(1)
«التاريخ يعيد نفسه مرتين، في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة».. هكذا قال كارل ماركس.
ويقول العلامة ابن خلدون: «في التاريخ لا توجد أحداث جديدة، يختلف المكان والزمان والأشخاص والحدث هو الحدث».
(2)
في الثاني من فبراير لعام 1982، كانت مدينة حماة السورية على موعد مع مجزرة هي الأبشع في تاريخ الشام الحديث، أو هكذا كانت حتى وقتها، حيث أمر نظام حافظ الأسد بتطويق المدينة وقصفها بالمدفعية ومن ثم اجتياحها عسكريا، وارتكاب مجزرة مروعة استمرت كان ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين من أهالي المدينة. وكان قائد تلك الحملة رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد.
دامت المجزرة 27 يوماً، وحشد لها حافظ الأسد سرايا الدفاع، واللواء 47/دبابات، واللواء 21/ميكانيك، والفوج 21/إنزال جوّي (قوات خاصّة) فضلاً عن مجموعات القمع من مخابرات وفصائل حزبية مسلّحة.
سقط ضحية هذه العملية الأمنية العسكرية وفق مختلف التقديرات ما بين ألف قتيل حسب التقارير الدبلوماسية في حينها إلى 40 ألف قتيل وفق تقديرات اللجنة السورية لحقوق الإنسان وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها كما هدم 88 مسجداً وثلاث كنائس وكذلك قلب المدينة الأثري، فيما هاجر عشرات الآلاف من سكّان المدينة هرباً من القتل والذّبح والتنكيل.
اختلف عدد ضحايا المجزرة باختلاف المصادر، حيث يقول روبرت فيسك (الذي كان في حماة بعد المجزرة بفترة قصيرة) أن عدد الضحايا كان 10 آلاف تقريباً، بينما قالت جريدة الإندبندنت إن عدد الضحايا يصل إلى 20 ألفاً. وقال الكاتب توماس فريدمان، إن رفعت الأسد تباهي بأنه قتل 38 ألفاً في حماة.
وأشارت بعض التقارير إلى صعوبة التعرف على جميع الضحايا لأن هناك ما بين 10 آلاف و15 ألف مدني اختفوا منذ وقوع الأحداث.
(3)
في صباح يوم عيد الفطر الموافق 11 أغسطس 1980، ارتكب حافظ الأسد مجزرة في حي المشارقة في حلب، خلفت أكثر من 100 قتيل دفنتهم جرافات في حفر جماعية وبعضهم كان جريحا ولم يفارق الحياة بعد.
مجزرة المشارقة واحدة من مجارز عدة ارتكبها حافظ الأسد في حلب، مثل مجزرة مدرسة المدفعية بالراموسة، ومجزرة سوق الأحد، ومجزرة بستان القصر، ومجزرة الكلاسة، ومجزرة اقيول واعدام أكثر من 2000 شاب على مدى عامين في ساحة الالمجي، وغير ذلك الكثير من المجازر في حل، ناهيك عن مجازره في ربوع سوريا، مثل مجزرة سجن تدمر.
وعلى خطى والده، سار وصار بشار الأسد، ليسطر اسمه بجوار والده في سجل مجرمي الحرب وقتلة الشعب، خلال 5 سنوات من اندلاع الانتفاضة المطالبة بإسقاطه ورحيله، في سياق ثورات الربيع العربي التي كانت سوريا خامس محطاته.. وآخرها.
(4)
لن نتحدث هنا عن مجازر بشار الأسد على مدار خمسة أعوام هي عمر الهبة الشعبية ضد حكمه، ولن نتباكى أيضا على أهلنا في حلب الذين تذكرهم العالم فجأة قبل أيام، فهاتين النقطتين قتلتا بحثا وعويلا ونحيبا خلال الساعات الماضية.
في هذه السطور، سنعرج على تاريخنا ونرجع إلى ماضينا، لعلنا نجد ما يهون علينا مصيباتنا، ويخبرنا سر انتكاستنا، فكما يقول العلامة ابن خلدون: “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”.
ما بين مجازر حافظ الأسد في حماة وحلب وغيرهما، ومجازر نجله بشار في حلب وأخواتها، تاريخ يتكرر بشكل يكاد يكون مملا، ودروس لم تستوعب بشكل يكاد يكون مخلا، وهنا سنتناول تلك الدروس التي قدمتها حماة بعد تجربة 1982، ورفت حلب الاستفادة منها في 2016.
(5)
بين حلب وحماة تشابه كبير وتقارب مثير، ليس فقط في بشاعة مجازر نظامي الأسد في كلتيهما، بل في تكرار الأخطاء في صفوف معارضي الأسد أيضا.
ويمكن أن نقارن تلك الأخطاء التي وقعت فيها الانتفاضة ضد حافظ الأسد، والتي أوردها كتاب “ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا” للمفكر الجهادي أبو مصعب السوري، الذي كان حاضرا وشاهدا على تلك الفترة، بتلك التي وقعت فيها الانتفاضة السورية ضد بشار، ومنعا للإطالة، سنعرض أهم هذه الأخطاء:
(6)
تشتيت الثائرين في تنظيمات وولاءات شتى:
في الانتفاضة ضد حافظ الأسد، كانت من أهم المعضلات أمام الانتفاضة السورية، حيث امتلأت ساحة المعركة بصنوف شتى من المنطوين تحت لواء الثورة، لتنوع مشارب المبادئ والتنظيمات والولاءات، بدلا من التوحد والالتقاء وتركيز الجهد لتحقيق هدف واحد، وذهب الأمر إلى أبعد من هذا، فبفعل الحزازات وأجواء الحزبية، نشأ في بعض الأحيان جو من الشحناء والحزبية والكراهية حتى بين شباب مجاهد يحمل الفكر ذاته والروح ذاتها والهدف ذاته، وما ذلك إلا لتواجده تحت قيادات مختلفة المشارب متضاربة الأهداف، وعدا ما لهذا التفرق والشرذمة من منعكسات سلبية على الصعيد الديني والأخلاقي، فقد كان تشرذم هذه القوى في مناحي شتى عاملا استراتيجيا كافيا لعدم الإفادة منها في آخر المطاف.
وفي الانتفاضة شد بشار، كانت ذات المعضلة موجودة وبقوة في صفوف المنضمين للانتفاضة الثورية، وتنوعت مشارب الثائرين وتباينت صفوف المجاهدين، بهذا مؤيد لتنظيم الدولة، وذاك مبايع للقاعدة، وثالث فر إلى جبهة النصرة، ورابع ينتمي إلى الجيش الحر، لدرجة أن أغلب المهتمين بالشأن السوري والمهمومين له لا يعرفون الفارق بين كل التنظيمات المتواجدة هناك.
الكارثة كانت أيضا بالاقتتال الداخلي في صفوف التنظيمات المحسوبة على الثورة، ولا ينسى أحد الاقتتال بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة، ثم الاقتتال بين الجيش الحر وتنظيم الدولة، وحلقات كثيرة من الاقتتال بين صفوف المعارضة، في حين كان نظام الأسد متفرغ فقط لقتل الشعب ووأد الثورة، وهو ما فشل فيه أيضا رغم التناحر بين التنظيمات المعارضة، ولولا التدخل الروسي لآلت الأمور إلى شأن آخر.
إذن، معضلة تشتيت الثوار وتفرقهم بين ولاءات متباينة، كانت من ضمن أسباب فشل الانتفاضات في سوريا في مطلع الثمانينات، وتكررت بشكل أسوأ في سوريا 2011 وما بعدها، والشيء الوحيد الذي لم يختلف هو النتيجة الكارثية في الحالتين.
(7)
غياب الاستراتيجية والتخطيط
في الانتفاضة ضد حافظ الأسد، يروي الكتاب أنه رغم توافر الوقت والإمكانيات والظروف وتأييد الجوار، لم تستطع المعارضة السورية أن تنتقل بالعمل إلى المستوى الاستراتيجي، بل على العكس اعتمدت على معطيات الداخل وبنت عليه أحلامها بالحسم وغابت الاستراتيجية حتى عن برامج الإعداد والتدريب، وسار العمل بشكل شبه فطري قدرت فيه الضرورات دائما حسب معطيات الأمر الواقع، وما لبث الأمر أن خرج من يد مخططيه بمجرد انفجار الأحداث، وأصبحت الأحداث تجر مخططيها عبر سلسلة من الضرورات واختيار أهون الشرور.
الأمر تكرر أيضا في الانتفاضة ضد بشار، فالدعم الخارجي من دول الجوار كان كبيرا جدا، ورغم ذلك غاب التخطيط الاستراتيجي لمستقبل الانتفاضة، وكيفية تطوير قدرات المعارضة لتصبح أكثر ملائمة لتغيرات الوضع على الأرض، واكتفى الثوار إما بمقاتلة بعضهم البعض، أو بأمنيات عاجزة عن قرب الانتهاء من بشار وإسقاط نظامه، دون أن يحسب أي من قادة المعارضة حسابا لتقلبات الأيام وحرص النظام العالمي على الحفاظ على حلب ونظام الأسد ومن خلفه إيران، كجزء أصيل من أركان هذا النظام.
لم يعتقد ثوار سوريا ان النظام العالمي كله سيحتشد لمنع سقوط حلب، حتى تصبح عبرة لمن يفكر يوما في كسر هذا النظام، وطنوا أنهم مانعتهم أموال وأسلحة دول الجوار من غدر النظام الدولي.. إنه سوء التخطيط وغياب الاستراتيجية الخاطئة كما تحدثنا آنفا.
(8)
الاعتماد على الكم
في الانتفاضة ضد حكم حافظ الأسد، ذهبت الصدمة الأولى وهي الفترة الممتدة من أواسط 1970 وحتى أواخر 1980 بصفوفهم في سلسلة مأسوية من الإستشهادات، ولذلك تورطت القيادات بفتح باب التنظيم غير المنظم وغير المدروس أمام الجماهير لتوسيع قاعدتها، فغلب الكم على النوع وظهرت ظواهر سلبية وشاذة مميتة فيما بعد، فقد كان العديد من الملتحقين بالدرب من غير المتعمقين في طريق الثبات والالتزام الإسلامي، و لم يكن يميزهم إلا الحماس والاندفاع الذي فتر بعيد تراجع الأحداث ولاسيما الخروج خارج الحدود.
نفس الأمر تكرر في الانتفاضة ضد بشار، ورحب الثائرون بكل من ينضم إلى صفوفهم ويرفع رايتهم، دون النظر إلى خلفيته وولائه، ناهيك عن مدى استعداده للتضحية من أجل الثورة، ومدى قدرته على التحمل. ومع الاقتتال بين طوائف الثورة، ظهرت مساوئ هذا الترحيب بشكل كبير، وشاهدنا كيف انسحبت مجموعات قتالية بعينها تاركة سلاحها لتنظيمات معارضة أو لجيش النظام، كما شاهدنا ما حدث لحلب من انهيار مدو في صفوف المعارضة ومن ثم تسليمها إلى النظام بشكل يشكل علامة فارقة في المعادلة.
(9)
انتظار الدعم من جهات خارجية باستمرار وعدم الاعتماد على النفس:
في تجربة حافظ الأسد، كان خطأ قاتلا دمر الطليعة في الداخل، ثم دمر حشود المجاهدين في الخارج، ثم دمر القيادة الميدانية والإدارة العسكرية للضباط في حماه ودمشق (ما سمي بمخطط الحسم ). لقد تورط كل المعنيين بإدارة العمل الجهادي بالاعتماد على إمداد الخارج المهزوز وغير المستقر، بل تعدى ذلك بالاعتماد على الأنظمة المعادية في الجوار . وتمددت الثورة واتسعت وارتفعت تكاليفها بشكل سرطاني غير مدروس متغذية. مما تدفق من الجوار من مال وسلاح ولوازم وفي لحظات بعينها قطعت تلك الإمدادات أو خيبت الآمال كما حصل للطليعة ثم لقيادة حماه والضباط، فحصلت المأساة، لقد كان درسا من أعظم الدروس (لا يمكن لحركة جهادية ثورية تمارس حرب عصابات شاملة أن تعتمد في تمويلها وتسليح أفرادها وإعالتهم إلا على نفسها وما تستخلصه من عدوها، وعليها أن تضع المخطط لهذا الأمر بكل وضوح وتفصيل. وإلا فإنها ستتحول لورقة لعب سياسية بأيدي الآخرين فإن أبت فالقضاء عليها رهن قرار هؤلاء الآخرين). لقد كان درسا قاسيا جاء فهمه متأخرا وليعتبر معتبر!
وفي الانتفاضة ضد بشار، تكرر هذا الدرس بحذافيره، بل كان أكثر الدروس تطابقا مع تجربة حافظ الأسد، سواء في طريقة الحدوث أو في النتيجة، واعتمدت المعارضة على دعم خراجي لدول اقليمية وعالمية، كانت لها مآرب أخرى غير الهدف الذي قامت من أجله الثورة، ولما أحست تلك الدول باحتمالية انحراف الثورة عن الهدف الذي يتمنونه، لاسيما مع صعود التيار الإسلامي في صفوف الثوار، بالتزامن مع صعود الإسلاميين إبان الربيع العربي، وتوليهم مقاليد الحكم في مصر وتونس، تدخل النظام العالمي لمنع إمكانية حدوث نموذج إسلامي أشد خطرا على أمن العدو الصهيوني، نظرا لكون سوريا دولة تعاني احتلالا لأحد مواقعها، ومن ثم، قطعت تلك الدول التي تأتمر بإمرة النظام العالمي دعمها وقدها وقديدها، فوجد الثوار أنفسهم حفاة عراة في مواجهة نظام مدجج بأسلحة فتاكة قاتلة يفوقها عددا وعتادا. إنه النظام العالمي لا نظام بشار.
(10)
الانتقال للخارج فترة طويلة وخسارة الجماهير وإمدادها:
يقول أبو مصعب في كتابه إن أسباب الخروج وطبيعتها من البلد تعددت، وهي تتراوح بين الفرار من الزحف وبين الضرورة! منوها أن انتقال الكوادر للخارج، وترتيبها لحياتها في دار المهجر والرباط، أفقد الثورة احتكاكها بالجماهير وبالتالي قطع عنها المدد الطبيعي للإمكانات المادية والبشرية والمعنوية فتحولت لجسد معزول صغير بدأ مرحلة التآكل، لقد كان تآكلا على كل المستويات. وشيئا فشيئا أصبح دار الهجرة يرتب وكأنه دار مقام لا مرحلة ضرورية استثنائية، وكان الاتجاه العام للجميع هو استقرار كل من خرج من المجاهدين والمتضررين في الخارج وترتيب أمره على أنه مقام سيطول.
نفس الأمر تكرر أيضا في الثورة السورية ضد بشار، وسرعان ما شاهدنا من أطلقوا على أنفسهم قادة الثورة وزعمائها يشكلون مجالسا عليا وائتلافات باسم الثورة، وكلها سارعت إلى الخروج بعيدا عن أرض المعركة، لتستظل بدعم الدول التي أيدت الثورة في بداياتها، ويقتصر جهادهم على المؤتمرات والكلمات والبكاء والنحيب في بعض الحالات، ما زاد من العزلة بين الثوار على أرض المعركة وأولئك الذين قدموا أنفسهم للعالم على أنهم قادة للثورة، ما أفقد الثورة احتكاكها بالجمهور، ومنح النظام حجة قوية لاتهام الثوار بالعمالة والتآمر.