطري، ولا سيما الشركات الصغيرة التي تشكل العمود الفقري لقاعدة حزب “بهاراتيا جاناتا”، ويرحب رجال الأعمال الصغار هؤلاء بنظام التراخيص الجديد في الهند، لأن مهارتهم في التنقل في هذا الوضع المعقد تمنحهم ميزة على المنافسين الأجانب، ويبدو أن الصين أصبحت ماهرة في هذه اللعبة، وهنا يمكن الإشارة إلى عجز الهند التجاري مع الصين مما يسبب مأزق سياسي لحزب “بهاراتيا جاناتا”.

لم يجد “مودي” دائمًا ضرورة للسعي وراء العقلانية الاقتصادية، ناهيك عن أرثوذكسية التجارة الحرة والتمسك بالسلطة وتأمين دعم الأعمال الهندية، وقد واجهت العديد من سياساته إخفاقات اقتصادية لكنها حققت نجاحات سياسية.

ومع ذلك فإن الهند منفتحة بالمقارنة مع الصين، فالحقيقة الأكثر بروزًا حول السياسة الاقتصادية الصينية هي أنها تتحمل عبء الشيوعية، فالصين ذات أصول لينينية ويقودها الحزب الشيوعي الصيني على النمط اللينيني “CCP”.

إن القيمة العليا للحزب اللينيني هي السيطرة؛ حيث يطالب الحزب الشيوعي الصيني بالسيطرة المطلقة على جميع مفاصل الدولة والمجتمع، ويطبق الرئيس الصيني “شي جين بينغ” هذا الأمر بشكل أكثر شمولية من جميع أسلافه، فالمصالح المهيمنة للحزب الشيوعي الصيني إلى جانب القومية الإثنية الحازمة، هي الأصل في العديد من السلوكيات الاقتصادية والجيوسياسية للصين وهو ما يثير المخاوف.
إن الغرض من الإصلاح الاقتصادي في الصين يتمثل دوما في الحفاظ على هذا النظام، والذي كان سببًا رئيسيًا للإصلاح والانفتاح سواءً في عهد “دنغ شياو بينغ” أو خلفائه.

لا شك أن الصين من أكبر المستفيدين من نظام التجارة الحرة، لكن الصين لن تلتزم بقيم التجارة الحرة إلا إذا عزَّزَتها بالنظام اللينيني ومصالح “الحزب الشيوعي الصيني”.

وبقدر ما تحقق الصين تزايدًا في الاكتفاء الذاتي في ظل النهج الجديد لـ”التداول المزدوج”، سيتم تعزيز العنصر التجاري في السياسة التجارية الصينية، لأن أسباب التزام بكين بالمعايير الدولية ستقل بشكل لا يتناسب مع مصالح الحزب الشيوعي الصيني، لا يوجد حتى الآن بديل عملي لقاعدة الحزب الشيوعي الصيني كما أن البدائل الأخرى بها إشكالات أكبر.

هنا يمكن أن نتخيل صينًا متعدد الأحزاب يحرك ديناميكياته السياسية نزعة عرقية حازمة، وأمام ذلك يواجه أي تحليل للتجارة في “آسيا” مفارقة أن الصين هي إحدى القاطرات الرئيسية في قاطرة نمو المنطقة، لكنها لا تزال تسبب عدم الاستقرار والاختلالات التي تُهدد بعرقلة النمو في المنطقة.

ولا يمكن لبقية آسيا أن تدعي فضيلة التفوق إلا من الناحية النسبية، فالشكاوى حول الممارسات التجارية غير العادلة في اليابان وكوريا الجنوبية كثيرة، وحتى أستراليا وسنغافورة اللذان يمكن اعتبارهما من مؤيدي التجارة الحرة لا يمكنهما فعل ذلك، إلا من خلال تجاهل الحزم في أعينهما.

إن السياسة الداخلية هي المصدر الرئيسي للضغط على نظام التجارة الدولي، حيث يجب أن يدير كل منا سياساته الخاصة بأفضل ما في وسعه، ولا أحد يتعامل معها بشكل جيد، لذا من الصعب تخيل “إعادة اختراع” نظام التجارة العالمي ما لم تغير الولايات المتحدة والاقتصادات الأوروبية الكبرى مواقفها.

إن الصين في وضع أفضل لمتابعة أهداف بعيدة المدى، لكن الأنظمة الاستبدادية لها عيوبها، فلديهم ميزة فقط إذا كانت القرارات صحيحة في المقام الأول، وقد كان قرار “دنغ” للإصلاح صحيحا؛ حيث كانت نتائج القفزة العظيمة للأمام “لماو تسي تونغ” والثورة الثقافية كارثيّتين، فقد كان تخلي “شي” عن نهج “دنغ” المتمثل في “إخفاء القدرات ووقت الانتظار” خطأً استراتيجيًا، فبمجرد الكشف عن الطموحات لا يمكن نسيانها بسهولة وستؤدي حتمًا إلى رد فعل معاكس.

ليس كل المشاكل لها حلول، وليس كل المرغوب فيه قابل للتحقيق، وبسبب عدم وجود قيادة سواءً من الشرق أو الغرب، فإن نظام التجارة الدولية سوف يتعثر دون المستوى الأمثل في المستقبل المنظور لكن من غير المرجح أن ينهار بالكامل، شريطة أن تحالفات مخصصة ومرنة من ذوي التفكير المماثل والتي لا ينبغي استبعاد الصين منها مسبقًا، هنا يمكن احتساب المخاطر والفرص بشكل عملي وإدارة قضايا معينة، بدلًا من مطاردة الوهم المتمثل في إعادة اختراع نهائي للتجارة العالمية.

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: East Asia Forum

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر