يأتي ذلك في ظل ما أثارته مراكز أبحاث ودوائر فكرية وإعلامية غربية عن أن التنظيم ما زال يمتلك كميات كبيرة من الذهب والأموال المسروقة، ولكنه نجح في إخفائها من أجل الاستعانة بها في أي وقت يتمكن فيه من العودة مرة أخرى، وهنا يصبح عدة تساؤلات هي: ما مصير هذه الأموال؟ وأين أخفاها داعش؟ وهل يمكن أن يعود هذا التنظيم الإجرامي مرة أخرى؟

قبل أيام قليلة قال الكولونيل واين مارتو، المتحدث الرسمي باسم التحالف الدولي لمحاربة داعش، في تصريحات صحفية إن التنظيم الإرهابي يسعى للعودة مجددا من خلال عمليات الاغتيالات التي ينفذها في مناطق سورية مختلفة، يخضع معظمها لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية وأخرى تقع تحت سيطرة قوات النظام السوري والتي فقدت العشرات من عناصرها خلال شهر فبراير الجاري في البادية السورية.

قد يكون الكولونيل مارتو محقا حين قال إن تنظيم “داعش” الإرهابي “هزم إقليميا ولم يعد باستطاعته السيطرة على مواقع جغرافية في سوريا أو العراق، لكنه لا يزال يمثل تحديا خطيرا، لذلك نواصل الضغط عليه مع شركائنا الأمنيين المحليين في كلا البلدين”.

لكن ربما يكون قد جانبه الصواب حين قال في نفس التصريحات إن التنظيم صار “مشلول ماليا”، إلا أنه يستمر في التمرد وتوسيع نفوذه باستخدام تكتيكات قتالية كعمليات الاختطاف والاغتيال وترهيب القادة المحليين وقوات الأمن، إذ إن القدرة المالية وليس الشلل المالي هي ما تفسر استمرار خطر داعش رغم انتهاء حلم دولته.

وهناك الكثير من التقارير الاستخباراتية التي ربما تكون قد توقعت أو تنبأت باستمرار خطورة التنظيم بعد إعلان هزيمته قبل أكثر من ثلاثة سنوات بالنظر إلى حجم ما يمتلكه من أموال قد تمكنه من استئناف تنفيذ مخططاته.

ففي في ديسمبر 2018 نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤولين استخباراتيين وخبراء في مكافحة الإرهاب قولهم: إنه بعد مرور أكثر من عام على انهيار نظام الخلافة المزعوم الذي أعلنه تنظيم داعش، فإن التنظيم ما زال يمتلك حتى اللحظة كمية مهولة من الأموال المسروقة والتي قد تصل إلى 400 مليون دولار، أخفاها قادته لتمويل العمليات الإرهابية وضمان استمرار التنظيم لسنوات مقبلة.

وبحسب الصحيفة الأميركية، حمل مقاتلو داعش أثناء انسحابهم من معاقلهم السابقة في العراق وسوريا مبالغ طائلة بالعملات الغربية والعراقية والعملات الذهبية اكتسبوها كلها تقريبا من نهب البنوك وممتلكات الغير.

وفي حين تم دفن جزء من هذه الثروة، أو أخفيت بعيدا عن الأنظار، قام قادة التنظيم بغسل عشرات الملايين من الدولارات من خلال الاستثمار في أعمال تبدو شرعية في الشرق الأوسط على مدار الأعوام القليلة الماضية، بهدف تمويل عودة مستقبلية لتنظيم داعش، وهو احتمال كان يخشى من حدوثه في سوريا بعد القرار الأميركي المتعجل بسحب القوات الأميركية من هناك، والذي أعلنته إدارة ترامب في ديسمبر 2018 قبل التراجع عنه، وهو الأمر الذي يتجلى الآن بقوة في مناطق سورية متفرقة تنشط فيها عمليات الاغتيال التي ينفذها التنظيم الإرهابي، حيث تبنى في شهر يناير الماضي، اغتيال الناشطتين سعدة فيصل الهرماس وهند لطيف الخضير بريف مدينة دير الزور.

وفي العراق يخشى مسؤولوه من أن تساعد الأموال المتبقية لدى داعش في تمويل العنف المتصاعد في المحافظات العراقية الشمالية القريبة من الموصل وكركوك، مستشهدين على ذلك بأنه بعد مرور أقل من عام على تحرير تلك المناطق، نفذ الإرهابيون عشرات من عمليات الاغتيال والتفجيرات، كان معظمها يستهدف زعماء القبائل والحكومة وضباط الشرطة، وهي العمليات التي عادت بقوة خلال الأشهر القليلة الماضية، وكل هذا جزء مما يخشى المسؤولون العراقيون من أنه تحول تنظيم داعش إلى حركة تمرد غامضة يصبح تحديدها ومواجهتها أصعب مستقبلا.

وبعيدا عن سوريا والعراق، هناك تقارير دولية كثيرة تحذر من أن خسارة التنظيم لمعاقل نفوذه التقليدية لا تعني نهايته ولا تعني انتهاء جهوده في استقطاب عناصر جديدة تمكّنه من الحفاظ على فكره ونشاطه، وإنما قد تكون تلك الخسارة مجرد إيذان ببدء مرحلة جديدة يعيشها تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، ويسعى فيها لإعادة تموضعه جغرافيا بحثا عن ملاذات آمنة جديدة ومناطق انتشار مغايرة تمكنه من البقاء، مثل مناطق عدة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

ومن أبرز التقارير الدولية التي تعني برصد أبرز الاتجاهات العالمية والإقليمية للتهديدات الإرهابية وتطوراتها وتجلياتها كان تقرير “مؤشر الإرهاب العالمي” الذي يصدر عن “معهد الاقتصاد والسلام” الأميركي ويرصد وبحلل آثار وتداعيات الإرهاب في 163 دولة تغطي نحو 99% من سكان العالم.

هذا المؤشر انتهى في نسخة عام 2018 إلى أن هناك توجها عاما طغى على التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة بضرورة التحرك بعيدا عن مناطق الصراعات التقليدية، مثل منطقة الشرق الأوسط، وضرورة إعادة الانتشار جغرافيّا، والتموضع في مناطق جديدة بعيدة عن دائرة الضوء بما يمنح تلك التنظيمات حرية أكبر في الحركة، وهامشا أوسع للمناورة، وهنا أشار التقرير إلى ثلاثة مناطق رئيسية باتت تحظى باهتمام التنظيمات الإرهابية لاسيما داعش، اثنتان منهما في أفريقيا والثالثة في آسيا، وهذه المناطق هي: منطقة الساحل الأفريقي التي أصبحت تشهد تنافسا على النفوذ بين تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، منطقة الحزام الأوسط في نيجيريا التي تشهد صراعا على الموارد والمراعي بين المجموعات الموجودة في المنطقة، منطقة جنوب شرق آسيا التي تشهد موجة جديدة من الإرهاب تتزعمه المجموعات التابعة لتنظيم “داعش” والحركات الانفصالية في دول تلك المنطقة. وقد أثبتت أحداث العامين السابقين مدى مصداقية ما انتهى إليه هذا التقرير بعد أن تبنى داعش مسؤولية الكثير من الأعمال الإرهابية الدامية التي جرت في دول مثل سيرلانكا والفلبين ونيجيريا.

الخلاصة هنا هي أن داعش ما زال يشكل تهديدا كبيرا وجديا على أمن العالم واستقراره، وخطره لا يزال حاضرا، وخطورته لا تزال قائمة، والتسليم بأن داعش انتهى، واتخاذ قرارات بناء على هذا الافتراض الخاطئ، هما أكبر هدية يمكن تقديمها لهذا التنظيم الإرهابي، فهذا منتهى مراده وأكثر ما يصبو إليه؛ تخفيفا لما عليه من ضغوط، وتحيُّناً لفرصة يلتقط فيها أنفاسه ويستوعب فيها خسائره ويعيد تنظيم صفوفه في مناطق وجوده التقليدية، ويرسخ فيها وجوده في بؤر انتشاره الجديدة. لذا فإن هناك مسؤولية كبيرة لا تزال قائمة على التحالف الدولي لمحاربة داعش، واستمرار هذا التحالف لا يجب أن يكون محل نقاش، ومهمته لا يجب أن يطالها أي تغيير مع التغير الذي شهدته الإدارة الأميركية الشهر الماضي، فداعش لم ينته، لذا لا يجب أن ينتهي التحالف الذي نشأ من أجل محاربته.