شعرة معاوية

أصبح معاوية رمزا للدهاء والحلم والأناة في الأدب العربي، وشعرة معاوية، تلك الكلمة التي اختصرت فنون الديبلوماسية وإدارة العلاقات، ذهبت بين الناس مثلا، فهو الذي يقول: “لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها” (ابن قتيبة، عيون الأخبار،1/62).

وفي هذا يتحدث عنه المؤرخ المصري أحمد رفاعي قائلا: “معاوية الذي مرَن على السياسة بنشأته، وحذَقها بسجيته، وأتقنها لمختلف أدوارها التي تقلب فيها، فطُبع عليها وطُبعت عليه، وأصبح منها وأصبحت منه، لم يكن في مقدوره إلا أن يكون سياسيا فذا موفقا، بل مصدرا للسياسات العبقرية”.

تأسيس المدنية العربية

حين ننتقل إلى جوانب الحضارة والعمران المدني، يبرز اسم معاوية في كتب التاريخ كأحد الأوائل الذي وضعوا أسس المدنية العربية، ورسموا هويتها الحضارية، ابتداء من تأسيس البلاط العربي، مرورا بوضع النظم والدواوين، وتطوير الجيوش، والقوات البحرية، وبناء السدود وتطوير أنظمة الري، وغيرها. لهذا لن نستغرب قول مؤسس علم العمران، المؤرخ ابن خلدون حين يقول: “إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة”.

فمعاوية هو أول من أسس مفهوم البلاط في تقاليد الحكم الإسلامي، ووضع أصول مجلس الخليفة، وهيئته وأحواله، حيث يقول صاحب كتاب “تاريخ التمدن الإسلامي”: كانت مجالس الخلفاء الراشدين في المسجد أو المنزل، يقعدون على حصير أو جلد يلتفون بعباءة أو نحوها، حتى جاء الأمويون فبنوا القصور، ونصبوا بها الأسرة والكراسي، وافترشوا الوسائد وعلقوا الستور وأقاموا الحجاب، وأول من فعل ذلك هو معاوية بن أبي سفيان. لقد أدخل بنو أمية مظاهر الأبهة من الطراز ونقش الأشعار في صدور المجلس، وفرش الديباج والخز واصطناع الأسرة من الأبنوس أو الصندل أو العاج أو الذهب أو غيرها، حتى أصبح لمجلس الخليفة في إبان الحضارة الإسلامية مكانة كبيرة، فهو ينعقد في قاعة أو بهو كبير، على جدرانه صور ممثلة بالذهب والفضة لما في البر والبحر من شجر أو حيوان أو جبال، ويكسو أرضه بساط واحد أو عدة أبسطة من الديباج أو نحوه، وفي أطراف البهو مناور من الذهب أو الفضة توضع عليها الشموع، ويسبل على أبواب المجلس ونوافذه ستائر من الحرير أو غيره مطرزة بشارة الدولة أو بأشعار أو حكم أو آيات أو أحاديث أو رسوم مدن أو أنهر أو جبال. وفي وسط القاعة سدة أو سرير يجلس عليه الخليفة، يصنع من العاج أو الأبنوس أو الصندل يحلى بالذهب، وقد يجعل الخليفة بين يديه بعض التحف أو نحوها للزينة”.

أسس معاوية أول جهاز استخبارات في التاريخ الإسلامي وكان يسمى “ديوان البريد”، مهمته جمع آخر الأخبار والمعلومات من أرجاء الدولة كافة وإيصالها إلى الحاكم، وكان الساعي يسمى “صاحب الخبر”. ذكر ذلك أبو هلال العسكري في كتابه “الأوائل”، فصل: “أول من وضع البريد في الاسلام معاوية”. فقد كان للبريد “طرق تتشعّب من مركز الخلافة إلى أطراف المملكة حتى تتصل بطرق الممالك الأخرى، وينقسم كل طريق إلى محطات أو مواقف فيها أفراس أو هجن، وبلغ عدد محطات البريد أكثر من 950 محطة، وخصصت الدولة الأموية مبلغ ثلاثة ملايين درهم ميزانية لجهاز البريد”. ثم تطور نظام البريد من رصد الأحوال السياسية إلى مراقبة الأوضاع الاقتصادية والقانونية في ولايات الدولة، حيث كان السعاة يكتبون التقارير “كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي، وبما يرد بيت المال من المال، وكل ما حدث”.

أسطول بحري

وإلى معاوية أيضا يعود الفضل في تأسيس القوات البحرية العربية، فقد أسس الأسطول البحري، وأنشأ دار الصناعة، التي سيكون أثرها كبيرا في معركة “ذات الصواري” حين دوى انتصار العرب أبناء الصحراء على القوات البيزنطية، ذات التاريخ العريق والخبرة الطويلة في الحروب البحرية، وبعد ذلك بسنوات قصيرة أصبح العرب أسياد البحر الأبيض المتوسط بلا منازع.

وأسس معاوية أيضا أول جهاز في العالم الإسلامي لضبط المراسلات، ومنع التزوير، وأرشفة الوثائق الوطنية، وكان يسمى “ديوان الخاتم” مهمته حفظ نسخة من المراسلات في الديوان، ثم ختم الرسائل، وإغلاقها بالشمع حتى لا يمكن فتحها أو الاطلاع على محتوياتها.

وتشهد جبال الطائف بالسعودية لأحد المنجزات الحضارية لمعاوية، وعنايته بتطوير الري والزراعة، وحفظ المياه، حيث يقع “سد سيسد”، سد معاوية بن أبي سفيان، مؤرخ بناؤه في عام ٥٨هـ بلوح تأسيسي منقوش على الصخر، وكتب فيه أن من بناه هو عبدالله بن صخر، برعاية من أمير المؤمنين معاوية.

تدوين الثقافة

وفي جانب العلم والمعرفة قام معاوية بأول مشروع عربي مؤسسي لتدوين الثقافة العربية، وحفظ ذاكرتها، حين استدعى عبيد بن شرية الجرهمي -أحد الإخباريين والرواة- وعقد معه جلسات حوارية يومية عن أخبار العرب، وسيرهم، وقبائلهم، وممالكهم، وأمر غلمانه بتدوين تلك الأحاديث والحوارات في مجلسه، ونتيجة لهذا المجلس صدر أقدم كتاب في تاريخ العرب، وهو “كتاب الملوك وأخبار الماضيين” لعبيد الجرهمي.

هذه السيرة الحافلة بالعطاء والبناء والحضاري تبين لنا بوضوح الأثر الواسع الذي صنعه معاوية في تاريخ العرب والمسلمين، ومن الظلم أن تختزل هذه الشخصية بعطائها الكبير في السجال الطائفي العقائدي، وتغيب عنا تلك الصفحات الجليلة من تاريخ التمدن والحضارة العربية.

ختاما، لن نبالغ حين نقول إن معاوية بن أبي سفيان من أعظم الساسة والملوك على مر العصور، فهو من أرسى نظام الحكم العربي الإسلامي، وثبت دعائمه على الأرض، فأثمر امبراطورية ضخمة حكمت نصف العالم. كان قدوة ونموذجا لكل سلاطين المسلمين الذين جاؤوا بعده فجميعهم اتبعوا منهجه، والتزموا طريقته؛ العباسيون الهاشميون، والمماليك والعثمانيون، وحتى الفاطميون الشيعة كان قدوتهم في الحكم والسياسة معاوية.