الصعوبات التي يعاني منها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لابد أن تترك أثرا سلبيا على العالم أجمع، لأن الاقتصاد العالمي مترابط والشركات العالمية تعمل في كل بقعة من بقاع الأرض، ولا توجد دولة منعزلة انعزالا كاملا عن الاقتصاد العالمي، إلا تلك المحاصرة أو ذات الاقتصادات البدائية.
التباطؤ الاقتصادي الصيني سيترك دون شك تأثيرات على أسواق الطاقة، خصوصا النفط، إذ تستورد الصين معظم احتياجاتها من الطاقة من خارجها. البطالة الصينية المرتفعة تعني أن الإنفاق الاستهلاكي الصيني سوف ينخفض، وهذا يعني أن مبيعات العديد من الشركات العالمية العاملة في الصين سوف تتقلص، وهناك أكثر من مليون شركة أجنبية تعمل في الصين، حسب سجل الشركات الصيني، الذي أعلنته وزارة التجارة الصينية عام 2020.
إن تقلص المبيعات سيقود حتما إلى تدني أرباح هذه الشركات، ما يعني أنها سوف تضطر إلى تسريح نسبة من العاملين فيها، ليس فقط في الصين، وإنما في الدول الأخرى التي تعمل فيها.
الكثير من الشركات العالمية العملاقة مثل أبل، وفولكسفاغن، وجنرال موتورز، ويونيليفر، وبنك مورغان أند ستانلي، وتوشيبا، وسامسونغ، وسيتروين، وفيليبس، وبيربري، وماتسوشيتا إليكتريكس، وكوكا كولا، ومايكروسوفت، وأمازون، تعتمد بشكل كبير على السوق الصينية، والتباطؤ الاقتصادي الحالي، الذي ساهم في خفض الإنفاق الاستهلاكي، وزيادة عدد العاطلين، خصوصا بين الشباب، وتلكؤ قطاع العقارات الهائل، الذي كان مسؤولا بالدرجة الأولى عن النمو الاقتصادي، سوف يؤثر على أرباح هذه الشركات ويدفعها إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين فيها، وفي النهاية تقليص استثماراتها العالمية.
وعلى الرغم من أن الصين هي البلد السادس عالميا من حيث حجم الاحتياطي النفطي، فإنها أيضا ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم، وفق بيانات مؤسسة بروكينغز، إذ تستورد معظم احتياجاتها من النفط من الشرق الأوسط، وبالتحديد من المملكة العربية السعودية. واستنادا إلى بيانات مؤسسة (ساتِستا) الإحصائية، فإن الصين استوردت 81 مليون طن متري من النفط في عام 2021، علما بأن البلاد عموما كانت تخضع للإغلاق الصحي بسبب جائحة كورونا.
ومن هنا فإن التباطؤ الاقتصادي الصيني لابد أن يؤثر سلبا على أسعار النفط العالمية، ولهذا السبب خفضت منظمة أوبك من إنتاجها من النفط، تحسبا لحصول وفرة في الإنتاج النفطي العالمي قد تتسبب في تدني أسعاره، في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد العالمي، كنتيجة مباشرة للتباطؤ الاقتصادي الصيني.
وكالة “فيتش ريتينغز” للتصنيف الائتماني الأمريكية، أعلنت في موقعها الألكتروني في سبتمبر الماضي، أن التباطؤ الاقتصادي الصيني أخذ يضفي غموضا على النمو الاقتصادي العالمي، الأمر الذي دفعها لتخفيض تنبؤاتها لمعدل النمو الاقتصادي العالمي لعام 2024 بنسبة 0.2 بالمئة ليكون 1.9 بالمئة، والنمو الاقتصادي للولايات المتحدة بنسبة 0.2 بالمئة أيضا، ليكون 0.3 بالمئة، ومنطقة اليورو بنسبة 0.3 بالمئة إلى 1.1 بالمئة، والصين بنسبة 0.2 بالمئة إلى 4.6 بالمئة، والأسواق الناشئة (ما عدا الصين) بنسبة 0.2 بالمئة ليكون 3 بالمئة.
ويشمل “مؤشر الأسواق الناشئة ما عدا الصين” 23 دولة هي الهند وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا والسعودية ومصر وماليزيا وتركيا والأمارات وبولندا وتايوان وكولومبيا وجمهورية التشيك واليونان وهنغاريا وكوريا والكويت وبيرو والفلبين وبولندا وقطر وتايلاند.
ويرى اقتصاديون أن هناك مبالغة في وصف الاقتصاد الصيني بأنه “ماكنة النمو الاقتصادي العالمي”. ويقول جورج ماغنس، الاقتصادي في مركز الصين التابع لجامعة أوكسفورد البريطانية المرموقة، في تصريح نشرته (بي بي سي)، إن الصين تشكل 40 بالمئة من النمو العالمي، “لكن هذا النمو ينفع الصين ولا يستفيد منه باقي العالم بالضرورة، لأن الصين تتمتع بفائض تجاري هائل، فهي تصدِّر أكثر بكثير مما تستورد”. لكن الحقائق تشير إلى شيء مختلف، فالواردات الصينية تناقصت أكثر مما كانت عليه حتى أثناء فترة الإغلاق الصحي، ما يعني أن التباطؤ بدأ يؤثر على الدول الأخرى.
واستنادا إلى ما نشرته وكالة رويترز للأنباء في أغسطس الماضي، من مكتبها في بكين، فإن الواردات والصادرات الصينية تناقصت بوتيرة أسرع من المتوقع وأن ضَعف الطلب يهدد احتمالات الانتعاش في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأضافت الوكالة أن الأرقام التجارية المتدنية تُعزِّز التوقعات بأن النشاط الاقتصادي سوف يتباطأ أكثر في المستقبل، وهي سوف تتسبب في إضعاف القطاع الصناعي وتناقص الاستثمارات الخارجية المباشرة.
هل يمكن أن تكون القيود الأميركية على التجارة مع الصين عاملاً في التراجع الاقتصادي الصيني؟ نعم، لا شك في ذلك، فالولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكبر للصين، وقد تراجعت الصادرات الصينية إلى أمريكا هذا العام بنسبة تفوق 15 بالمئة، مقارنة مع الأعوام السابقة، حسب ما نشرته مؤسسة (سي أن بي سي) الأمريكية، أو بنسبة 25 بالمئة، حسب بي بي سي.
ويرى خبراء أن الدول التي تعتمد على صادراتها للصين، مثل البرازيل وأستراليا وبعض الدول الإفريقية التي تصدر موادَ أولية لها، سوف تتضرر كثيرا من هذا التباطؤ، ولابد أن يتأثر اقتصادها به، أو تتمكن من التعويض عنه في أماكن أخرى من العالم.
التراجع الاقتصادي الصيني سوف يؤثر أيضا على الدول التي اقترضت من الصين ضمن “مبادرة الحزام والطريق”، لبناء مشاريع بنى أساسية (تحتية) ضرورية.
فإن تناقصت الأموال المتوفرة للقروض الخارجية، فإن الصين لن تتمكن من المضي قدما في تمويل هذه المشاريع الطويلة الأمد، ما يعني أنها سوف تتعثر، الأمر الذي يلحق أضرارا بالدول المدينة، إضافة إلى الدولة الدائنة (الصين).
لكن تدني أسعار السلع والبضائع الصينية قد يكون محفزا لتدفق الصادرات الصينية إلى الدول الغربية، الأوروبية تحديدا، التي تعاني حاليا من ارتفاع معدلات التضخم، فهي سوف تستثمر في هذه الفرصة، وتسمح باستيراد هذه البضائع المنخفضة الثمن، لأن ذلك سيساهم في خفض معدلات التضخم العالية حاليا فيها، خصوصا وأن عددا منها، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، مقبلة على انتخابات عامة، وخفض معدل التضخم سوف يسمح بخفض أسعار الفائدة، الذي سيخفف بدوره من عبء الديون العقارية لشرائح كبيرة في المجتمعات المعنية، ويحسن الفرص الانتخابية للحكومات الحالية.
كيف ستعالج القيادة الصينية هذه الأزمة الاقتصادية؟ هل ستلجأ إلى تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة وتخفيف دعمها لروسيا في حربها على أوكرانيا؟ أم ستمضي في سياسة الصمود والتحدي الحالية؟ الأمريكيون مازالوا متشددين في التعامل مع الصين. وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، وصفت الصين مؤخرا بأنها بلد “غير صالح للاستثمار”! الصين هي الأخرى مازلت تسير في طريق التشدد، وهذا واضح في خطاب وسائل الإعلام الرسمية الصينية، التي تكيل شتى التهم للقادة الغربيين، وأولاها سيادة “عقلية الحرب الباردة” في تفكيرهم!
الأوروبيون أقل تشددا مع الصين من الأميركيين، فمازالت الوفود الأوروبية تتقاطر على بكين لمواصلة الحوار حول التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية، لكن لا يوجد حتى الآن أي تقدم، وإن اتفق الأوروبيون مع الصينيين، فهل سيقتنع به الأمريكيون، الذين يطالبون الصين بتغيير مواقفها من روسيا ودول أخرى تقاطعها الولايات المتحدة.
رئيس اللجنة البرلمانية في مجلس النواب الأمريكي، مايك غالاهار، يرى أن المشاكل الداخلية في الصين قد تدفع الرئيس الصيني لأن يتصرف بشكل غير متوقع! الرئيس الأسبق، بيل كلينتون قال قبل ثلاثة عقود، إن الصين الضعيفة تشكل خطرا على العالم أكثر من الصين القوية، وقد يكون هذا الرأي أقرب إلى الصواب، فهناك من يتوقع أن تدفع العزلة السياسية والأزمة الاقتصادية، في حال تفاقمها، الصين لغزو تايوان، لكن أكثر المراقبين يستبعدون مثل هذا الاحتمال، لأنه سيزيد المشكلة الصينية تعقيدا، ويدفع العالم الغربي لمقاطعتها ومحاربتها وتضييق الخناق عليها. الرئيس جو بايدن يستبعد حصول ذلك، بسبب انشغال الصين بمشاكلها الداخلية، وفق تصريح أخير له.
الخطر الأكثر احتمالا من الأزمة الصينية الحالية هو انتشار “العدوى” الصينية إلى مناطق أخرى في العالم، أي أن تتسبب في خلق أزمة مالية عالمية، مشابهة لما حصل في عام 2008 عندما انهار بنك (ليمان بروذرز). ولكن، كيف يحصل ذلك ونحن نعلم أن النظام المالي الصيني مختلف كثيرا عن النظام المالي الغربي، الذي تلعب فيه السوق دورا أساسيا في مصائر الشركات والبنوك؟ فالبنك الذي لا يستطيع الصمود في الغرب، ينهار حتما، أو يستولي عليه بنك آخر بمساعدة الدولة. ويستبعد الاقتصادي في مركز الصين في جامعة أوكسفورد، جورج ماغنس، حصول العدوى، “لأن الصين لن تدع أيا من بنوكها الرئيسية ينهار”.
مهما يتمخض عن التباطؤ الاقتصادي الصيني، داخليا أو خارجيا، فإنها ليست المرة الأولى التي تعاني فيها دولة كبرى من التباطؤ أو الكساد. لكن جوهر المشكلة يكمن في أن الصعوبات التي تعاني منها الصين ناتجة بشكل مباشر عن مواقف سياسية صينية، خصوصا وقوفها الفعلي (وليس الرسمي) مع روسيا في غزوها أوكرانيا وزعزعة استقرار أوروبا، ومحاولتها مزاحمة الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا، وتهديدها بغزو تايوان، مع الإبقاء على نظامها السياسي دون إصلاح.
كان الغربيون يتوقعون من الصين أن تتغير سياسيا، أو يأملون في حصول ذلك تلقائيا عند تبنيها لاقتصاد السوق، وقد حصل هذا جزئيا في ظل الرؤساء السابقين، فالرئيس السابق هو جنتاو، مثلا، تخلى عن الرئاسة طوعا بعد دورتين رئاسيتين فقط، وهذا يحصل لأول مرة في الصين. لكن الصين تغيرت اقتصاديا فقط، وأبقت على نظامها السياسي كما هو، بل يرى كثيرون أنه صار أكثر تشددا ومركزية من السابق.
إن لم يكن هناك انفراج في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، فإن العالم سيبقى يعاني من الأزمات السياسية والاقتصادية والبيئية، ومن يدري، فقد تتطور الأمور إلى مواجهات عسكرية، وإن كان هذا مستبعدا في ظل المعطيات الحالية.