سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
الصداع (Headache) هو ألم في الرأس أو الفروة أو الرقبة، والسبب الرئيسي لكافة أنواع الصداع غير معلومة وقد يتحسن معظم الأشخاص لو غيروا أسلوب حياتهم وتدربوا على كيفية الاسترخاء أو بتناولهم أدوية له. هذا بالضبط ما حدث في أوروبا فألمانيا الدولة المحورية، والبلد المركزي في المشروع الأوروبي أصيب بالصداع وتحتم عليه أن يغير سياسته.
ثلاث أحداث يمكن أن تصف ما حدث يوم 24 سبتمبر 2017 والتي سيكون لها تداعيات متعددة الأبعاد.
الأول: أن هناك مليون صوت انتخابي من الداعين لتحالف ميركل المكون من الحزب الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي، قد انتقلوا الى حزب البديل من أجل ألمانيا وهو حزب يصنف من اليمين المتطرف والذي يقدم تصورا مختلفا لألمانيا، مفرداته أنه يجب على ألمانيا أن تعادي الإسلام والمهاجرين، كما يجب عليها أن تنسحب من الاتحاد الأوروبي.
الثاني: أعلن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني انضمامه إلى المعارضة بعد خسارته وأنه لن يعود للائتلاف مع تكتل ميركل.
الحدث الثالث: يتمثل في نتيجة الانتخابات نفسها وهي:
في المرتبة الأولى كتلة المحافظين بقيادة ميركل “الاتحاد المسيحي الديمقراطي وحليفه البافاري الاتحادي المسيحي الاجتماعي” حصلت على 33%، ثم “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” في المرتبة الثانية بـ 21% من الأصوات، في حين يأتي حزب “البديل من أجل ألمانيا” من أقصى اليمين في المركز الثالث حاصدا 13% من الأصوات، ويعقبه الحزب اليساري الذي يدعمه 11% من الناخبين، فيما حصل “الحزب الديمقراطي الحر” على 9% من الأصوات، يليه حزب “الخضر” بـ 8% من الأصوات، وحصلت بقية الأحزاب المشاركة في الانتخابات على نحو 4% من الأصوات. تلك النتيجة تعني أن ستة أحزاب ستدخل البرلمان “البندسبانج” لأول مرة في تاريخ ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فكيف يمكن فهم وتفسير تلك الأحداث؟
اعتاد الدارسون والباحثون في العلوم السياسية الربط بين التغير في مزاج الناخبين وبين الأزمات الاقتصادية من ارتفاع معدلات البطالة أو التضخم أو الركود في علاقة طردية. لكن في الحالة الألمانية الوضع مختلف تماما. فالاقتصاد الألماني مزدهر، ومعدل البطالة هو ثاني أدنى معدل في الاتحاد الأوروبي، وهو رابع اقتصاد على العالم والأول أوروبيا. كما أن هذا الاقتصاد هو الذي تحمل القسط المالي الأكبر في برامج الإنقاذ التي قدمها الاتحاد الأوروبي للدول الغارقة في الديون. قوة الاقتصاد الألماني تلك تحولت إلى ثقل سياسي حيث أصبحت ألمانيا هي قائدة العالم الحر بعد انزواء الولايات المتحدة.
ترى إنيس بول رئيسة تحرير “دويتشه فيله”: أن ما حدث في هذا اليوم يعد منعطفا تاريخيا. فنتيجة انتخابات اليوم الأحد تغير وجه البلاد. وهذا ليس شيئا هينا، لكنه لم يصل إلى حد الكارثة. إنه تحدٍ، لكنها الديمقراطية على كل حال. وتؤكد على أن هذه الانتخابات تحمل رسالة واضحة هي: لا لمواصلة هذا المسار. وهي على قناعة راسخة بما تعلمته منذ الصغر في ظل النظام الشيوعي بأن على ألمانيا وأوروبا أن تحافظا على ميزاتهما التنافسية والتخلص من العجز في الميزانية في ظل تغيرات اقتصادية عالمية متسارعة. وأنغيلا ميركل تدخل هذه المفاوضات الصعبة، وهي فاقدة بشكل قوي لجزء من شعبيتها، إضافة إلى أنها تحمل فوق كتفيها عبئا يتمثل في أن الكثيرين داخل صفوف اتحادها المسيحي يحمّلونها وسياسة لجوئها مسؤولية النتيجة الكارثية للحزب. وفي الجانب الآخر يعقد العالم بأسره الأمل في أن تبقى، رغم هذه النتيجة، إحدى الشخصيات السياسية المتزعمة للعالم الغربي، ومعها ألمانيا كشريك مستقر وموثوق به في الساحة العالمية، ولاسيما كبلد منفتح ومتجذر ديمقراطيا.
فما الذي تمثله ميركل في بلد يلعب فيه المستشار دورا حيويا في النظام السياسي وعقول الشعب؟
قدمت أنغيلا ميركل ابنة ألمانيا الشرقية بما كانت تمثله من فكر اشتراكي رؤية اقتصادية تعزز من الدور الاجتماعي للدولة، فبالرغم من اعتماد الاقتصاد الألماني على الشركات الخاصة حيث يوجد 1600 شركة ألمانية رائدة في مجالاتها وتولد إيرادات سنوية تتجاوز 2.2 تريليون دولار وتوظف ما يقارب 9 ملايين نسمة على مستوى العالم. كما يوجد 3 ملايين من الشركات الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا تعادل 50% من الناتج المحلي الإجمالي وتوفر وظائف لـ 61% من العمالة في البلاد، وتجاوزت صادراتها 200 مليار يورو في 2016، إلا أن الدولة تضطلع بدور رئيس في الاهتمام بالقوى العاملة كعامل داعم في تطور النمو الاقتصادي في ألمانيا وذلك من خلال “برامج التدريب المهني” لتخريج العديد من الطلاب في العديد من المجالات التي يحتاجها الاقتصاد، يستهدف هذا البرنامج شريحة خريجي المدارس الثانوية من خلال توفير العديد من برامج التدريب في العديد من الشركات الكبرى مثل بي إم دابليو ومرسيدس بنزوسيمنس. وتستقطب هذه البرامج ما يقارب من 1.3 مليون طالب سنويا وهو مالعب دورا رئيسا في تحفيز النمو الاقتصادي. من جانب آخر عملت الحكومة الألمانية على تقديم حماية قوية للطبقة العاملة وتمكينهم من الحصول على مقاعد في مجالس إدارة الشركات الكبرى. كما فرضت على حزبها سياسات تتعلق بوضع حد أدنى للأجور وإلغاء التجنيد الألماني والاعتماد على الطاقة البديلة بديلا عن محطات الطاقة النووية والغاز الروسي. وتم البدء في إغلاق المحطات النووية المخصصة لتوليد الكهرباء، والسعي إلى أن تصبح نسبة استهلاك الكهرباء في ألمانيا من الطاقة المتجددة نحو 35٪ عام 2020.
كل السياسات الناجحة لم تشفع لميركل أمام الناخب الألماني الذي لم يغفر لها تبنيها سياسة الأبواب المفتوحة التي بموجبها قبلت ألمانيا مليون لاجئ دفعة واحدة بشكل يفوق القدرة الاجتماعية والثقافية لألمانيا على استيعابه. فالمجتمع الألماني بحكم الظروف التي مر بها عبر تاريخه من هزيمة واحتلال وتقسيم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية أصبح يعاني كراهية للأجانب إلى حد المرض، فمثلا أعظم كتاب بيع بمليون نسخة في ثلاثة أسابيع كان لـ (تيلوسارازين) بعنوان (يا ألمانيا لقد أودى بك الأجانب فاطرديهم).
هنا لم تستطع ميركل أن تفرق بين لحظة سقوط حائط برلين وما تحمله من رغبة مجتمع في أن يتوحد وبين الاستثنائية الألمانية في مواجهة الآخر التي يرتكز عليها العقل الجمعي الألماني. تلك الاستثنائية عبّر عنها بدقة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حينما وجّه رسالة للشعب الألماني في العام 1808 والذي كان آنذاك خاضعا للاحتلال الفرنسي حين قال: “إذا كنتم أناسا يستحقون هذا الاسم (ألمان)، فيجب أولا أن تكونوا مواطنين، وإذا أردتم ألا تهلك المانيا فاجعلوها أولا أمة تحترم نفسها، وتحمل جميع الأمم على احترامها. إن الألمان هم الشعب الحقيقي، والجنس الصحيح والطراز الأصيل، إذا قلت الألماني فكأنك قلت الإنسانية كلها. إنهم الألمان أصح الأمم مزاجا، وأوفرهم نشاطا. أمة تمنح حياة جديدة لما اقتبسته من الأمم الأخرى، لأن الحياة فيها مستمدة من الله الذي صوّرها وقوّمها أحسن تقويم. إننا شعب الله المختار، شعب المستقبل إننا الوعي العالي للإنسانية”.
هذه النظرة المميزة للذات تجسدت عبر تاريخ ألمانيا كله، وتظهر بوضوح الآن في دعوة عضو قيادي بارز في حزب المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، المسيحي الديمقراطي، إلى “ألمنة” الإسلام والمسلمين من خلال إصدار قانون ينظم وضع الإسلام في ألمانيا على غرار “قانون الإسلام” بالنمسا جدلا واسعا في ألمانيا، واهتمت وسائل الإعلام بمتابعة ردود الأفعال من شتى الأحزاب الألمانية، وأيّدت قيادات حزبية خاصة من ائتلاف الاتحاد المسيحي وحزب المستشارة ميركل فيما رفض عمدة هامبورج والقيادي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ”إصدار قانون طائفي”. ويؤكد البروفيسور الألماني ديتليف بولاك على أن الألمان أقل استعدادا من بقية الأوروبيين لتقبل المظاهر الدينية الإسلامية داخل ألمانيا. وأن المسيحية لا تزال تحظى بقبول واسع لدى الألمان رغم عدم ذهاب الكثيرين منهم إلى الكنيسة، حيث يعتبر الكثيرين منهم أن المسيحية هي أساس الثقافة الألمانية.
هذا الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه ميركل كان نتيجته برلمان يضم ستة أحزاب للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. برلمان أقل ما يوصف به بأنه برلمان الانقسام والتشتت. وذلك بسبب وجود أحزاب متناقضة الرؤى والأهداف والبرامج فحزب الخضر يريد إغلاق 20 محطة للطاقة تدار بالفحم، بينما يرفض حزب الديمقراطيين الأحرار الأمر. وحزب الاشتراكي ينادى بمزيد من السياسات الاجتماعية، بينما يطالب الحزب الديمقراطي بتطبيق أفكار الليبرالية الجديدة. وحزب الخضر ذو الأيديولوجية الاجتماعية المنفتحة على الأجانب بينما يركز حزب البديل من أجل ألمانيا في برنامجه على رفض الهجرة والإسلام. كما امتد الانقسام الى الأحزاب نفسها فقد كانت لحظة نجاح حزب البديل في تحقيق أول إنجاز تاريخي له بالوصول للبرلمان كانت هي نفس اللحظة التي شهدت استقالات وانقسامات داخل الحزب. فالحزب السياسي في ألمانيا أصبح تجمعا لكثير من التوجهات التي لا تجد شخصية تجمع بينهم.
عمق الانقسامات داخل الأحزاب المكونة للبرلمان “البوندسبانج” ستجعل من قضية تشكيل حكومة ومعارضة متماسكتين قضية شاقة ومرهقة وتحتاج لوقت طويل، فما بالك بقضية إنتاج سياسات وبرامج.
لقد كشفت نتيجة الانتخابات عن الأزمة التي يعاني منها المجتمع وهي أزمة السياسة في ألمانيا الناتجة عن غياب النخب القادرة على صنع سياسات قوية وفاعلة ولها قبول جماهيري في دولة تضطلع بدور قيادة أوروبا. لذا فإن ألمانيا لا تحتاج إلى هلموت كول جديد ليوحد شطري الدولة ولكنها في حاجة إلى بسمارك جديد يوحد الولايات الألمانية من جديد على هوية جامعة. هذه الأزمة إذا استمرت فسوف تؤثر على قدرة ألمانيا على الاستمرار في قيادة الاتحاد الأوروبي الذي يعاني في نفس الوقت من مشكلات هيكلية تحتاج لقيادة متفهمة وواعية بطبيعة المرحلة.
أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر