سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
رقية الزميع
السادس والعشرون من سبتمبر من عام ألفين وسبعة عشر، هو اليوم الذي أصدر فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – قراره التاريخي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في المملكة، ليضع الكلمة الفصل، ويتم غلق هذا الملف نهائيًا. سيظل محفورًا في ذاكرة التاريخ، أن الملك سلمان – حفظه الله -هو القائد الذي انتصر للمرأة، واتخذ هذا القرار التاريخي والشجاع في أشد القضايا حساسية، وأكثرها إثارة للجدل، على الرغم من كونها لا تعدُّ المعضلة الكبرى، وسيبقى لأجيال أخرى، حاضرًا في ذاكرة المجتمع السعودي في رمزية لمسيرة الإصلاح ومعالجة التحديات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية عمومًا، وقضايا المرأة على وجه الخصوص، وهو ما كانت رؤية المملكة 2030 تعمل لتحقيقه في إطار مؤسسي. وهو أيضًا انتصار للتشريعات التي تراعي كافة أفراد المجتمع، وتكفل لهم الحقوق التي تمكنهم من العمل والمساهمة في بناء وطنهم دون تمييز. وأيضًا نجاح للمجتمع الذي طالما أكد أن لديه “خصوصية” ثقافية ودينية، أثبتت – اليوم – تمكنها من المواءمة بين المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الحالية، والتكيف مع التحديات المستقبلية.
لوقت طويل، رأى الكثيرون أن تمكين المرأة من القيادة، يعدُّ انتهاكًا للمحرمات الدينية، أو انتهاكًا “لخصوصية” المجتمع السعودي، واستخدم هذه القضية الكثيرون للمزايدة والإدلاء بتصريحات أضرت بصورة المملكة، على الرغم من أنه لا يوجد نص ديني يحلل، أو يحرم مسألة كهذه، وعلى الرغم – أيضًا – من أنه وعلى مرِّ التاريخ الإسلامي تمكنت المرأة، مثلها مثل الرجل، من التنقل دون فرض قيود على استخدامها للراحلة، ولم يوجد في التراث الإسلامي ما يشير إلى أن تلك المسألة، قد أحدثت جدلاً عقائديًا أو تشريعيًا. ولم يستند محرمو القيادة على المرأة، إلى نص شرعي صريح، بل اجتهادات من قاعدة سد الذرائع. اليوم، قد انتفت كل تلك المخاوف، وبالخطوة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين من أخذ هذا القرار، وبخاصة بعد استشارة هيئة كبار العلماء، التي رأت أن يتم رفع الحظر، مع سنِّ التشريعات التي تحفظ للجنسين القيادة بأمان، ولا يكتمل الحفاظ على أمن المجتمع إلا بها.
ومن جانب آخر، فإن “خصوصية” المجتمع السعودي، النابعة من الدين الإسلامي، خاتم الأديان، والصالح لكل زمان ومكان، والمرتبطة بأخلاق وقيم أبناء الجزيرة العربية، التي مكَّنتهم من التعامل مع جميع الظروف والمتغيرات بمرونة دون التفريط بأصالة تلك العادات والتقاليد، أثبتت – اليوم – أنها قادرة على التكيف مع المتغيرات التي تفرضها التطورات التي شملت كل مناحي الحياة، وأن هذه الخصوصية تتشارك بها مع جميع المسلمين في العالم في قيمهم الدينية، وفي نفس الوقت مع كل شعوب العالم في قيمهم الإنسانية أيضًا.
لقد عانت المملكة لوقت طويل، المساس بصورتها أمام الرأي العام الدولي، على الرغم مما تقوم به من عمل إيجابي كبير على الصعيد الدولي، سياسيًا وإنسانيًا، كتقديم الدعم والمساندة للقضايا الإنسانية، ما جعلها تتبوأ مكانة متقدمة كأكبر المانحين الدوليين. وداخليًا، كانت قضايا المرأة، الملف الأبرز، ولا تزال تحتل الجزء الأكبر من الدعم والاهتمام من القيادة السياسية بمراجعة واستحداث التشريعات الملائمة لتكفل لها المزيد من الحقوق التي تتعلق بالقضايا الاجتماعية، وضمان مشاركة أوسع في سوق العمل، وتوفير فرص أكبر للتعليم في داخل المملكة وخارجها، وتمكينها من المشاركة السياسية، إضافة إلى صدور أوامر ملكية تقضي بتقديم الخدمات الحكومية لها دون مطالبتها بموافقة ولي أمرها، ولكن تأخر صدور بعض التشريعات لاعتبارات نظامية وبحثية ولقضايا محدودة للغاية، كانت ذريعة استخدمتها الكثير من المنظمات لابتزاز المملكة سياسيًا، واتخذتها مبررًا لانتقاد النهج الداخلي القائم على الشريعة الإسلامية. فبعد صدور هذا القرار، أي علامة استفهام ستختلقها تلك المنظمات حول وضع المرأة في المملكة، ستكون الإجابة بألف علامة تعجب، فالمرأة تسير في طريقها الطبيعي، وعجلة الإصلاح تمضي في طريقها الصحيح.
