سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
داليا محمد
بمجرد وضع اسم ليز تراس في محرك البحث “غوغل” تلفت نظر القارئ طبيعة العناوين التي تتناول صعود وسقوط هذه السياسية البريطانية. أولاً التركيز الشديد على كونها امرأة (بعض الأمثلة “من هي المرأة التي ستخلف جونسون؟” و”امرأة حديدية جديدة تحكم بريطانيا” و”ليز تراس المرأة التي تتزعم حزب المحافظين” و”من الذي أطاح المرأة الحديدية الثانية؟” و”ثالث امرأة تتبوأ رئاسة وزراء بريطانيا”). ثانياً، وبغض النظر عن أن فترة حكمها غير مسبوقة في قصرها (44 يوماً فقط)، هناك لمسة من التهكم وحتى الشماتة في الطريقة التي تناقلت بها بعض المصادر الحدث (“سقوط تراس بعد ترنحها” و”تتويج خسة بعد تفوقها على تراس” و”تراس تخرج من 10 داونينغ ستريت من بوابة المرأة الحديدية”). كما وصفت تراس من قبل الصحافة والسياسيين بـ”الحرباء” و”الزئبقية” و”المجنونة”.
بين التهليل والاستغراب
يطرح هذا بعض الأسئلة في ذهني: لماذا هناك ميل للتركيز على “صلابة” و”قوة” و”نجاح” المرأة التي تبرز في الشأن العام وكأن الطبيعي هو أن تكون هشة وضعيفة؟ لو كان الحال كذلك، لماذا يسلط الضوء على “سقوطها” و”فشلها” وكأنه أمر مفاجئ؟ ولماذا لا نجد اهتماماً مماثلاً بالهوية الجندرية للسياسيين الرجال، بل يكون التركيز على إنجازاتهم أو أخطائهم لا أكثر؟
صحيح أن الحضور السياسي للمرأة في بريطانيا والعالم بشكل عام حديث نسبياً، لكن ألم يكن ما يزيد على مئة عام كافياً لتطبيع وجود المرأة في الشأن العام البريطاني؟ (أول امرأة وصلت إلى مجلس اللوردات في بريطانيا عن حزب المحافظين عام 1919).
هللت الجماعات النسوية والحقوقية لوصول تراس إلى رئاسة الحكومة، حيث اعتبرت وجود امرأة في هذا المنصب في دولة بأهمية بريطانيا يرجح كفة الزعيمات في أوروبا بعد زمن طويل من الهيمنة الرجالية، لكن هل كان تعيين تراس انتصاراً للنسوية لمجرد كونها امرأة؟ وهل كان سيعتبر انتصاراً فقط لو قررت استخدام سلطتها لسن سياسات نسوية؟
الإجابة هي نعم ولا. قبل ستة أعوام، وجد أكاديميون من جمعية العلوم السياسية الأميركية أن تعيين سيدات في مناصب سياسية عليا أدى باستمرار إلى زيادة المشاركة السياسية للنساء في بلادهن. وخلصوا إلى أن وجود النساء بنسبة أعلى في مجلس الوزراء يزيد من المشاركة التقليدية للمرأة (التصويت والعضوية الحزبية) وتوقيع العرائض والمشاركة في التظاهرات السلمية. ومع أن البحث لم يشمل حينها المملكة المتحدة، إلا أنه نظر في استطلاعات رأي من 20 دولة ديمقراطية مختلفة حول العالم، ولا أعتقد أن هناك سبباً وجيهاً يجعل بريطانيا استثناءً.
كما أن وجود أعداد أعلى من البرلمانيات بالمجمل له تأثير إيجابي، ولو بدرجة أقل. لو صوت عدد أكبر من النساء في الانتخابات وأصبحن ناشطات، فلن يكون أمام الأحزاب السياسية خيار سوى أخذ مزيد من اهتمامات المرأة وآرائها وخبراتها في الاعتبار وستصبح فرصتها في تقلد مهام رئيسة أكبر.
حتى لو لم تكن النساء في الصفوف الأمامية دائماً، علينا ألا نهمل التأثير الداخلي للنائبات في المقاعد الخلفية غير المرئية على صنع السياسات.
ويبدو أن الحضور النسائي مفيد للطرفين، وليس للمرأة فقط، كما بينت ورقة بحثية قامت بها كلية لندن الجامعية حللت فيها الخطب الملقاة في مجلس العموم على مدار 20 عاماً، وتبين أن المجلس الأكثر تنوعاً هو أكثر فاعلية.
ورد في البحث أن النساء يتخذن نهجاً أكثر واقعية ويوجهن المناقشة للنظر في آثار هذه السياسات على مجموعات وأفراد معينين في المجتمع، مثل الأمهات العازبات أو الأسر في المناطق الريفية أو الأشخاص ذوي الإعاقة، بالتالي فإن النساء والرجال يركزون بشكل مختلف في مناقشة السياسات، حيث تسهم النساء باهتمام ذي طابع فردي وشخصي أكثر بالتالي يقدمن منظوراً مختلفاً للنقاش.
من هذا المنطلق، يجب اعتبار وصول تراس إلى منصبها الأخير خطوة إيجابية لا يمكن إنكارها وأن تعيينها بعد ذلك عدداً من النساء في حكومتها أمر جيد، إذ اختارت تيريز كوفي لوزارة الصحة ونائبة لها، وسويلا بريفرمان وزيرة للداخلية، بينما تتولى بيني موردونت رئاسة مجلس العموم.
مع ذلك، فالأمر ليس بهذه السهولة. التمثيل في المناصب العليا أو الدنيا هو جزء واحد فقط من المعادلة. فما تفعله هؤلاء النساء بالسلطة الممنوحة لهن هو المهم، وليس من الواضح ما هي نتيجة سقوط ليز تراس فائق السرعة وإضاعة تلك القوة من يدها (وأيدي نساء كثيرات بالتالي).
انتقادات نسائية لتراس
لو عدنا إلى بداية حلم تراس بأن تصبح تاتشر الثانية في حزب المحافظين، نجد أن فرصتها كانت أقل من ضئيلة. في الانتخابات الأخيرة، كان ميل النساء للتصويت لصالح حزب العمال أكبر من الرجال، وكانت نسبة شعبية حزب العمال بين الناخبات الشابات مذهلة، إذ بلغت ثلاثة أضعاف.
انطلاقاً من هنا، لم يكن من المرجح أن يرضي حكم تراس تلك النساء، ولا حتى من هن في معسكرها، حيث تمتلك العضوات المحافظات وجهة نظر أقل يمينية عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاقتصادية. ونظراً إلى كون المرأة هي الأكثر تضرراً بأزمة كلفة المعيشة الحالية، من الطبيعي ألا تؤيد أي سياسات ستزيد وضعها سوءاً.
عندما كانت وزيرة سابقة لشؤون المرأة والمساواة، تعرضت تراس لانتقادات شديدة من قبل لجنة المرأة والمساواة في البرلمان العام الماضي، واتهمت بالتعامل مع المنصب الذي شغلته إلى جانب عملها وزيرة للخارجية، على أنه “عبء هامشي”، كما انتقدت في الماضي النهج التعليمي الذي تلقته شخصياً، وأعربت عن أسفها لأنه “بينما كنا نتعلم عن العنصرية والتمييز على أساس الجنس، كان هناك قليل من الوقت الذي نقضيه في التأكد من أن الناس يستطيعون القراءة والكتابة”.
وخلال المدة الوجيزة التي قضتها رئيسة للحكومة على رغم كل مزاعمها النسوية وتأكيدها أن المرأة يجب أن تكون مستقلة، أوضحت معارضتها نظام الحصص بين الجنسين في البرلمان والقوائم المختصرة النسائية المحضة في الانتخابات و”سياسات المرأة”. باختصار، أي شخص كان يتوقع أن تؤسس تراس لمدينة فاضلة نسوية، كان سيصاب بخيبة أمل.
أرقام وحصص
لكن هذا لا يعني أنه يجب استبعاد جنسها تماماً عن المشهد. فكما هو الحال في عدد لا يحصى من الموضوعات السياسية الأخرى، أصبحت مسألة التمثيل في السياسة مسألة أبيض وأسود وأرقام وحصص، لا أكثر. ويرى مناصرو النسوية أن وجود المرأة في مناصب سياسية عليا ضروري بغض النظر عما يفعلنه في تلك المناصب.
إذا بقيت النساء السيئات قادرات على صعود السلم الذي يتسلقه الرجال السيئون لزمن طويل للوصول إلى السلطة، فسيبقى وضع المرأة في المجتمع سيئاً في كلتا الحالتين.
من المؤسف أن امرأة وصلت للمرة الثالثة إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا، لكنها لم تكن عازمة على جعل البلاد مكاناً أفضل وأكثر أماناً ورفاهية للنساء، ولا يبدو أن استقالتها ستبعث أي أمل بذلك.
على مستوى القارة بأكملها، وخلال العشرية الأخيرة، تمكنت نساء في دول أوروبية عدة من الوصول إلى مناصب مهمة في السلطة. من أصل 44 دولة، ترأس نساء حكومة كل من اسكتلندا وفرنسا والسويد والدنمارك وفنلندا وأيسلندا وإستونيا وليتوانيا وصربيا ومولدافيا إلى جانب رئاسة كل من سلوفاكيا والمجر وجورجيا وكوسوفو ومولدافيا.
هناك أمثلة سابقة على كفاءات نسائية أثبتت حضورها بشكل منقطع النظير على مستوى أوروبا والعالم مثل مارغريت تاتشر التي في رصيدها الانتصار بحرب فوكلاند مع الأرجنتين عام 1982 وثلاثة انتخابات تشريعية، وأنغيلا ميركل التي كانت أول سيدة تصل إلى منصب مستشارة ألمانيا في عام 2005 وعرفت بقوتها وصلابتها في مواجهة زعماء العالم، بينظير بوتو التي كانت أول وأصغر رئيسة لدولة مسلمة في العصر الحديث واشتهرت بشجاعتها وجرأتها، وغولدا مائير التي تحولت من فتاة روسية فقيرة منفية في أميركا إلى أول رئيسة وزراء وأقوى امرأة في إسرائيل.
ولعل أبرز امرأتين ما زالتا في منصبيهما حالياً وجذبتا العالم بقراراتها هما رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن التي حظيت بإشادات دولية ودعم كبير من مؤسسات ومنظمات حقوقية ونسوية في تعاملها مع أزمات التطرف وجائحة كورونا وغيرهما، ورئيسة البنك الأوروبي المركزي كريستين لاغارد التي شغلت حتى عام 2019 منصب مدير عام صندوق النقد الدولي (كانت أول امرأة في المنصب)، وأسهمت في دعم السياسات الدولية المتعلقة بالرقابة والتنظيم الماليين وتعزيز الحوكمة الاقتصادية العالمية.
وشهد منصب رئيس الحكومة في بريطانيا استقالات كثيرة منذ بداية القرن الماضي، ومن بين أحدث رؤساء حكومات بريطانية الذين أجبروا على الاستقالة هناك بوريس جونسون وديفيد كاميرون وغوردون براون وجون ميجور، لكن يبدو أن استقالة تراس أحيت خيبة تيريزا ماي ومارغريت تاتشر أكثر من غيرهما، لمجرد كونهما سيدتين.
من الناحية التشريعية، فإن الحكم في بريطانيا والغرب بالعموم مرتبط بالمؤسسات وليس بالأفراد الذين يتولونها، ومع أن النساء أصبحن أخيراً يتمتعن بنفوذ كبير أكثر من قبل، وفتح المجال أمامهن لشغل مناصب مهمة، ومنحن حرية لا بأس بها في معظم دول العالم بعد إثباتهن قدرتهن على المنافسة في الاختصاصات المختلفة، لكن إلى متى سيعطى فشل المرأة أهمية مضاعفة أكثر من حجمه الحقيقي؟ وإلى متى سينظر إلى قيادة البلاد على أنها وظيفة “ذكورية”؟ وإلى متى سيبقى التعامل مع المرأة وكأنها “دخيلة” على الزعامة؟
المصدر: إندبندنت عربية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر