والقارة التي شهدت حروبا عظمى في أوائل القرن الماضي عانت دائما من حروب بين الدول والملوك والأمم طوال قرون ما قبل ذلك، بعضها لأسباب جيوسياسية تقليدية، وبعضها الآخر بسبب التنافس على الهيمنة والتجارة والنفوذ، وبعضها الثالث ديني مذهبي، ليس فقط بين كنيسة غربية كاثوليكية وشرقية أرثوذكسية، بل بين الكاثوليك والبروتستانت على ما عُرف خصوصا بحرب المئة عام (دامت 116 عاما ما بين 1337 و1453).

ولئن لعبت ألمانيا دوراً مركزيا في الحربين العالميتين، الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، فإن الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول كان يرى أن ألمانيا ذات طبيعة عدوانية، مذكراً بأنها شنّت ضد بلاده “ثلاثة حروب في حياة إنسان”، مشيرا، إضافة للعالميتين، إلى الحرب البروسية الفرنسية (1870-1871). في هذا السياق لم يجد ديغول الحلّ إلا في تقسيم ألمانيا وتفتيتها لإفراغ عدوانية لا علاج لها.

لم تكن تمنيات ديغول أحلاما. تقسّمت ألمانيا بعد هزيمة النازية إلى مناطق نفوذ فرنسية بريطانية أميركية سوفياتية. وكاد النفوذ الطارئ أن يصبح نهائيا بشكل أو بآخر، لكن اندلاع الحرب الكورية (1950-1953) ودخول العالم في حقبة الحرب الباردة بعد ذلك أنقذ ألمانيا من قدر التفتت واكتفت بمصير قسّمها إلى شرقية وغربية حتى وحدتها الحديثة (1990).

على أن وقف حروب أوروبا احتاج إلى الانخراط في مغامرة تجمع إقليمي أوروبي بدأ بإنشاء مجموعة الفحم والصلب (1951) مرورا بالسوق الأوروبية المشتركة (1957) انتهاء بالاتحاد الأوروبي (1993). والتوق إلى تثبيت السلام ووقف مسلسل الحروب الذي لا ينتهي في القارة، قاد ألدَّ أعداء الأمس، فرنسا وألمانيا، بزعامة ديغول وكونراد أديناور، إلى إطلاق مشروع مغامر لقيام “أوروبا السلم” التي دعا ديغول لاحقا، في عزّ الحرب الباردة (خطاب ستراسبورغ 1959)، إلى أن تكون ما بين الأطلسي وجبال الأورال في روسيا.

وعلى هذا أوقف المشروع الأوروبي حروب أوروبا. وعلى هذا أيضا فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أطلق موجة تشكيك بجدوى “أوروبا” ومنظومتها الإقليمية، لكنه أيضا سدد ضربة إلى المشروع التاريخي الوحيد الذي استطاع فرض السلم وجعله نهائيا على النقيض من الحكاية التاريخية للقارة. وعلى هذا أيضاً فإن المدافعين عن “الفكرة الأوروبية” يشعرون بهول التحدي الذي تمثّله الحرب في أوكرانيا هذه الأيام للسلم، ويخشون أن تغادر القارة استثناءها لتعود إلى “عاداتها” التاريخية السوداء.

واللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أظهر، منذ بدايات حكمه في موسكو (1999) عداء للاتحاد الأوروبي (وهو عداء تقاسمه للمفارقة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب). ولم يخفِ زعيم الكرملين هذا العداء، وسعى للتعامل مع “أوروبا” بالمفرّق وليس بالجملة، من خلال تعامل كيفي مع الدول الأعضاء على نحو جعله قريبا من هذه العاصمة ومعاديا لأخرى. واللافت أيضا أن موسكو في عهده دعمت كل الأحزاب والتيارات الأوروبية، وأكثرها متطرّف، من اليمين واليسار، التي يجمعها كره الاتحاد الأوروبي والتشكيك بنجاعة وجوده.

والحال أن توق الاتحاد الأوروبي للحفاظ على منجز السلم النادر، جعله مُجمعا في الداخل متقدماً في الخارج للتسويق للسلم مع روسيا بزعامة بوتن. وفيما يتحدث الأوروبيون مؤخراً عن “أخطاء” ارتكبت خلال العقود الأخيرة تحت مسوغ الدفاع عن السلم، فإنهم يعبّرون بحرقة عن ندم من غياب ردّ رادع خلال العقود المنصرمة ضد ما اقترفته موسكو بقيادة زعيمها في الشيشان وجورجيا والقرم … إلخ، ويعتبرون أن ما اعتبروه حكيماً في سياسة العقوبات المحدودة أو الشكلية والاستمرار في تطوير العلاقات مع موسكو، فهمته الأخيرة تراخيا وضعفا، وربما كان السبب في إغراء بوتن للإقدام على مغامرته الأوكرانية التي تمثّل أكبر تهديد للسلم والأمن في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

في أوروبا من ما زال فخورا بالقانون والحوار والتعاون ترياقا للسلم. وفي أوروبا من بات يعتبر أن في سياسة التجارة والتبادل والمداراة سذاجة لا تصون ذلك السلم المتوخى، وأن لذلك السلم الاستثنائي حقّ يتطلب أن يمتلك مخالب وأن تكون القوة والردع أدوات مستيقظة لمنع العودة إلى غياهب حروب باتت مدمّرة للكون بأكمله هذه الأيام.