سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد الدخاخني
على مدار أعوام، كان عمر فارق غيرغيرلي أوغلو أحد أكثر المدافعين عن حقوق الإنسان في تركيا جرأة، حيث قصّ على البرلمان وفي وسائل التّواصل الاجتماعي حكايات عن الانتهاكات، والتعذيب، واعتقالات منتصف الّليل الّتي تقوم بها حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان.
لكن بعد منتصف ليل الثاني من نيسان (أبريل)، وجد غيرغيرلي أوغلو، عضو البرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، أنّ دوره قد حان. كانت قوّة من الشرطة تنتظر أمام بابه، حاملةً مذكّرة توقيف.
أخبرني صالح غيرغيرلي أوغلو، ابن فاروق، في نيسان (أبريل): “بدأ الأمر بأدب، لكن سُرعان ما وجدنا أنفسنا نصرخ بينما كانت الشّرطة تسحب والدنا بعيداً”. وأضاف: “فجأةً، رحل، وأدركنا أنّهم لم يسمحوا له حتّى بارتداء حذائه”. جُرّد النّائب، البالغ من العمر 55 عاماً، من حصانته البرلمانيّة في آذار (مارس)، ووُجِهَت إليه تهمة “نشر دعاية إرهابيّة” عبر سلسلة تغريدات تعود إلى عام 2016 انتقدَت تخلّي الحكومة عن محادثات السّلام مع المتمرّدين الأكراد.
نشر قصص ضحايا الانتهاكات
يقول ابنه: “جريمته الحقيقيّة هي نشر تقارير عن انتهاكات حقوقيّة في البرلمان”. ويضيف: “كان من آخر الّذين تجرّأوا على نشر قصص ضحايا الانتهاكات في السّجون، وفي حجز الشّرطة، وفي أيّ مكان آخر”.
عندما قُبِضَ عليه، انضمّ غيرغيرلي أوغلو إلى مجموعة من السّجناء السّياسيّين في تركيا تضخّمت منذ الّليلة المصيريّة في 15 تمّوز (يوليو) 2016، عندما تسبّبت انتفاضة عسكريّة فاشلة ضدّ أردوغان في مقتل المئات، وصَدمت المجتمع التّركيّ بشدّة، وأطلقَت حملة قمع ضدّ أصوات المعارضة تستمرّ بسرعة كبيرة بعد نصف عقد من الزّمن.
يُشجِّع توسّعٌ هائل في شبكة السّجون في البلاد على هذه الحملة وما يصاحبها من انتهاكات لحقوق الإنسان.
تكشف صور الأقمار الصّناعيّة عن أعمال بناء في 131 سجناً، بدءاً من تمّوز (يوليو) 2016 وآذار (مارس) 2021، مع إشارة وثائق وزارة العدل التّركيّة وتقارير صحافيّة إلى وجود حوالي 100 منشأة إضافيّة قيد الدّراسة من قِبل حكومة أردوغان.
يُعدّ معدّل البناء الحاليّ أكثر من ضِعف ما كان عليه في الأعوام الأربعة الّتي سبقَت الانقلاب الفاشل – في وقتٍ كانت تُثير فيه الاعتقالات الجماعيّة والسّجن السّياسيّ في تركيا القلق الدّوليّ بالفعل. خلال تلك الفترة، شوهد 64 سجناً قيد الإنشاء عبر صور الأقمار الصّناعيّة.
سجون من 3 طوابق
ازداد حجم السّجون وعددها. ازدادت المساحة الأرضيّة للسّجون الّتي بُنيت بعد عام 2016 بنسبة 50 في المائة في المتوسّط مقارنةً بالفترة السّابقة. ونشرت الحكومة ووسائل الإعلام المحلّيّة صوراً تُظهِر سجوناً مكوّنة من ثلاثة طوابق تحلّ محلّ التّصميمات المكوّنة من طابقين والّتي كانت رائجة قبل الانقلاب. ويُظهِر قياس لمنشآت جديدة وقديمة عبر صور الأقمار الصّناعيّة تمدّد تخطيطات السّجون أيضاً على مساحات أكبر من الأرض.
لم تُخف الحكومة التّركيّة فورة بناء السّجون. ومع ذلك، تكشف نظرة فاحصة النّطاق غير المسبوق لجهودها، والّذي يشمل بناء منشآت مترامية الأطراف في مناطق نائية من البلاد، وخطّة لبناء واحد من أكبر مجمّعات السّجون في العالم، وزيادة إجماليّة هائلة في قدرة الحكومة على معاقبة المعارضة.
ستسمح السّجون الجديدة للحكومة التّركيّة بزيادة عدد السّجناء الّذي قفز إلى ما يقرب من 300,000 في عام 2019 من 180,000 بعد الانقلاب الفاشل. ولأوّل مرّة العام الماضي، احتلّ معدّل الحبس في تركيا المرتبة الأعلى بين جميع الدّول الأعضاء، البالغ عددها 47، في مجلس أوروبا.
لم يردّ ممثّل من وزارة العدل التّركيّة على طلبات مقابلة متعدّدة لهذا المقال. لكن وزير العدل، عبد الحميد غول، وصف علناً السّجون التّركيّة الجديدة بأنّها مطلوبة بشكل عاجل لحلّ مشكلة الاكتظاظ المزمن والمساعدة في إغلاق عشرات المنشآت القديمة.
انتهاكات حقوق الإنسان
قال غيرغيرلي أوغلو في مقابلة قبل سجنه: “مع ذلك فإنّ عقليّة هذه الحكومة هي ملء أيّ سجن تبنيه على الفور”. وأضاف: “والسّجون الجديدة لن تفعل شيئاً لوقف انتهاكات حقوق الإنسان الّتي تحدث في السّجون وتتغاضى وزارة العدل عنها طواعية”.
في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016، أعلنت تركيا حالة الطّوارئ، ممّا منح أردوغان سلطات واسعة لفصل مئات الآلاف من الموظّفين العموميّين، وحظر التّجمّعات العامّة، واعتقال المعارضين.
بشكل أقلّ وضوحاً، ساعد قانون الطّوارئ في هدم القيود المتعلّقة بالميزانيّة وتقسيم المناطق في عمليّة بناء السّجون، ممّا سمح لأنقرة بإصدار عقود سجن سريعة للشّركات المقرّبة من الحكومة، كما أفادت الصّحافيّة الاستقصائيّة التّركيّة المخضرمة سيغديم توكر في سلسلة من المقالات في عام 2017.
تقول توكر: “تقول الحكومة إنّ السّجون القديمة تُستَبدَل ببساطة. لكن المنشآت الصّغيرة القديمة تُقايَض بمجمّعات سجون ضخمة”. وتضيف: “يبدو الأمر وكأنّه خطّة لسّجن المزيد من الأشخاص أكثر من أيّ وقت مضى”.
تتميّز المرافق الّتي بُنيت بعد الانقلاب بجدران خرسانيّة شاهقة، وأبراج حراسة، وصفوف من الأفنية الضيّقة الممتدّة على طول المناطق الدّاخليّة. وقد بُني 75 منها، رأتها “فورين بوليسي”، على شكل مرافق شديدة الحراسة. أما الـ 56 المتبقية، فقد بُنيت على شكل سجون ذات إجراءات أمنيّة دُنيا.
مجمع سجن سينكان، الواقع خارج العاصمة التّركيّة أنقرة، هو المكان الّذي سُجن فيه غيرغيرلي أوغلو في نيسان (أبريل). ومنذ عام 2016، ازداد حجم المرفق. نمت طاقته الرّسميّة بنحو 60 في المائة، من 6,500 إلى حوالي 10,900 نزيل. إنّ إضافة أربعة مجمعات كبيرة عالية الحراسة إلى الموقع يجعل من الحجم الإجمالي لسينكان 420 فداناً، أي نصف مساحة سنترال بارك في نيويورك.
عبر المناطق الدّاخليّة الرّيفيّة في تركيا، نشأت مجمعات جديدة مثل المدن الصّغيرة القائمة بذاتها، وتقع هذه المجمعات بعيداً خارج أقرب البلدات. على مشارف مدينة أكساراي الواقعة في وسط الأناضول، والّتي يبلغ عدد سكّانها 423,000، سيحلّ قريباً سجن ضخم، كلفته 519 مليون ليرة (ما يعادل 145 مليون دولار وفق معدّلات عام 2017، عندما أُصدر العقد)، مساحته تتسع لـ 6,000 نزيل، محلّ سجن مدينيّ من الجدران الجيريّة المتهالكة. وقد صرّح مسؤول محلّيّ في عام 2017 أنّ المجمع الجديد هو “أكبر استثمار منفرد في تاريخ أكساراي”.
تركيا تنافس على أكبر سجن
المزيد من السّجون في الطريق. يخطّط المسؤولون لإنشاء مرفق يضمّ 15,000 نزيل في مقاطعة بورصة الشّماليّة الغربيّة. سيكون المجمّع من بين أكبر المجمّعات في العالم، مساوياً في قدرته لرايكرز آيلاند، أكبر مجمع سجون مُتجَاور في الولايات المتّحدة، وسيزيد عنه في الحجم فقط مجمعات الاعتقال الّتي بُنيت للأقلّيّات المسلمة في مقاطعة شينجيانغ الصّينيّة.
حتّى الآن، من المقرّر أن تؤدّي فَورة البناء، الّتي حصلت بعد الانقلاب، إلى زيادة السّعة الإجماليّة للسّجون في تركيا بأكثر من 70 في المائة، إلى ما لا يقلّ عن 320,000 من حوالي 180,000 في عام 2016.
هذا، ومثّلت عمليّة البناء نفقات ضخمة بالنّسبة إلى اقتصادٍ متعثّرٍ وحكومةٍ تُعاني من ضائقة ماليّة.
وتقدّر مصادر حكوميّة التّكلفة بين 11.2 و13 مليار ليرة تركيّة (1.3 إلى 1.5 مليار دولار).
أردوغان نفسه، الّذي يحرص عادةً على دعم المشاريع الحكوميّة العملاقة المثيرة للجدل باعتبارها مفتاحاً لتنمية تركيا، امتنع عن التّحدّث مباشرةً عن السّجون الجديدة. في شهر تمّوز (يوليو) الماضي، تعهّد بتحويل سجن في ديار بكر، أكبر مدينة في البلاد ذات أغلبيّة كرديّة، إلى مركز ثقافيّ، مقرّاً بالتّاريخ الطّويل للمنشأة، الّتي تُبلغ مساحتها 10 أفدنة، من “القمع والتّعذيب والمعاملة اللاإنسانية”، وسط حرب الدّولة التّركيّة الّتي استمرّت 37 عاماً مع المتمرّدين الأكراد. لم يُشر إلى المجمع الضّخم، الّذي تبلغ مساحته 230 فداناً والّذي بنته حكومته على مشارف المدينة على مدار العقد الماضي، وهو سجن بمرافق محسّنة بشكل كبير ولكن مع قائمة متزايدة من مزاعم الانتهاكات.
قد تكون هذه الأنشطة الضّارة بالسّمعة واضحة لرجل سُجن هو نفسه لقراءته قصيدة إسلامويّة علانيّة عام 1997 والّذي، بالرّغم من قوّته الهائلة، لا يزال غالباً ما يصوّر نفسه على أنّه دخيل وضحيّة للظّلم.
سار أردوغان وغيرغيرلي أوغلو ذات مرّة في المسار نفسه. ينحدر كلاهما من عائلات متديّنة من الطّبقة العاملة، وشبّا بخيبة أمل من النّظام العلمانيّ في البلاد.
أصبح غيرغيرلي أوغلو طبيباً، لكن بحلول أوائل التّسعينيّات وجد نفسه منشغلاً بالنّشاط ضدّ حظر تركيا للحجاب في مؤسّسات الدّولة. اكتسب سمعة وطنيّة لعمله التّقويّ في مجال حقوق الإنسان ودعم حزب العدالة والتّنمية الحاكم بزعامة أردوغان خلال عقده الأوّل الواعد في السّلطة.
التّحوّل السّلطويّ لحزب العدالة والتّنمية
ومع ذلك، فإنّ التّحوّل السّلطويّ لحزب العدالة والتّنمية جعل من غيرغيرلي أوغلو ناقداً لا يرحم. في عام 2018، أصبح نائباً لحزب الشّعوب الدّيمقراطيّ الّذي يركّز على الحقوق الكرديّة، حتّى عندما سجن أردوغانُ قادته. جعل التزام غيرغيرلي العنيد بحقوق الإنسان منه أملاً أخيراً لأشخاص مثل زليخة كوج، وهي أمّ لطفلين في منتصف العمر، والّتي شاهدت مؤخراً على هاتفها المحمول تحدّث النّائب البرلمانيّ ضدّ سجن زوجها لمدّة عامين.
تقول كوج، الّتي شاهدت خطاب غيرغيرلي أوغلو عبر قناة يوتيوب تديرها المعارضة: “في بعض الأيّام، نشعر وكأننا سقطنا من على وجه الأرض”. وتضيف: “يجعلني هذا أشعر وكأنّ ذلك ربما لم يحصل”. كان زوجها، لطفي كوج، يعمل في السّابق مشرفاً على السّكن الجامعيّ في مدرسة خاصّة في مدينة على ساحل بحر إيجة. في عام 2019، حُكم على الشّابّ، البالغ من العمر 46 عاماً، بالسّجن لأكثر من ثمانية أعوام بتهمة الانتماء إلى منظّمة إرهابيّة.
اتّهمه شاهد سريّ بإلقاء محاضرات على الطّلّاب نيابةً عن فتح الله غولن، وهو واعظ منفيّ ذاتياً تتّهم الحكومة التّركيّة شبكته الدّينيّة المراوِغة بالتّدبير لمحاولة الانقلاب.
كانت حركة غولن قد مهّدت ذات مرّة طريق أردوغان إلى السّلطة، مستفيدة من شبكة من الأتباع في القضاء والشّرطة لتفكيك النّظام العلمانيّ القديم، وسجن الصّحافيّين، وترهيب النّقاد. لكن صراعاً على السّلطة اندلع بين أردوغان وغولن في عام 2013. انتصر أردوغان، ومنذ عام 2016، حطّ غضب الدّولة على مئات الآلاف من المشتبه بهم من أعضاء ما تصنّفه حكومته الآن على أنّه منظّمة إرهابيّة معروفة بالاختصار “فيتو”.
تاركةً مساحةً صغيرةً للغموض، تشير وسائل الإعلام، الّتي تسيطر عليها الدّولة، على نطاق واسع إلى السّجون المنتشرة في جميع أنحاء تركيا باسم “سجون فيتو”، في حين أصبح الاختصار لقباً عشوائيّاً لأيّ منتقدٍ لأردوغان. في الواقع، يعرّف المصطلح حياة عدد لا يحصى من الأشخاص، مثل لطفي كوج، الّذين هم إمّا من أنصار غولن من المستوى المنخفض أو مواطنين عاديّين وقعوا في شرك نظام عدالة انتقاميّ.
تقول زليخة كوج: “في المرّة الأخيرة الّتي تحدّثتُ فيها إلى لطفي، قال إنّه تعرّض للضّرب على أيدي الحرّاس أثناء نقله من سجن إلى آخر”. وتضيف: “قال إنّهم اتّصلوا بطبيب عندما بدأت عينه تنزف. لكن بمجرّد توقّف النّزيف، بدأوا في ضربه مرّة أخرى”.
الاعتداء الجنسيّ والاغتصاب
قامت مجموعات حقوقيّة دوليّة ومحلّيّة بتوثيق قصص التّعذيب والانتهاكات في السّجون بوتيرة متصاعدة منذ الانقلاب الفاشل. ووصفوا الضّرب على أيدي الحرس، والتّهديدات العنيفة، والاعتداء الجنسيّ، والاغتصاب، والتّفتيش المهين والمتكرّر والقائم على التّعرية للسّجينات.
تُخبرني بريفان كوركوت من “المجتمع المدنيّ في جمعيّة نظام العقوبات”، وهي مجموعة إصلاح سجون تركيّة، في أيار (مايو): “في عام 2019، تلقّينا عدداً قليلاً من التّقارير عن التّعذيب وسوء المعاملة”. وتضيف: “وفي عام 2020، زاد هذا الرّقم بشكل أكبر”.
تسرد كوركوت قائمة من الانتهاكات المزمنة، بما في ذلك الاكتظاظ، وحجب العلاج الطّبّيّ، والقيود الشّديدة على اتّصالات النّزلاء مع المحامين وأفراد الأسرة.
وتضيف أنّ المرافق الجديدة قد تخفّف من الاكتظاظ ولكن من غير المحتمل أن تؤثّر على الممارسات المسيئة الأخرى. في الواقع، في ثلاث حالات على الأقلّ أُبِلغ عنها منذ عام 2017، ترافق افتتاح سجون جديدة على الفور تقريباً مع صيحات مناهضة للتّعذيب بين أسر السّجناء.
أعلنت وزارة العدل التّركيّة عن فتح تحقيقات في تلك الحوادث. لكن هذا لا يرضي غيرغيرلي أوغلو، الّذي يقول إنّ مئات التّقارير الّتي أحالها إلى لجنة حقوق الإنسان في البرلمان عن الانتهاكات لم يُردّ عليها بشكل كبير.
يسرد قائمة متزايدة من المآسي الّتي تُعرِّف نظام السّجون في تركيا: معلّمة مدرسة توفيت في السّجن بعد أن فقدت القدرة على الحصول على الأدوية الّلازمة لعلاج مرض مزمن، ومحامية للسّجناء السّياسيّين ماتت في إضراب عن الطّعام أثناء احتجاجها على سجنها، وأكثر من 800 طفل تقلّ أعمارهم عن 6 سنوات يعيشون في السّجن مع أمهاتهم – وهو رقم نما بشكل حادّ منذ الانقلاب الفاشل.
بالنّسبة إلى لطفي كوج، تمثّل التّحدّي الأكبر في السّجن في عدم الحصول على الرّعاية الطّبّيّة. في عام 2019، وجد الأطباء خُرّاجين في دماغه. استغرق الأمر كوج أكثر من عامّ للوصول إلى الرّعاية الّتي يحتاجها والتّأكد من أنّ الخرّاجين ليسا سرطانيّين.
تقول زوجته: “تركوا زوجي للموت”. وتضيف أنّه لا يزال في حالة صحّيّة متدهورة، حيث يفقد وزنه ويعاني من هلوسة عرضيّة تدفعه إلى طلب زيارات إضافيّة للمستشفى.
أصبحت الرّعاية الطّبّيّة – وتقريباً كلّ جانب من جوانب الحياة في السّجن – معقّدة للغاية بسبب كوفيد-19. تقول الحكومة التّركيّة إنّ 50 نزيلاً لقوا حتفهم في سجونها منذ ظهور الفيروس، وتؤكّد أنّها تتّخذ احتياطات صارمة ضدّ الفيروس في هذه المنشآت.
تُعارِض زليخة كوج هذا الادّعاء وتقول إنّ زوجها أصيب بمرض كوفيد-19 في أواخر عام 2020. ووفق روايتها، عانى زوجها من زنزانات السّجن المكتظة بشكل مزمن والّتي تحتوي على سجناء آخرين مرضى بشكل واضح، وهي تجربة لم تتخلّلها سوى فترات طويلة من الحبس الانفراديّ.
الأزمة في نظام السّجون في تركيا ليست أقلّ إثارة للقلق عند الحديث عنها من خلال الإحصاءات الرّسميّة. تشير الأرقام إلى وجود نظام قريب من الانهيار وغير مستعدّ بشدّة لإدارة تجاوزات حكومته.
لاستيعاب الزّيادة الهائلة في عدد السّجناء الجدد منذ محاولة الانقلاب، أطلقت وزارة العدل التّركيّة سراح حوالي 190,000 سجين غير سياسيّ – وهو عدد أكبر من إجمالي عدد نزلاء السّجون قبل الانقلاب – في عمليتيْ عفو منفصلتين منذ عام 2016. ومع ذلك، لا يزال عدد نزلاء السّجون يرتفع إلى مستوى عالٍ للغاية. بلغ عدد نزلاء السّجون قرابة 300,000 في النّصف الأوّل من عام 2020، متجاوزاً السّعة الاستيعابيّة للسّجن الوطنيّ البالغة 233,000 فقط، بالرّغم من العفو الأوّل. اليوم، يبلغ الرّقم الرّسميّ ما يقرب من 288,000، بالرّغم من العفو الثّاني الّذي هَدِف إلى تقليل اكتظاظ السّجون وسط جائحة كوفيد-19. وبالرّغم من منح عدد غير معروف من هؤلاء النّزلاء الإقامة الجبريّة المؤقّتة كجزء من العفو، فإنّ الإجراء ينتهي في تشرين الثّاني (نوفمبر)، في حين أنّ العدد الإجماليّ للسّجناء يتجاوز بكثير سعة السجّون الحالية في تركيا والّتي تبلغ حوالي 250,000.
مُنع سجناء الرّأي من الإفراج عنهم حتّى بموجب عفو كوفيد-19، ولا يزال رجل الأعمال الخيريّة المؤيّد للدّيمقراطيّة عثمان قولة والزّعيم المشارك لحزب الشّعوب الدّيمقراطيّ صلاح الدّين دميرتاش في السّجن، رغم الاحتجاجات الدّوليّة. وفي غضون ذلك، أُفرِجَ عن مجرمين عنيفين، حيث أوردت وسائل الإعلام المعارضة سلسلة من جرائم قتل النّساء والعنف المنزليّ قام بها نزلاءٌ أطلق سراحهم في عام 2020.
كما أُطلِقَ سراح زعيم المافيا اليمينيّ المتطرّف علاء الدّين تشاكيجي في عام 2020، المعروف بتنظيمه اغتيالات لعشرات اليساريّين في السّبعينيّات، والتّعاقد على قتل زوجته السّابقة في منتجع للتّزلج، وتوجيه تهديدات مفتوحة بالقتل للصّحافيّين المعارضين من سجنه في عام 2018.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع زليخة كوج تأمين الإقامة الجبريّة لزوجها، بالرّغم من اعتلال صحّته والاحتياجات الخاصّة لابنها البالغ من العمر 6 أعوام، الّذي يعاني من إعاقة شديدة. تقول: “يتطلّب الأمر كلّ قوّتي كي لا أتحطّم أمام أطفالي”. وتضيف: “كلّ وزير ومسؤول يلتزم الصّمت، وكلّ محكمة ترفض استئنافاتي”.
لن يتعاطف الكثيرون في تركيا مع من يُسمّون بأعداء الدّولة مثل لطفي كوج. لكنّهم، كما تحاجج كوركوت، المدافعة عن عن إصلاح السجون، يجب أن يتعاطفوا. تقول: “زادت الحكومة بشكل حادّ من معدّلات الحبس في الجرائم غير السّياسيّة وكذلك الجرائم السّياسيّة”. وتضيف: “أصبح الحبس الجماعيّ القاعدة في تركيا على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، مع عدم وجود أي نقاش عامّ تقريباً”.
في الأوّل من تمّوز (يوليو)، قضت المحكمة الدّستوريّة التّركيّة بشكل غير متوقّع بالإفراج عن غيرغيرلي أوغلو وإلغاء عقوبة سجنه.
ثقة مهزوزة بالقضاء
لكن قلّة منهم يمكن أن تضع ثقتها في أعلى سلطة قضائيّة في تركيا، بالنّظر إلى أنّ حكومة أردوغان قد تجاهلت أحكام الإفراج الصّادرة عنها في الماضي – وكذلك الأحكام الصّادرة عن المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان.
سارعت أحزاب المعارضة إلى إطلاق حملة مشتركة من أجل إطلاق سراح غيرغيرلي أوغلو عندما ظلّ في السّجن بعد أيّام من القرار، بينما احتجزت الشّرطة نجل غيرغيرلي أوغلو بعنف خلال احتجاج على بوابات سجن سينكان.
وسط الاحتجاج المتزايد، أُطلِق سراح غيرغيرلي أوغلو أخيراً في وقت متأخّر من ليلة 6 تمّوز (يوليو). يقول لي: “لم تعد العدالة إلى تركيا”. ويضيف: “لكن حرّيّتي تُظهِر أنّه حتّى الآن، يمكن للنّشاط أن يحدث فرقاً في بعض الأحيان، حتّى في نظام العدالة الخاضع للسّيطرة الشّديدة”.
ومع ذلك، لا يزال حوالي 4,000 من أعضاء حزب الشّعوب الدّيمقراطيّ، من زملاء غيرغيرلي أوغلو، وراء القضبان، بما في ذلك تسعة أعضاء في البرلمان.
بالرّغم من أنّ أردوغان قد وعد بإصلاحات قضائيّة وتحسين ظروف السّجون في وقت سابق من هذا العام، فإنّ جماعات حقوق الإنسان تقول إنّ الإجراءات الأخيرة تزيد فقط من احتمالات الانتقام من النّزلاء الّذين يُبلغون عن انتهاكات.
في هذه الأثناء، تستمرّ السّجون في الازدياد. في الأشهر الثّلاثة الأولى من عام 2021، أنهت وزارة العدل التّركيّة عقود ستّة منشآت جديدة. يُثير هذا الخبر قلق الصّحافيّة الاستقصائيّة توكر. تقول: “عمليّة البناء هذه لا تنفصل ببساطة عن مزاعم التّعذيب والظّروف الّلاإنسانيّة الّتي تزداد يوماً بعد يوم”.
يخبرني غيرغيرلي أوغلو أنّه لم يتعرّض لسوء المعاملة في السّجن، لكنّه قال إنّه تعرّض للضّرب بشكل متكرّر على يد ضبّاط الشّرطة أثناء نقله إلى سجن سينكان في نيسان (أبريل). وأعاد البرلمان وضعه كنائب في 16 تمّوز (يوليو).
لكن من الصّعب أن تكون متفائلاً بشأن المستقبل.
هناك اقتراحٌ قُدّم في آذار (مارس) لإغلاق حزب الشّعوب الدّيمقراطيّ بشكل دائم – ثاني أكبر حزب معارض في تركيا – وهو قيد النّقاش، وقد يحظر أكثر من 450 من أعضاء الحزب من ممارسة السّياسة. وبدأت محاكمة جماعيّة لأكثر من 100 من قادة حزب الشّعوب الدّيمقراطيّ في نيسان (أبريل). لا يزال رئيس الحزب السّابق، دميرتاش، مسجوناً، بالرّغم من الدّعوات للإفراج عنه من المحكمة الدّستوريّة التّركيّة والمحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان في عام 2020.
وتضاعف حجم المنشأة الّتي احتُجز فيها منذ أن حُبس هناك لأول مرة في عام 2016.
يقول غيرغيرلي أوغلو: “لم نر نهاية للسجن السّياسي”. ويضيف: “لكن ليس لدينا خيار سوى مواصلة النّضال من أجل العدالة”.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر