سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
براهما شيلاني
هناك تحول طال انتظاره في السياسة الصينية؛ فبعد عقود من “المشاركة البناءة”، وهو النهج الذي عزز الصعود الصيني، حتى في الوقت الذي انتهكت فيه “بكين” القواعد والمعايير الدولية، تسعى الولايات المتحدة الآن إلى اتخاذ تدابير مضادة فعالة وملموسة في مواجهة الصعود الصيني في السياسة الدولية، لكن هنا يثار تساؤل: هل فات الأوان لكبح الجماح الصيني، بمساعدة الولايات المتحدة، باعتبار أن “بكين” هي المنافس الجيوسياسي الرئيسي لواشنطن؟
لقد نظر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون منذ “ريتشارد نيكسون” إلى “باراك أوباما”، إلى مساعدة النهضة الاقتصادية للصين كمسألة “مصلحة وطنية”. وكان الرئيس الأميركي الأسبق “جيمي كارتر” أصدر إحدى المذكرات الرئاسية التي تحمل نفس المضمون. فحتى عندما تحدت الصين قواعد التجارة العالمية، وأجبرت الشركات على تقاسم ملكيتها الفكرية، واستعرضت قوتها العسكرية، التزمت الولايات المتحدة، الصمت، وتبنت الأمل الساذج، بأنه مع ازدهار الصين على نحو متزايد، فإنه من الطبيعي أن تسعى إلى تحقيق الحرية الاقتصادية، بل حتى التحرر السياسي.
إن “خيال الصين” الأميركي، كما يسميه الصحفي والمؤلف جيمس مان، تجسّد من خلال “حُجَّة” بيل كلينتون الداعمة للسماح بقبول الصين في منظمة التجارة العالمية، والتي استشهد فيها برؤية الرئيس “وودرو ويلسون” حول “الأسواق الحرة، والانتخابات الحرة، والشعوب الحرة”؛ فقد أعلن كلينتون أن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية من شأنه أن يبشر بمزيد من الانفتاح والحرية للشعب الصيني.
لكن هذا، ليس ما حدث؛ فبدلاً من ذلك، وضعت الصين نفسها في مركز سلاسل القيمة العالمية للتصنيع، حيث نقلت عددًا لا يُحصَى من الشركات إنتاجها إلى الكثير من البلدان – بما في ذلك من الولايات المتحدة – مع الحفاظ على أسواقها وسياساتها وشعبها تحت رقابة مشددة. وفي الواقع، أصبحت النظام الحاكم للصين أكثر ترسخًا في السنوات الأخيرة، حيث استخدم الحزب الشيوعي الصيني التكنولوجيا الرقمية لبناء دولة مراقبة. وفي هذه الأثناء، مُنِيَت الولايات المتحدة بخسائر تقدر بتريليونات الدولارات في إطار العجز التجاري الثنائي أمام الصين.
ومع ذلك، تواصل الخيال الأميركي تجاه الصين، مما دفع أوباما للنظر إليه عندما أنشأت بكين “الجزر الاصطناعية” في بحر الصين الجنوبي. وفي ذروة بناء جزيرة للحكومة الصينية، قال أوباما إن “لدينا مخاوف كثيرة من النجاح الصيني وتهديداته المتصاعدة”. ونتيجة لذلك، أحكمت الصين، بحكم الأمر الواقع، السيطرة على الممر البحري الاستراتيجي المهم جدًا من خلال المنطقة التي يمر بها ثلث التجارة البحرية العالمية، وبالطبع كلُّ ذلك دون تكبد أي تكاليف دولية.
وعلى مدار العامين الماضيين، بدأ الجدل حول السياسة الصينية في الولايات المتحدة، الذي يعكس المزيد من الواقعية، مع تزايد عدد الأصوات التي تعترف بطموح الصين لتحل محل الولايات المتحدة كقوة عالمية كبرى رائدة؛ حيث وصفت الولايات المتحدة الصين أخيرًا بأنها “منافس استراتيجي”. وفي هذا الشهر، اتهم نائب الرئيس “مايك بنس” الصين بشكل صريح بـ”استخدام الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية ، فضلاً عن الدعاية ، لتعزيز تأثيرها ومصالحها على الولايات المتحدة.
وحاليًا يتم تحويل هذا الخطاب إلى واقع ملموس، فقد احتلت الحرب التجارية التي يخوضها الرئيس دونالد ترمب، على وجه الخصوص، عناوين الأخبار، رغم فشل العديد من المراقبين في تحديد الاستراتيجية الكامنة وراء التعريفات الجمركية. وفي حين استخدم ترمب تلك التعريفات الجمركية ضد الحلفاء كوسيلة لتأمين التنازلات وإبرام صفقات تجارية جديدة، فإن تلك التعريفات الأميركية التي تستهدف الصين – والتي يمكن أن تستمر لسنوات – تهدف في المقام الأول إلى إحداث تغيير جوهري وبعيد المدى. بل إنه حتى الصفقات المعدلة مع حلفاء الولايات المتحدة يقصد بها جزئيًا عزل الصين، مما يجبرها على التخلي عن ممارساتها التجارية، مثل النقل القسري للتكنولوجيا.
لكن، ما تبنته إدارة ترمب يتجاوز أمر التعريفات؛ إذ يرقى إلى تغيير هيكلي في سياسة أميركا في الصين التي تعد بإعادة صياغة الجغرافيا السياسية العالمية والتجارة. ولأن هذا التغيير يتماشى مع الإجماع الأميركي الحزبي في الولايات المتحدة لصالح اتخاذ إجراءات أكثر حزمًا لتقييد الصين، فمن المرجح أن يتفوق على رئاسة ترمب. كما أنه من المؤكد أن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستتبنى سياسة صلبة تصادمية مع الصين. وهو ما لا يعني بالضرورة أنه، كما يتصور الكثيرون، يمثل حربًا باردة جديدة لا تزال في الطريق.
فعلى سبيل المثال، لا تزال الصين تمارس الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تحتجز ما يصل إلى مليون مسلم من منطقة “شينجيانج” في معسكرات الاعتقال، إلى جانب اختطاف رئيس الإنتربول “مينغ هونغ وي”. ومع تأكيدات ترمب بأن استجابة إدارة أوباما لأنشطة الصين في بحر الصين الجنوبي كانت “عاجزة”، فإنه لم يفعل الكثير للتصدي للتوسع الصيني.
وبدلاً من ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة تأمل في أن تتمكن من استخدام الدوافع الاقتصادية في المقام الأول لإضعاف الصين، لكن هل سيكون ذلك كافيًا، أم أن الولايات المتحدة أغلقت الباب بعد أن انطلق الحصان؟
فالصين تتحدى الولايات المتحدة بالفعل في المجالات التكنولوجية والجيوسياسية، وتتباهى برأسماليتها الاستبدادية كبديل للديمقراطية. إذ لا يمكن للشيوعية أن تشكل تحديًا موثوقًا للديمقراطية الليبرالية، لكن الرأسمالية الاستبدادية قد تكون واقعًا. وبهذا المعنى، يمثل نموذج الصين أول تحدٍ رئيسٍ للديمقراطية الليبرالية منذ سقوط النازية.
وبفضل خطواتها العظيمة في تعزيز قوتها التكنولوجية وجاذبيتها الجيوسياسية، فإن الصين تقف في موضٍع قويٍ يُمَكِّنها من تحمل الضغط الأميركي لتغيير مساراتها، وهو ما يفرض عليها التضحية ببعض النمو الاقتصادي. لكن بالنسبة للرئيس “شي جين بينغ”، فإن مثل هذه التضحية تستحق العناء، إذا كانت تعني حماية مكانتها فقط، ولكن أيضًا “الحلم الصيني” في التفوق العالمي. وحتى لو تصاعدت الضغوط الأميركية بشكل كبير، فمن المرجح أن تتبنى الصين “خطوتين إلى الأمام، وخطوة واحدة إلى الوراء” لاستمرار التقدم نحو أهدافها الطموحة.
وأخيرًا، فإن هذا لا يعني أن جهود الولايات المتحدة تتجه نحو شيء ما، بل على النقيض من ذلك، فإن التحول في سياستها يرقى إلى فرصتها الأخيرة لوقف الصين قبل أن تتمكن من تأمين التقنيات الحيوية التي تحتاجها لكسب التفوق الجيوسياسي في آسيا وما وراءها، وحتى إذا كان الوقت قد فات لإجبار الصين على احترام القواعد الدولية وحقوق الإنسان، فليس من السابق لأوانه إنهاء جولة الصين “الحرة المدمرة”.
المصدر: آسيا تايمز
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر