سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عبد الخالق المهباش
تمر إسرائيل الآن بأزمة خلاقة وجديدة، فبعد أن تسلم “نتنياهو” اليميني المتطرف مقاليد السلطة وبأغلبيته الساحقة الحزبية المكونة من أحزاب يمينية متطرفة وأرثوذكسية متدينة متشددة؛ شرع العمل على عدد كبير من الملفات المهمة التي تهمه وتعبِّر عن أجندة حكومته الجديدة التي توعد بها مناصريه لتنفيذها والعمل عليها: مشاريع الاستيطان المستمرة، ومشاكل الحدود، وقوانين داخلية جديدة.
عزم “نتنياهو” وحكومته على البدء بعمل وسن قوانين سمِّيت بالتغييرات القضائية الجديدة، وإحداث تغييرات جذرية في النظام القضائي، كما صرح وزير العدل الإسرائيلي ذلك في قوله “إن التعديلات القضائية الجديدة ستعزز الديمقراطية لتكون غربية فاعلة”. ونتيجة لاعتزام هذه الحكومة بقيامها بهذه التعديلات انعكس هذا على الشارع الإسرائيلي ما بين مؤيد ومناصر لقرارات “نتنياهو” المزمع سنها، وما بين الرافض لهذه القرارات التي يعتبرها الرافضون تهديدًا للحريات المدنية والحقوق، وتهديدًا لفئات المجتمع اليهودي بين المتدينين الراديكاليين والليبراليين العلمانيين، وهاجسًا أمنيًا لدى الأقليات الأخرى كعرب 48 أو حتى للفلسطينيين بوجه عام.
بداية الأزمة
منذ مطلع عام 2023 انتهج “نتنياهو” وائتلافه الحاكم، العزم على إحداث تغييرات من شأنها تحسين القضاء وجعله أكثر استقلالية كما صرح بذلك. ويريد بذلك التغيير أن يحدد صلاحيات المحكمة، ويحد من تأثيرها المبالغ على السياسة والكنيست كما ادعى ذلك، ويمنح السياسيين سلطات أكبر في اختيار القضاة. لكن مشاكل “نتنياهو” مع المحكمة العليا ليست جديدة، فقبل قرابة سنتين أو أكثر، وجهت المحكمة العليا إدانات بالفساد لـ”نتنياهو”، وهو ما اعتبره “نتنياهو” حربًا موجهة ضده. وقد مثل “نتنياهو” أمام المحكمة فعلاً.
يرجح بعض المراقبين أن إعلان “نتنياهو” اعتماد تغييرات قضائية تسمح للكنيست بأن تسن قوانين من شأنها أن تعزز من سلطة الكنيست لاختيار وترشيح القضاة، جاء كردة فعل ونتيجة لتراكمات سابقة. فقد وقف “نتنياهو” سابقًا وقبل عامين، أمام المحكمة ثلاث مرات بتهم الفساد، والآن وقبل شهر طلبت المحكمة العليا من حكومة “نتنياهو” إقالة زعيم حزب شاس الديني “أرييه درعي” وزير داخلية “نتنياهو”، وذلك على خلفية إدانة “درعي” بقضايا جنائية، وفقًا لما نقلته صحف إسرائيلية محلية.
ذكرت المحكمة بنص القرار “أن تعيين عضو الكنيست أرييه درعي وزيرًا للداخلية ووزيرًا للصحة لا يمكنه الاستمرار فيه”، جاء هذا القرار مطبقًا ولا يمكن الالتفاف عليه قانونيًا. فقد حاول “نتنياهو” ردَّ القرار، لكنه لم يستطع. ومع ذلك، فقد أظهر “نتنياهو” مساندته ودعمه لـ”درعي”، على الرغم من الخلافات الحزبية القديمة بينهما؛ أي بين حزب “نتنياهو” الليكود، وحزب “شاس” الذي يتزعمه “درعي”.
احتدم الصراع بين القضاء والحكومة اليمينية جدًا، وأنا أعني ذلك حقيقة حينما أقول، فقد بررت رئيسة المحكمة العليا القاضية “إيستر حايوت” قولها بأن “مشروع وزير العدل والحكومة الجديدة للقضاء، هو جامح وسحق للنظام القضائي”.
يبدو أن وتيرة الصراع الباردة قد أخذت مجراها، وبدأت تتشكل الرؤى والاختلافات في الداخل الإسرائيلي. ويبدو أن الانقسام ليس فقط على مستوى الأحزاب والأيديولوجيات، فقد وصل الأمر إلى حدوث الانقسام واختلاف الآراء وتشكل الاحتدامات حتى داخل الأحزاب نفسها.
مع كل هذه المناكفات بين قضاة المحكمة العليا وحكومة “نتنياهو” الشديدة، والتراشق الإعلامي المستمر، إلا أن كلا الطرفين يقدم حججًا قد تبدو مقنعة لكثيرين، أو العكس تمامًا. يبرر “نتنياهو” أن مشروعه سيعزز من قوة القضاء، وسيجعل القضاء بعيدًا عن تدخله في شؤون السياسة، وأنه إعادة التوازن بين السلطات. بينما يبرر الطرف الآخر، وهو المحكمة العليا وقضاتها المتنوعين، التي تضم قائمة من الليبراليين اليهود وقاضيًا مسلمًا من أصول عربية، وقاضية شرقية يهودية؛ أن هذا سيكون تقييدًا للقضاء تحت توجهات السياسيين اليمينيين ليمهد لاتخاذ قرارات سريعة، وشرعنة إجراءات “نتنياهو” وائتلافه، وهذا ما يقلق الكثيرين ويثير هيجان الداخل الإسرائيلي. لكن في الوضع الحالي، هذا التنوع للقضاة في المحكمة، يعطي تصورًا عن أن المشرع يطمئن المواطن الإسرائيلي والمراقب بأن القضاء مستقل ولا تهيمن عليه الأفكار والأيديولوجيات، وإنَّما النزاهة والرقابة قائمة ولا يستطيع أحد التأثير عليه.
لكن لدى “نتنياهو” وأتباعه وجهة نظر مختلفة، فهم يريدون العمل على الحد من صلاحيات المحكمة العليا، ويرون أنها تخطت نطاق صلاحياتها في عرقلة مشاريع الحكومة اليمينية المتطرفة. وهذا ناتج – بالطبع – عن تجارب سابقة لـ”نتنياهو” مع المحكمة، فله تاريخ يبدو عكرًا وسيئًا بالنسبة له، وكذلك بالنسبة للمراقبين. أصبحت النخب السياسية الإسرائيلية أكثر معرفة بالسوابق والمشاكل العديدة لـ”نتنياهو” وأتباعه مع المحكمة، إذ أثارت إقالة “أرييه درعي” من وزارة الداخلية في حكومة “نتنياهو”، مشكلات عدة؛ فقد أصبح السياسيون الإسرائيليون أكثر تخوفًا من القادم، وبدأت تظهر نبرة استياء من كثير من نخب اليمين، وهاجس يهدد وجودهم في السلطة.
مع ذلك، فإننا لن ننسى أن” نتنياهو” وائتلافه اليميني الديني قد اكتسح وبقوة الانتخابات وحصل على الأغلبية؛ مما يؤكد لنا أن هذه الحكومة منتخبة وديمقراطية وشرعية. لماذا نخاف ونقلق ونحن منتخبون ولأن الشعب انتخبنا؟ هذا ما يطمئن اليمين وما يجعله عازمًا على تنفيذ مشروعه القضائي الذي يؤكده “ليفين” وزير العدل لكن ريثما تهدأ الأمور.
انقسام يضرب عمق البلاد ومخاوف مهيمنة
بسبب سياسات اليمين نحو القضاء اشتعلت شرارة مظاهرات محتدمة ضد حكومة اليمين المتطرف، من مثقفين وأكاديميين وهم مواطنون إسرائيليون وحتى الفلسطينيون العرب، وصلت إلى اشتباكات أمنية بين الشرطة الإسرائيلية والمواطنين المتظاهرين بسبب أعمال الشغب.
إن إسرائيل بذاتها تعاني من التقسيم والتقسيم داخل اليهودية نفسها؛ الطبقية والامتيازات، وفوق ذلك كله البيروقراطية الفاسدة الناتجة أصلاً عن التقسيم العرقي والديني. ولو نظرنا عن كثب إلى التظاهرات الحاصلة ضد الحكومة احتجاجًا على مشروع القضاء الجديد، لوجدنا أن هذه المظاهرات مع ما تحمله من عنف ومناهضة لا تخلو من التكوين والتنوع الأيديولوجي والأجندة والدين والعرق والمرجعيات الحزبية الإسرائيلية. وعلى الرغم من ذلك، فإن “نتنياهو” يعتبرهم فقط يساريين متعصبين وعربًا.
بطبيعة الحال، هذا ليس غريبًا عن اليمين؛ لأن اليمين واليمين المتطرف يرى في نفسه أنه قد جمع بين قوميته المتعصبة والموحدة لليهود، وبين ليبرالية الاقتصاد والسوق والإنتاج والمحافظة على الدين.
أعتقد أن السياسات المتراكمة اليمينية المتطرفة ضد العرب المسيحيين والمسلمين خلقت حالة من الكبت الداخلي، بدءًا من معاقبة مسؤولين فلسطينيين وقيام حكومة “نتنياهو” بإلغاء تصريح سفر وزير الخارجية الفلسطيني، وصولاً لتمرير وإقرار قانون سحب الجنسية الذي تعتبره السلطة الفلسطينية من أقذر أشكال العنصرية؛ كل هذه الإجراءات هيجت التكتلات العربية القومية الفلسطينية وحتى المقيمون في إسرائيل أو حتى المسيحيون، ومع قدوم مشروع القضاء الجديد كان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. وينبغي أن ننوه هنا بأننا ذكرنا فقط جزءًا من كتلة المظاهرات، وسنذكر باقي التكتلات الأخرى من اليهود ومرجعياتهم الحزبية.
يشير استطلاع رأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وهو مؤشر الديمقراطية الإسرائيلي السنوي، إلى أن الإسرائيليين منقسمون وبشدة حول نظام المحاكم، ومتخوفون على حقوقهم الحالية والمستقبلية التي يعتبرونها مهددة من الحكومة الحالية ومشروعها القضائي؛ هذه الخلافات الجذرية متنوعة بين الجماعات العرقية والسياسية.
فوفقًا للمسح السنوي الذي نشر في مطلع يناير الماضي من العام الجاري، أشار إلى الانقسامات العميقة – والمتنامية في كثير من الحالات داخل المجتمع الإسرائيلي، ووجود أدلة على انخفاض مستويات الثقة في المؤسسات العامة، وعدم الرضا عن الوضع الحالي، والتشاؤم بشأن المستقبل.
الجدير بالذكر أن هذا التقرير كان مخيفًا لكثيرين، فلم يخفِ رئيس الدولة الإسرائيلية “يتسحاق هرتسوغ” قلقه، وأوضح أنه يشعر بقلق عميق من بعض تقييمات الاستطلاع والمستويات المتدنية للتوافق والتضامن مع الدولة ومؤسساتها.
وأوضحت نتائج الاستطلاع عن تخوف واضح من الإسرائيليين اليهود، وخاصة اليساريين منهم، فقد اتضح أن نسبة 57% من الإسرائيليين تؤيد بقاء استخدام صلاحيات المحكمة الحالية، وقد ارتفعت هذه النتيجة مقارنة بعام 2010 إلى 53%؛ مما يوضح لنا أن النسبة الكبرى قلقة جدًا على حرياتها وحقوقها من اليمين المتطرف، ويتشكل هذا القلق على من يسمون أنفسهم من الوسط أو حتى من اليسار والمتدينين.
بالنسبة للعرب الذين دائمًا ما يتعرضون لمشاريع الاستيطان من اليمينيين المتطرفين، فإنهم أكثر قلقًا على مصيرهم من غيرهم، وقد أشار الاستطلاع إلى أن المؤشر قفز بين العرب من 61% في عام 2010 إلى 74% عام 2021، وإلى 87% في عام 2022، وهو ما يعطينا تصورًا عن حادثة المظاهرات التي اندلعت ضد الحكومة، هذا فضلاً عن مستويات الثقة المتدنية للمحكمة العليا التي أشار إليها الاستطلاع.
أشارت القناة الإسرائيلية 12 إلى استطلاع كشف أيضًا أن 62% من الإسرائيليين متخوفون وهم يريدون إمَّا إيقاف هذه الخطط القضائية مؤقتًا، وإمَّا التخلي عنها نهائيا. ويبرر أكثر المحتجين عن قلقهم من أن الديمقراطية الإسرائيلية قد تقوَّض إذا تم اعتماد هذا النظام، وبذلك سيخضع القضاء لرغبات سياسية بأغلبية بسيطة في البرلمان.
ملخص
– بعد تسلم “نتنياهو” السلطة بدأ العمل مع وزير العدل على المشروع القضائي الجديد الذي يقضي بالحد من صلاحيات المحكمة العليا وعزلها عن الشؤون السياسية، وتفعيل بند ما يسمى بـ” بند الاستثناء” ويكون تعيين القضاة ولجنة القضاة تحت إشراف وزير العدل.
– نتيجة لإفصاحهم عن المشروع الجديد في القضاء يخشى الكثيرون من النخب السياسية من أن الديمقراطية الإسرائيلية قد تتقوض بسبب هذه السياسات الجديدة.
– يرى كثيرون أن هذا تقليص للقضاء ودوره، وأنه يمهد الطريق لمزيد من القرارات السياسية اليمينية المتطرفة التي قد تنتهك حقوق وحريات بعض العرقيات الإسرائيلية، وحتى العرقية العربية والدينية.
– المظاهرات والانتفاضات في الشوارع الإسرائيلية ضد هذا المشروع، تنبئ بأزمة واضحة في الداخل الإسرائيلي، وأن حالة الكبت قد تعرضت للانفجار؛ مما يعطي فهمًا أكثر نحو المجتمع الإسرائيلي الذي يعاني من الفجوة الطبقية والامتيازات والمعاملات، وحتى الفلسطينيون العرب من كل الأديان، أو حتى المتدينون اليساريون الأرثوذكس أو الوسط.
– تشير نتائج كثير من الاستطلاعات إلى أن الديمقراطية مهددة، وأن الإسرائيليين أصبحوا أقل ثقة بمؤسساتهم التي يسيطر عليها فكر واحد، وأنهم يريدون بقاء صلاحيات المحكمة العليا، بل ربَّما إعطاؤها المزيد.
– النخب السياسية التي أبدت قلقها من هذا القرار كانت قد ساهمت بتحريض على المظاهرات والخروج، ومنهم نائب في الكنيست هو عضو في الجبهة والتغيير من الكتلة البرلمانية العربية.
السيناريوهات والخاتمة
تشير الأزمة بكل ظواهرها الجديدة والمتسمة بسوابق قديمة إلى وصول البلاد لحالة من الدوامة مرة أخرى، وربَّما سيتطور الأمر إلى حد الوصول إلى أزمة دستورية وسياسية داخلية تحدث انقسامًا حادًا داخل إسرائيل. فقد بات ذلك واضحًا في البرلمان (الكنيست) الذي وصل إلى حد تحريض بعض النواب إلى العصيان المدني في الشوارع، ما دعا نائب البرلمان – وهو من حزب الليكود – معاقبة أحد النواب وإنزاله بالقوة، وهذا مؤشر شديد الخطر. فالمعطيات للمشهد السياسي تنذر بحالة اختلال من جديد في الحكومة، وهل سيفشل الائتلاف؟ ليس بالضرورة، لكن أعداد اليساريين والعرب وحتى الوسط، تفوق تلك الأعداد في اليمين، هذا فضلاً عن أن بعض اليمينيين أبدوا معارضتهم للنهج الجديد.
إذا ما تم ونجح تنفيذ المشروع القضائي الجديد، فإن هذا سيؤدي إلى مزيد من السياسات المتطرفة ضد الفلسطينيين العرب، وأيضًا إلى تمرير سريع وتنفيذ لقرارات اليمين المتطرف والائتلاف الحاكم، وهو ما يعني سن قوانين أكثر عنصرية ربَّما اتجاه أولئك السفارديم، أو حتى اليساريين الحريديم وغيرهم؛ يوازي قانون سحب الجنسية.
مصادر المعلومات
طالب علوم سياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر