سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ماريا ريبنيكوفا
في حقبة ما بعد الحرب الباردة، قليلة هي المفاهيم التي حددت مجرى المناقشات حول السياسة الخارجية الأميركية بشكل أعمق من فكرة “القوة الناعمة”.
لقد صاغ العالم السياسي الأميركي جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابه الصادر عام 1990، “ملزمون بالقيادة” (Bound to Lead)، وعرفه على أنه “دفع الآخرين إلى الرغبة في ما ترغب”. بيد أن ناي لم يكن يحاول إلقاء الضوء على عنصر من عناصر القوة الوطنية فحسب، بل كان أيضاً يتصدى للحجج القائلة بأن الولايات المتحدة تواجه تراجعاً وشيكاً. في المقابل، جادل ناي بأنه إلى جانب براعة الولايات المتحدة العسكرية وقوتها الاقتصادية، تمتعت بميزة هائلة جعلتها تتفوق على أي منافس محتمل بفضل قوتها الناعمة الوفيرة التي تعتمد على “موارد غير ملموسة على غرار الثقافة، والأيديولوجيا، [و] القدرة على استخدام المؤسسات الدولية لتحديد إطار النقاش”.
لقد اكتسبت فكرة القوة الناعمة زخماً في تسعينيات القرن الماضي، ولكن جرى اختبارها في الولايات المتحدة في السنوات التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001. بعد الحرب الأميركية الكارثية في العراق والارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لأميركا في الشرق الأوسط وخارجه، أصر ناي على أن القوة الناعمة لم تكن مكملة للقوة الصلبة فحسب، لا بل ضرورية لها أيضاً. وجادل في كتابه الصادر عام 2004 ، “القوة الناعمة” (Soft Power)، قائلاً: “عندما نتجاهل أهمية جاذبيتنا بالنسبة إلى الدول الأخرى، فإننا ندفع الثمن”، حاثاً على نشر الدبلوماسية العامة بشكل مدروس أكثر. لم يكن لمثل تلك الحجج تأثير كبير في إدارة جورج دبليو بوش، في المقابل تبنتها إدارة أوباما في ما بعد. في عام 2013، وصفت مقالة واردة في تلك الصفحات أول شخصية دبلوماسية بارزة في إدارة أوباما، هيلاري كلينتون، بأنها “وزيرة خارجية القوة الناعمة”. بيد أن ميزان القوة الناعمة تأرجح من جديد في ظل الإدارة الأكثر هجومية والأقل عالمية للرئيس دونالد ترمب، ثم مرة أخرى عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه، وتعهد باستعادة المكانة الأخلاقية للبلاد و”القيادة بالقدوة وليس القيادة بالقوة فحسب” [“القيادة ليس باستخدام قوة يحتذى بها فحسب، بل من خلال الظهور كقدوة قوية”].
في غمرة هذه التقلبات في السياسة على مدى العقدين الماضيين، اشتهر مفهوم القوة الناعمة على يد فيلق من النقاد الذين استخدموه كاختصار لوصف السمات الثقافية التي تتمتع بها الـ”باكس أميركانا” [أي هيمنة السلام الأميركي]. وكما كتب المعلق الألماني جوزيف جوفي في تجسيد مميز للفكرة في عام 2006 “القوة الناعمة لأميركا لا تظهر من خلال موسيقى البوب والتفاهات فحسب، بل إن تأثيرها الثقافي جيد وسيئ في الوقت نفسه. هي في الواقع عبارة عن فن الغرنج وغوغل، مادونا ومتحف الفن الحديث، هوليوود وجامعة هارفرد”.
إن مرونة المفهوم والفكرةَ التي تزعم أن القوة الناعمة أعطت الولايات المتحدة دعماً في طريقها نحو الهيمنة، جعلا تلك الفكرة جذابة للمفكرين والقادة في عدد من البلدان والمناطق الأخرى. وكانت الصين من بين الأماكن التي جرى فيها تبني مفهوم القوة الناعمة بحماسة هائلة. بدءاً من عام 2007 تقريباً، تحت قيادة الرئيس هو جينتاو آنذاك، بدأ كبار المسؤولين الصينيين في دمج القوة الناعمة في خطاباتهم ومنشوراتهم. في ذلك العام، في المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني، حث هو جينتاو كوادر الحزب على “تحفيز الإبداع الثقافي للأمة بأسرها، وتعزيز الثقافة كجزء من القوة الناعمة لبلدنا”. في السنوات التي أعقبت ذلك، أنتج العلماء الصينيون مجموعة غنية من الكتابات حول هذا الموضوع، وقام الحزب الشيوعي الصيني باستثمارات ضخمة في الدبلوماسية العامة، بما في ذلك التوسع العالمي لوسائل الإعلام المملوكة للدولة والمراكز الثقافية واللغوية المعروفة باسم معاهد كونفوشيوس والفصول الدراسية، التي أنشئت في 162 دولة. في غضون ذلك، سعى الحزب إلى تدويل نظام التعليم العالي الصيني من خلال ضم الطلاب والعلماء الأجانب.
كما هي الحال في الولايات المتحدة، تم التعامل مع القوة الناعمة على أنها فكرة مفعمة بالأمل في الصين، إذ إنها إضافة مهمة لنهوض البلاد، وخصوصاً توسعها الاقتصادي. في الواقع، يتبنى الخبراء والمسؤولون الصينيون الآن القوة الناعمة بإلحاح أكبر من نظرائهم الأميركيين. هناك فهم راسخ بأن مكانة الصين في النظام الدولي محدودة وقد طغى عليها الغرب، وأنه لكي تنافس الولايات المتحدة حقاً، تحتاج الصين إلى تقدير أكبر من الرأي العام العالمي ومزيد من التأثير عليه. كما أن الشرعية والاحترام الخارجيين لدولة الحزب الواحد الصينية مرتبطان أيضاً بشرعيتها المحلية. وبطريقة موازية، يرتبط فهم الصين للقوة الناعمة بفكرتي “الثقة بالنفس ثقافياً” و”الأمن الثقافي” اللتين روج لهما الرئيس شي جينبينغ، وهما مصطلحان يدلان على التماسك الاجتماعي والاعتزاز بثقافة الصين وقيمها وتاريخها.
ومع تسارع المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، سيكون من الطبيعي رؤية القوة الناعمة على أنها مجرد اتجاه آخر للمنافسة، تتبارى فيه واشنطن وبكين على جعل نفسيهما ونماذجهما السياسية والاقتصادية أكثر جاذبية لبقية العالم. من الواضح أن القادة والنخب في كلا البلدين يرون الأشياء بهذه الطريقة، ويقلق البعض منهم بشأن نقاط ضعفهم المحتملة. في الولايات المتحدة، يمكن أن يؤدي تفكك المعايير الديمقراطية إلى الإضرار بصورة البلاد كمعقل للقيم الليبرالية. في الصين، يمكن أن يؤدي تباطؤ الاقتصاد والشعور بالعزلة الناجم عن نهج “صفر حالات كورونا” الذي تتبناه الدولة في التعامل مع الوباء إلى إضعاف سمعتها في الإدارة البراغماتية التي تركز على النتائج.
بيد أن صورة التنافس المباشر لا تُظهر تماماً الطريقة التي تجري بها الأحداث. أولاً، يفسر البَلَدان القوة الناعمة بشكل مختلف كلياً، ويقومان بتطبيق المفهوم بطرق مختلفة. في حين تضع واشنطن القيم والمثل الديمقراطية في صميم تعزيزها للقوة الناعمة، تركز الصين أكثر على الأمور العملية، وتسعى إلى دمج جاذبيتها الثقافية والتجارية. في الحقيقة، لقد حصد هذا النهج مكاسب محدودة في الغرب، ولكن تردد صداه في “عالم الجنوب”. وعلى الرغم من ذلك، فحتى هناك، غالباً ما يرى الناس شكلي القوة الناعمة على أنهما مكملان لبعضهما أكثر من كونهما تنافسيين. ببساطة، يسعد الناس جداً في أجزاء كثيرة من العالم أن يحاول كل من الأميركيين والصينيين إغواءهم برؤاهم وقيمهم الخاصة. وما تراه واشنطن وبكين على أنه فوز لطرف واحد، غالباً ما يعتبره كثير من العالم فوزاً للجميع.
القوة الناعمة صلبة
لطالما اكتسب المفهوم الأميركي للقوة الناعمة نزعة أيديولوجية واضحة، إذ تقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها المدافع الرئيس عن النظام الديمقراطي الليبرالي.
قد عبر بايدن عن جوهر وجهة النظر تلك حول النفوذ الأميركي في خطاب تنصيبه، فأعلن، مستخدماً صياغة مفضلة لديه: “سنقود بالقدوة وليس بالقوة فحسب”. في ديسمبر (كانون الأول) 2021، استضافت إدارة بايدن قمة افتراضية تتمحور حول الديمقراطية بهدف التجديد الديمقراطي وبناء تحالفات ضد القوى الاستبدادية على غرار الصين وروسيا. وفي ذلك الإطار، عززت حرب روسيا المستمرة مع أوكرانيا الهدف الرامي إلى دعم التضامن الديمقراطي في وجه معتد استبدادي مشترك.
تعكس الدبلوماسية الأميركية العامة أصداء تلك المشاعر. على وسائل التواصل الاجتماعي، تحتفل السفارات الأميركية بالتنوع الجنسي والعرقي والثقافي وتشيد بنماذج المرونة الفردية والإبداع، وتجمع أحياناً بين الموضوعين من خلال الإعلان عن قصص نجاح الأفراد المهاجرين ودعوتهم للتحدث في الفعاليات والمنتديات. وعلى نحو مشابه، تتشكل القوة الناعمة الأميركية أيضاً إلى حد كبير من خلال التصدير الثقافي للقطاع الخاص، مثل أفلام “هوليوود” وموسيقى “الهيب هوب” والموضة، وماركات معروفة عالمياً مثل “كوكا كولا” و”ماكدونالدز”. غالباً ما يجمع عرض القوة الناعمة للولايات المتحدة بين القطاعين العام والخاص. خلال حقبة الحرب الباردة، على سبيل المثال، روجت وزارة الخارجية لعازفي موسيقى الجاز الأميركيين في الخارج، ورعت وكالة المخابرات المركزية الكتّاب والمؤلفات سراً. واستمر هذا التقليد وتوسع في حقبة ما بعد الحرب الباردة، مع رعاية وزارة الخارجية للفنانين والموسيقيين ليكونوا بمثابة سفراء ثقافيين.
في الصين، يركز فهم القوة الناعمة وممارستها على البراغماتية أكثر من تركيزه على القيم. عند التعامل مع فكرة ناي، جادل بعض المحللين الصينيين بأن الفصل بين القوة الصلبة والناعمة مصطنع، مشيرين إلى أن جزءاً كبيراً من جاذبية الولايات المتحدة يعتمد على براعتها العسكرية وقوتها الاقتصادية. وكما أشار الباحث تشاو كيجين، فحتى أحد أكثر رموز القوة الناعمة الأميركية شهرة، “كوكا كولا”، ليس مجرد ظاهرة ثقافية، بل قوة تجارية طاغية. وبطريقة تترجم هذا النقد، تتضمن استراتيجية القوة الناعمة التي يعتمدها الحزب الشيوعي الصيني تعزيز الثقافة والقيم الصينية، لكنها تروج أيضاً لنموذج التنمية الاقتصادية الذي تعتمده الصين، والكفاءة في الحكم، والتقدم التكنولوجي، وإمكاناتها العسكرية المتنامية، وقدرتها على تنفيذ التعبئة السياسية، كما رأينا في حملاتها ضد الفقر والفساد. إذاً، أي شيء قد يحسن من صورة الصين يعد عنصراً من عناصر القوة الناعمة، حتى القوة الصلبة الصينية. وفي حين تعتمد واشنطن أحياناً على القوة الناعمة لصرف الانتباه عن قوتها الصلبة، توجه بكين الانتباه أحياناً إلى قوتها الصلبة لدعم قوتها الناعمة.
يتبنى الخبراء والمسؤولون الصينيون الآن القوة الناعمة بإصرار أكبر من نظرائهم الأميركيين.
يَظهر نهج الصين الأكثر براغماتية والأقل أيديولوجية تجاه القوة الناعمة في خطابات شي الدولية الرئيسة، التي يميل فيها إلى التقليل من أهمية الأيديولوجية لصالح التطلعات العملية. في الواقع، أعلن شي في خطاب في الأمم المتحدة في سبتمبر2021: “يجب علينا حماية سبل عيش الناس وتحسينها، وحماية حقوق الإنسان وتعزيزها من خلال التنمية، والحرص على أن تكون التنمية للناس وبواسطة الناس، وأن يتقاسم الناس ثمارها”. تقوض صياغة شي بمهارة العلاقة بين الحقوق والقيم الديمقراطية الليبرالية، وتعيد تعريف “حقوق الإنسان” على أنها الوصول إلى الفرص الاقتصادية. ومن خلال التواصل مع الجماهير العالمية، إن وسائل الإعلام الدولية في الصين، على غرار صحيفة “تشاينا دايلي” China Daily وشبكة تلفزيون الصين العالمية “تشاينا غلوبل تي في نتوورك” CGTN، تحذو حذو شي وتركز على الإنجازات الاقتصادية الصينية. ويدعم الحزب الشيوعي الصيني هذا النوع من دبلوماسية القوة الناعمة عن طريق الكرم المادي. في وقت سابق من هذا العام، على سبيل المثال، تعهد شي بتقديم 500 مليون دولار لدعم أهداف التنمية في بلدان آسيا الوسطى، بما في ذلك التحسينات في الزراعة والصحة العامة.
تحاول الصين أيضاً تعزيز قوتها الناعمة من خلال التعليم. وفي ذلك الإطار، تجدر الإشارة إلى أن برامج التدريب التي ترعاها الدولة، والتي توفرها الصين للمسؤولين في دول العالم الجنوبي، تقدم الحزب الشيوعي الصيني على أنه مصدر إلهام للتطور السريع، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتغلب على الفقر. في ذلك السياق هتف مسؤول إثيوبي التقيت به في أديس أبابا عام 2019، وحضر تدريبات صينية عدة: “لقد انتشلوا 700 مليون شخص من حالة الفقر!”. ثم عدد الحقائق والأرقام التي تعلمها في رحلته إلى الصين، بما في ذلك معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وعدد الجامعات التي تتضمنها، وحتى معدل التحضر فيها.
تستفيد القوة الناعمة للولايات المتحدة من الصورة التي تبين أن المؤسسات التعليمية الأميركية تنتمي إلى النخبة والدرجة الأولى، في المقابل، تستخدم الجامعات الصينية رسومها الدراسية المنخفضة نسبياً فضلاً عن توافر المنح الدراسية الممولة من الدولة كصفات جاذبة عند استقبال طلاب من دول العالم الجنوبي. (قبل كورونا، كان حوالى 80 ألف طالب من أفريقيا يدرسون في الصين، ما جعلها الوجهة الثانية الأكثر شعبية للطلاب الأفارقة، بعد فرنسا). كذلك، تربط الصين برامجها التعليمية الدولية مباشرة بالفرص الاقتصادية التي تمولها الدولة. ومن خلال الترويج لمعاهد كونفوشيوس، تسلط بكين الضوء ليس على المنح الدراسية التي يمكن للطلاب الحصول عليها فحسب، بل أيضاً على إمكانية العمل في الشركات الصينية التي يتمتع بها الخريجون. في إثيوبيا، على سبيل المثال، تُدرج إعلانات معاهد كونفوشيوس، من بين الفوائد العملية الأخرى لدراسة اللغة الصينية، إمكانية الحصول على وظيفة ذات رواتب عالية في شركة صينية. (يظهر الاستمتاع بالثقافة الصينية في ذيل تلك القائمة تقريباً). إضافة إلى ذلك، كشفت المقابلات التي أجريتها مع الطلاب ومسؤولي الجامعات في إثيوبيا أن عدداً من خريجي المعاهد ينتهي بهم المطاف في العمل كمترجمين في المؤسسات الصينية، حيث يتقاضون ضعف متوسط الراتب الذي يحصل عليه الأستاذ الجامعي الإثيوبي.
من المنظور الغربي، قد يبدو أن الصين تعوض نقص القوة الفكرية بالإغراءات المادية. ووفقاً لهذا الرأي، فالصين لا تمارس حقاً القوة الناعمة على الإطلاق، بل تستخدم قوتها الاقتصادية لاستقطاب الناس. في الحقيقة، يتجاهل هذا النقد حقيقة أنه على الرغم من أن تلك الحوافز الاقتصادية في حد ذاتها ليست ممارسات للقوة الناعمة، إلا أنها تعزز القوة الناعمة الصينية من خلال تعزيز صورة الدولة باعتبارها معقلاً للكرم والفرص والكفاءة والبراغماتية. كما أن المشاركة الاقتصادية تملك بعداً وجدانياً، ما يشجع على الارتباط العاطفي بالصين، بخاصة في الأماكن التي تكون فيها الفرص الأخرى نادرة. بالتالي، ما قد يبدو صفقة في عيون الغرب ينقل في الواقع رسالة قوية حول ما يجعل الصين جذابة.
البراغماتية سلعة رائجة
في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الصناعية الغربية، كان للقوة الناعمة الصينية تأثير ضئيل، كما يتضح من تراجع شعبية الصين في مثل تلك الأماكن في السنوات الأخيرة. يُعد ذلك جزئياً نتيجة ثانوية للربط السلبي الموجود مسبقاً بين الصين من جهة والشيوعية والسلطوية من جهة أخرى. على نحو مماثل، ترتبط تلك الآراء السلبية أيضاً بسياسة الصين الخارجية الصارمة بشكل متزايد في ظل حكم شي، بما في ذلك صعود ما يُعرف بدبلوماسية “الذئب المحارب”، التي تتضمن استخدام المسؤولين لخطاب عدائي، وفظ حتى، من أجل مهاجمة منتقدي الصين، بخاصة في الغرب.
لقد حقق نهج الصين الأكثر واقعية تجاه القوة الناعمة، الذي تم وضعه على رأس مشاركتها الاقتصادية التوسعية، نجاحاً أكبر في دول العالم الجنوبي، بما في ذلك أفريقيا وأميركا اللاتينية. في ذلك الإطار، وجدت أحدث استطلاعات الرأي العام في أفريقيا شعوراً إيجابياً إلى حد كبير تجاه التأثير الاقتصادي والسياسي للصين في القارة، إذ اعتبر ما يقرب من ثلثي الأفارقة الذين شملهم الاستطلاع في 34 دولة، أن تأثير الصين “إيجابي إلى حد ما” أو “إيجابي للغاية”. وفي استطلاع أجراه مركز “بيو” للأبحاث في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك في عام 2019، أفاد حوالى نصف المشاركين بأن لديهم صورة إيجابية عن الصين، فيما أعرب حوالى الربع لا غير عن آراء سلبية.
في بحثي حول القوة الناعمة الصينية في إثيوبيا، وكذلك في المقابلات التي أجريتها مع النخب الأفريقية التي تدرس وتَحضر تدريبات مهنية في بكين، وجدت تقديراً عاماً لأدوات القوة الناعمة الصينية، مثل الفرص التعليمية. على النقيض من العدد الصغير لبرامج المنح الشديدة التنافسية التي ترعاها وزارة الخارجية الأميركية، تقدم الصين آلاف المنح الدراسية من أجل تغطية تكلفة الشهادات وبرامج التدريب للنخب والشباب الأفارقة. في إثيوبيا، كل مسؤول تلتقي به تقريباً سبق أن زار الصين، أو يخطط لزيارتها أو يعرف شخصاً زارها. هؤلاء أشخاص طموحون، متعطشون للخبرة المباشرة في المراكز الرئيسة للقوة العالمية، وعلى الرغم من أن الصين قد لا تكون الوجهة المفضلة لديهم، إلا أنها غالباً ما تكون الوجهة الوحيدة الممكنة. وكما أخبرني أحد العاملين في مجال الإعلام الإثيوبي في أديس أبابا خلال زيارتي في عام 2019، “من الأفضل رؤية الصين بدلاً من البقاء في المنزل وعدم رؤية شيء”.
بالنسبة إلى الجمهور الأوسع نطاقاً في أماكن مثل إثيوبيا، تميل القوة الناعمة الصينية إلى الظهور من خلال مشاريع البنية التحتية، على غرار السكك الحديدية والجسور والطرق السريعة. يُعد جزء من تلك المشاريع مثيراً للجدل بسبب القروض المرهقة، والنزاعات حول العمل، والمخاوف بشأن الجودة والسلامة. وعلى الرغم من ذلك، فهي ترفع مكانة الصين. في أديس أبابا، امتلأت مواقع البناء المنتشرة في كل مكان المموَلة من الاستثمارات الصينية، بملصقات إعلانية عن الشركات الصينية. وعندما سألت الإثيوبيين عن الانتقادات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين الذين حذروا من تأثير الصين الخبيث على السياسة والمجتمع الإثيوبيين، كان الرد الذي سمعته غالباً، “وأين الأميركيون؟”
مع الاعتراف بجاذبية الصين النسبية ومزاياها في العالم الجنوبي، من المهم عدم التعامل مع المنافسة الأميركية الصينية هناك، أو في أي مكان آخر، على أنها لعبة يربح فيها طرف واحد لا غير. في الواقع، يجد كثير من الناس أن كلاً من الصين والولايات المتحدة جذاب، ويعتبرون نماذجهما المختلفة متكاملة لا متعارضة. حتى في مناطق مثل جنوب شرقي آسيا، حيث يوجد مزيد من الشكوك العلنية والتنافس بشأن النفوذ الصيني والقوة الناعمة، تشير الاستطلاعات إلى تردد قوي في الانحياز إلى أي من البلدين.
وفي المقابلات التي أجريتها مع الإثيوبيين في أديس أبابا وبكين، وجدت أن كثيرين يرحبون بقصة النجاح الاقتصادي للصين، وفكرة مسار التنمية المشترك معها، بينما يعبرون في الوقت نفسه عن دعمهم للقيم التي يربطونها بالولايات المتحدة، مثل حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. في ذلك السياق، يبحث أعضاء النخب في أماكن مثل إثيوبيا عن فرص للتفاعل مع الأفراد والمؤسسات في كلا البلدين، ويجدون أنفسهم أحياناً يتفاوضون بين الاثنين. والجدير بالذكر أن الصحافيين الإثيوبيين الذين حضروا برامج تدريبية في الصين، على سبيل المثال، غالباً ما يستعلمون عن فرص مماثلة في الولايات المتحدة.
في إثيوبيا وغيرها، كثيراً ما يستخدم المسؤولون مشاركة الصين كورقة تفاوضية من أجل جعل الولايات المتحدة تسهم بشكل أكبر. على سبيل المثال، في ورشة عمل للتعليم العالي استضافتها سفارة الولايات المتحدة في أديس أبابا في عام 2019، سلط مسؤول تعليمي إثيوبي الضوء على الصين كمثال لأحد البلدان التي “تأخذ طلابنا”، ملمحاً أنه يجب على الولايات المتحدة أن تمنح فرصاً مماثلة. في المقابل، تجاهل المسؤولون الأميركيون الحاضرون هذا التعليق بأدب وتابعوا التشديد على العروض الأميركية، مثل المنح المرموقة والشراكات بين الجامعات. بيد أن أحد مسؤولي السفارات، اعترف بشكل غير علني، بأن الصين تنافس “على نطاق واسع” عندما يتعلق الأمر بإمكانية حصول الأفارقة على التعليم، وأن الصين هي الوجهة الأكثر ترجيحاً لعدد من الطلاب الأفارقة.
لا منافسة
بالنظر إلى المستقبل، ستواجه الولايات المتحدة والصين تحديات بارزة في تعزيز القوة الناعمة. في ذلك الإطار، يستدعي نهج واشنطن التدقيق بسبب عدم الترابط بين تشديد الدولة على القيم الديمقراطية والتزامها بها بشكل غير متسق. في الداخل، ينتقص الانهيار الديمقراطي، والتمييز العنصري المتفشي، والهجمات على حقوق الإنجاب من صورة الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية ملهمة. واستطراداً، في ورش العمل مع مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية، شعرت بوعي متزايد حول الحاجة إلى معالجة تلك القضايا، ولكنني شعرت أيضاً بالخوف من أن القيام بذلك علناً من شأنه أن يضع الولايات المتحدة في وضع غير موات مقابل الصين. “ألن يجعلنا هذا نبدو ضعفاء؟” سأل أحد المسؤولين عندما اقترحت أن الدبلوماسية العامة الأميركية يمكن أن تنقل مزيداً من الصراحة والتواضع حول التحديات التي تواجه الديمقراطية الأميركية.
في الخارج، يشجع التزام واشنطن الانتقائي حقوق الإنسان على الشك بنواياها. في الحقيقة، إن فشل الولايات المتحدة وحلفائها في تحفيز جزء كبير من العالم الجنوبي، بما في ذلك الدول الكبرى مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، في المواجهة مع روسيا، يعكس انعدام ثقة عميق. وفي تفسير الإحجام عن إدانة روسيا، يميل المسؤولون في تلك الدول إلى اتهام “الناتو” بلعب دور في خلق الأزمة في أوكرانيا، والتقليل من أهمية العدوان الروسي من خلال الإشارة إلى الحروب التي تشنها الولايات المتحدة، وهو كلام يردد بالضبط صدى الدبلوماسيين الصينيين ووسائل إعلام الدولة الصينية.
تقيد الولايات المتحدة يديها حين تحد من استثماراتها في رأس المال البشري من خلال فرص التدريب والتعليم. وغالباً ما يعرب الدبلوماسيون الأميركيون عن اهتمامهم بفكرة التنافس مع الصين عندما يتعلق الأمر بالمنح الدراسية والوسائل الأخرى لجذب المواهب. ويعبر كثيرون أيضاً عن اقتناعهم بأن من يتمتعون بأفضل المواهب سيجدون طريقهم إلى الولايات المتحدة تلقائياً، ومن دون تدخلات، وهو اعتقاد يخلق حالة من الجمود عندما يتعلق الأمر بإعادة التفكير بشكل أساس في سلوك الدبلوماسية العامة.
أي شيء قد يحسن صورة الصين يعد عنصراً من عناصر القوة الناعمة، حتى القوة الصلبة الصينية.
تستدعي الصين من جهتها، ومن خلال الاعتماد على الحوافز العملية بدلاً من الرؤى الأيديولوجية، تدقيقاً في جودة عروضها وتخاطر بالمعاملة بالمثل تماماً على أرض الواقع. على سبيل المثال، قوبلت صادرات الصين من لقاحات كورونا بالريبة في أجزاء كثيرة من العالم الجنوبي، وجرى تهميشها لصالح الخيارات الغربية عندما أصبحت متاحة، وفي وقت لاحق تأكدت المخاوف بشأن فعالية اللقاحات الصينية. وعلى نحو مماثل، في المحادثات التي أجريتها مع طلاب من عدد من البلدان الأفريقية، شعر كثيرون بالقلق جَهراً بشأن جودة التفاعلات بين الطلاب والمدرسين والنهج التربوي في بعض برامج التعليم في الصين. ولاحظت الدراسات حول تأثير وسائل الإعلام الحكومية الصينية في أميركا اللاتينية وأفريقيا استهلاكاً عاماً محدوداً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الناس رأوا أن المحتوى غير جذاب. إذاً، من أجل سد فجوة الجودة، سيتعين على الحزب الشيوعي الصيني تحويل مقاييس التقييم التي يعتمدها من الكمية إلى الجودة، والسماح بمزيد من الحرية الإبداعية، بخاصة في وسائل الإعلام، وهما تعديلان يبدو من غير المحتمل حدوثهما في ظل حكم شي.
وعلى نطاق أوسع، فإن نهج القوة الناعمة البراغماتية في الصين يخاطر بالانهيار ليتحول إلى مجرد عمليات تبادل، على أن تكون أي فائدة للصين مشروطة بـتلقي الآخرين فوائدَ مادية. عندما سألت مسؤولي الجامعة الإثيوبية عما يمكن أن يحدث لمعاهد كونفوشيوس في البلاد إذا لم تؤد الدراسة فيها إلى إيجاد وظائف في الشركات الصينية، كان ردهم واضحاً ومقتضباً: “سنغلقها”. ويبقى أن نرى كيف ستؤثر سنوات العزلة الوبائية التي مرت بها الصين، والتي أعاقت التبادلات بين الناس، في صورتها في العالم الجنوبي. وعلى الرغم من ذلك، في غياب رؤية فكرية أكبر، ستحتاج الصين إلى الاستمرار في تقديم هدايا أكبر من أي وقت مضى، وهي مهمة ستصبح أكثر صعوبة إذا استمر الاقتصاد الصيني في التباطؤ.
على مدى عقود، ظل المسؤولون في الولايات المتحدة يفكرون في القوة الناعمة ويتحدثون عنها ويستخدمونها بوعي، حتى لو بطريقة غير متساوية ومتناقضة في معظم الأحيان، بينما بدأ نظراؤهم الصينيون في وقت لاحق. قد يعتبر ذلك نقطة سلبية، لكنه قد يعمل أيضاً لصالح الصين. في الحقيقة، أصبحت التناقضات والتوترات الداخلية وحتى النفاق أموراً منسوجة بعمق في القوة الناعمة الأميركية. والجدير بالذكر أن رؤية الصين الأقل مثالية للقوة الناعمة، إذا خضعت لإدارة صحيحة، قد تتجنب تلك المشكلة، طالما أنها قادرة على البقاء “ناعمة” في المطلق. في غضون ذلك، على الرغم من الاعتقاد السائد في واشنطن وبكين بأن البلدين يخوضان منافسة في ما يتعلق بالقوة الناعمة، فالواقع يبدو أشبه بتعايش بين القوى الناعمة، إذ إن نجاحهما في جعل نفسيهما أكثر جاذبية لا يعتمد على التفوق على بعضهما بعضاً، بقدر ما يعتمد على التغلب على النزاعات الداخلية الخاصة بهما. ونظراً لأن كل بلد يحاول تطوير جاذبيته وتقليل جاذبية الآخر، خف اهتمام جزء كبير من العالم بمسألة ما إذا كان النموذج الأميركي أو الصيني هو الأكثر جاذبية بشكل عام، وزاد اهتمامه بما يقدمه كل بلد.
المصدر: إندبندنت عربية – “فورين أفيرز”
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر