طور الاقتصاديون نظريات عدة لشرح أسباب وتطور واتجاهات التجارة الدولية. ما يميز أغلب نظريات التجارة الدولية عن غيرها من الاقتصادية أنه تم تطويرها بسبب فشل أو قصور ماقبلها، لذلك فإن هذه النظريات ليست مستقلة عما قبلها ومابعدها. وما يجمع بينها أنها مبنية على نظرية ريكاردو التي تعتمد على الميزة المطلقة والميزة النسبية في الإنتاج.
وأحرز الاقتصاديان السويديان إلي هيكستشر وبرتل أولين تقدماً كبيراً في هذا المجال عندما قاما ببناء نموذج رياضي لشرح التجارة الخارجية مبني على فكرة أن الدول تصدر المنتج الذي تتمتع فيه بميزة نسبية (وفرة وانخفاض التكاليف)، وتستورد المنتجات التي ليس لها فيها ميزة نسبية (نادرة ومرتفعة التكاليف)، من البلاد التي تتمتع بميزة نسبية في هذا المجال. لاقت هذه النظرية رواجاً عالمياً بعد نشر كتاب أولين في عام 1933 ضمن دوائر المهتمين في هذا المجال، إلا أنها كانت قاصرة عن شرح تطورات عدة بعد الحرب العالمية الثانية مثل انتقال الصناعات من بلدها الأم إلى دول أخرى، والتجارة في أجزاء الصناعة نفسها، الأمر الذي يوحي بأن هذه النظرية قد تنطبق على الموارد الطبيعية مثل النفط ولكنها لاتنطبق على الصناعة.
نظرية “دورة حياة المنتج”
وهناك أدلة كثيرة تشير إلى أن نظرية هيكتشر-أولين تنطبق على النفط إذ تقوم الدول النفطية بتصدير النفط لأن لديها ميزة نسبية فيه نتيجة الوفرة وانخفاض التكاليف، بينما تستورد المواد الأخرى، بخاصة المصنّعة. إلا انها لا تنطبق على المنتجات الصناعية. من هنا تأتي أهمية نظرية ريموند فرنون “دورة حياة المُنتج” أو “السلعة”.
يرى فرنون أن أي منتج صناعي يمر بخمس مراحل: 1- الاختراع والإنتاج وبداية الاستهلاك 2- النمو 3- البلوغ 4- التشبع والانتقال إلى الدول المتقدمة 5- الهبوط والانتقال إلى بلاد العالم الثالث.
في المرحلة الأولى يكون الإنتاج محلياً ويحاول المُنتِج تعريف المستهلكين بالسلعة. وفيها تكون المبيعات منخفضة والأرباح قليلة، إن وجدت. إلا أن أهم ما يميز هذه المرحلة أن المنتَج تحت التجربة من قبل المنتج والمستهلك في الوقت نفسه، ومن ثم فإن طريقة الإنتاج وخصائص المنتَج تتغير باستمرار.
في الثانية، تنمو المبيعات بسبب تعرف عدد كبير من المستهلكين على المنتَج. زيادة الطلب تساعد المنتِج على زيادة الإنتاج والتحول إلى اقتصادات النطاق التي تنخفض فيها التكاليف وترتفع الإنتاجية والأرباح.
عند الوصول إلى مرحلة البلوغ، أي الثالثة، يدخل منافسون في السوق لإنتاج المنتج نفسه، في الوقت الذي ينتشر الطلب خارج حدود الدولة لكن في دول مماثلة من ناحية الدخل والرغبات. وتبدأ الصادرات. مع زيادة الطلب العالمي على المنتج، تبدأ الشركة في التفكير في فتح مصانع في الدول الأخرى التي تصدر إليها. هذا يعني أن المرحلة تشهد زيادة كبيرة في الصادرات، ثم انخفاضاً كبيراً لها عندما تفتح الشركة مصانع في البلاد الأخرى ذات الطلب الكبير على منتجها.
في المرحلة الرابعة، أي التشبّع، تصل المبيعات إلى أوجها، وتقوم الشركة بتغييرات في المنتج كي تحافظ على الطلب في وجه المنافسة من الشركات الأخرى التي تبدأ في زيادة حصتها السوقية على حساب الشركة التي اخترعت المنتج أصلاً.
في المرحلة الأخيرة، معلومات المنتج معروفة التفصيل لكل المستهكلين والمنتجين، ومن ثم تتلاشى الأرباح. هنا إما أن تقوم الشركة بوقف الإنتاج، أو بيع خط الإنتاج لشركة أخرى، أو تنقل المصانع إلى دول العالم الثالث بحثاً عن العمالة الرخيصة والموارد الأرخص.
إلا أن هناك منتجات مهمة للأمن القومي للدول الصناعية تمنع انتقالها إلى الدول الأخرى، مع أنها وصلت إلى مرحلة البلوغ منذ عقود، مثل صناعة الطيران وبعض الأمور التي تتعلق بالتسليح.
أهم نتيجة من هذه النظرية أن المنتَج يتطور حتى تصبح مواصفاته محددة وموحدة، الأمر الذي يسهل عمليات الإصلاح والتغيير والصيانة، كما يسهّل عملية بناء تكنولوجيا تعتمد عليه. ومع الاهتمام الكبير بالتغير المناخي، يمكن تطوير خطط وسياسات وصناعات لتدوير المنتج أو التعامل معه بطريقة صديقة للبيئة. هذه الأمور لا تتم إلا في المرحلتين الرابعة والخامسة. فلا يمكن مثلاً الاستثمار في تكنولوجيا جديدة لتدوير مخلفات المنتج إذا كان في مرحلة تغير دائم، مع المواد التي تستخدم فيه.
طاقة الرياح والطاقة الشمسية والسيارات البديلة
تشترك عنفات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية وبطاريات تخزين الكهرباء في أنها منتجات صناعية. إلا أن الفرق بينها وبين المنتجات الصناعية الأخرى أن الحكومات تبنتها تحت غطاء التغير المناخي ودعمتها بمليارات الدولارات. كما تبنّتها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الدولية وغيرها. هذا الدعم القوي على مستوى الحكومات والمنظمات الدولية جعل هذه المنتجات تنتشر ويتم تصديرها إلى أنحاء العالم من دون أن تمر بالمراحل الخمس أعلاه، ولهذا عواقب سيئة كثيرة.
منها أن التغير المستمر في تكنولوجيا هذه المنتجات يعني الحاجة المستمرة إلى التجديد والتدريب، وهذا مكلف. كما لا يمكن تحقيق الكفاءة في عمليات الصيانة بسبب التغيير المستمر. وأن أي تطور تكنولوجي في إحدى أنواع هذه المنتجات قد لا يساعد استثمارات دول نامية في تكنولوجيا لا يمكنها استخدام مثيلتها الجديدة. أضف إلى ذلك أن محاولات تدوير المخلفات وغيرها، وكل خطط الالتزام بالتخفيف من ملوثات الهواء أو المخلفات الصلبة قد تبوء بالفشل. مثلاً، إنفاق عشرات الملايين من الدولارت على تطوير تكنولوجيا لتدوير بطاريات السيارات الكهربائية قد يبوء بالفشل، ويتم خسارتها بالكامل إذا تغيرت نوعيتها أو محتوياتها.
خلاصة الأمر أن تشجيع الحكومات للطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية وانتشارها قبل أن تبلغ مرحلة النضج سيكلف العالم الكثير من المال، من دون تحقيق تقدم كبير في مجال البيئة. لهذا، إن أكبر خطأ تقوم به الدول التي تقود موضوع التغير المناخي، هو الإسراع في تصدير هذه التكنولوجيا ومحاولة إجبار الدول الأخرى عليها، علماً أنها لم تنضج بعد.