القيادة السياسية في المملكة كانت، وعلى مدى طويل، تؤكد أن قرار الحظر لا يستند إلى سبب شرعي، وإنما مثل هذا القرار تُحدِّده اعتبارات اجتماعية، وهو الطرح الذي اتجهت به أيضًا للرأي العام الداخلي برسالة مفادها أن القيادة السياسية لا ترى في هذا الأمر انتهاكًا لمحظور ديني أو قانوني، وإنما هو شأن اجتماعي بحت؛ ما مهَّد الطريق للمضي قدمًا في معالجة هذا الملف اجتماعيًا، حتى جاءت اللحظة المناسبة لاتخاذ خطوة لصالح وضع الكلمة الفصل، وقفل هذا الملف بالسماح للمرأة بالقيادة بشكل نظامي، لا سيما أن الواقع الآن أثبت أن المجتمع في أمس الحاجة لإزالة هذا الحظر؛ لذا جاء الأمر السامي اختياريًا لكل أفراد المجتمع من رجال ونساء، وليس إلزاميًا، وربط التنفيذ بمدة زمنية لأجل منح الفرصة لسنِّ مزيد من الأنظمة والتشريعات التي تجعل من القيادة لكلا الجنسين، أمرًا أكثر أمانًا وسلامة. إن السماح للمرأة بقيادة السيارة هو أبعد من قرار تنظيمي، حيث استنزف الكثير من الجهد والنقاش داخليًا، وفتح الباب لاستغلاله من أصحاب الأجندات الخاصة لطرح أفكار ساذجة استخدمها الإعلام العالمي ذريعة لتشويه صورة المجتمع.
لكل مرحلة تحدياتها، ولكل جيل تطلعاته أيضًا، فالقضايا التي شكلت تحديًا للمجتمع في عقود سابقة لم تعد كذلك الآن، وبالتالي فإيلاء الاهتمام بقضايا وتطلعات المرحلة الحالية، وتوفير الإدراك اللازم لها، سيمكن أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة من المضي قدمًا لتحقيق إنجازات أكبر في مسيرة بناء الوطن، وسيشكل لبنة في نهج التوفيق بين المتغيرات العالمية والثوابت المحلية.
وهذا القرار، على الرغم من أهميته، يجب أن لا يحجب إنجازات كبيرة حدثت سابقًا، وشكلت حجر أساس لمزيد من الإصلاحات في سبيل دفع وتعزيز دور المرأة، وزيادة تمثيلها في المواقع القيادية، وفتح مجالات عمل لها لم تكن مطروحة في السابق في سوق العمل بتشريعات وضوابط حفظت لها حقوقها وكرامتها، أو حتى القرارات المتعلقة بتحديث النظام التعليمي، وتمكين الفتيات من ممارسة الأنشطة الرياضية، سواء على مستوى تشكيل أعضاء مجلس الشورى بنسبة الثلث من السيدات، أو تمكين المرأة من الترشح في المجالس البلدية والتعيينات التي وصلت إلى منصب نائب وزير لحقيبة التعليم في وقت سابق، أو عضوية مجالس إدارة لهيئات حكومية وشبه حكومية وخاصة، وكان أحدثها تعيين سيدة كمتحدثة رسمية لسفارة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن.
المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، وإنما هي من تصنع الروح والهوية له؛ لذا فتمكين المرأة والعمل على حفظ كرامتها، ومنحها مزيدًا من الاستقلال والثقة، ومراعاة تيسير حركتها، هو دفع إيجابي يصب في تقوية المجتمع الذي هو الركيزة الأساسية للدولة دون التمييز بين أفراده. وتشير التقارير إلى أن ثلث قوة العمل في المملكة من النساء، ومن المرجح أن ترتفع إلى أكثر من ذلك، حيث تبلغ نسبة مشاركة المرأة حاليًا 17%، ومرجح ارتفاعها إلى 40% تدريجيًا، وهو ما يضيف حوالي 64 مليار سنويًا للناتج المحلي الإجمالي للمملكة، والكثير من الآثار الاقتصادية الإيجابية التي سوف تترتب على هذا القرار، حيث من المتوقع أن ينعكس على ارتفاع مبيعات السيارات، وانتعاش سوق التأمين، ووفورات تشكل حوالي 25 مليار من أجور السائقين الذين يقدر أعدادهم بحوالي 1.4 مليون سائق أجنبي في المملكة. والأمر الأكثر إلحاحًا، هو أنه يتماشى مع التحديات الاقتصادية الحالية التي تواجه الأسرة السعودية، فتركيبة الأسرة السعودية في وقتنا الحاضر، حصل لها الكثير من التغيير، سواء من حيث الدخل، أو عدد أفراد الأسرة، أو نوع المسكن، ما يعد وجود سائق، عبئًا لا يمكن لأسرة صغيرة من الشباب – وهم من يشكلون النسبة الكبرى من سكان المملكة – أن تتحمله.
وعد ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، أن تكون رؤية المملكة 2030، نابعة من استثمار كل طاقات المملكة البشرية والطبيعية والجغرافية، واعتبر أن المرأة التي تشكل 50% من مجتمعنا، هي عنصر مهم في قوته، ويجب المضي باستثمار طاقتها وتهيئة السبل لرفع مشاركتها في سوق العمل بما تصل نسبته من 22% إلى 30%، وتذليل الصعوبات التي تحد من بلوغ ذلك الهدف، بهذا القرار الذي ينضم إلى قرارات سابقة، وأخرى متوقعة، لدفع أقوى لعجلة التنمية ولتحقيق الأهداف المرجوة منها. رسالة المملكة 2030 للداخل والخارج، هي أن المملكة سوف تمضي في طريقها لبناء مستقبلها بأيدي أبنائها، وأن المرأة والرجل هما نواتا المجتمع، ولديهما ذات الفرص والحقوق على حدٍّ سواء، ومعيار التفوق والثقة هو الكفاءة فقط، دون النظر لأي اعتبارات أخرى.
باحثة في العلاقات الدولية *
@RuqayaAlzamia
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر