جوليا أجمون مارسان

إن الديناميكية الاقتصادية لرابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) معروفة جيدًا، ففي السنوات الأخيرة شهدت هذه المنطقة ظهور بعض الاقتصادات الرقمية الأسرع نموًا في العالم. فقد أدت جائحة كوفيد – 19 إلى تسريع هذا الاتجاه، ومع 60 مليون مستهلك رقمي جديد منذ بدء الوباء، أصبح اقتصاد الإنترنت على المسار الصحيح ليبلغ 360 مليار دولار بحلول عام 2025.

لقد أدى تسريع الاقتصاد الرقمي إلى جانب الاحتياجات التي استدعتها قيود على “كوفيد – 19” إلى تحفيز الابتكار الرقمي وريادة الأعمال في المنطقة. وينعكس هذا في العديد من المؤشرات. فوفقًا لوكالة بلومبيرغ Bloomberg ، جمعت الشركات التكنولوجية الناشئة في جنوب شرق آسيا ما يقرب من 8.2 مليار دولار أميركي في عام 2020، متفوقةً على معظم الأسواق الناشئة الأخرى. غير أن هذا التوجه قد تباطأ في عام 2022 بما يتواءم مع الاتجاهات العالمية. وفي عام 2021، كان هناك أكثر من 30 شركة تابعة لرابطة أمم جنوب شرق آسيا، هي بالأساس شركات ناشئة تبلغ قيمتها مليار دولار أميركي أو أكثر، وهو ما ينمو بشكل متسارع.

وبفضل هذه الديناميكية، يتطلع المستثمرون إلى أكثر من وجهة لاستثماراتهم التقليدية مثل سنغافورة، التي تعد نقطة جذب عالمية للابتكار منذ فترة طويلة، وإندونيسيا، وهي وجهة مفضلة بسبب حجم السوق الكبير للوصول إلى دول مثل ماليزيا وفيتنام. وفي الوقت نفسه، أصبحت مجموعة متزايدة من المستهلكين من جيل الألفية والجيل “صفر” Z محركًا أساسيًا لهذا التسريع الرقمي، مما يخلق نظرة إيجابية للابتكار في الاقتصاد الرقمي. 

لقد أدت التحديات التي يسببها الوباء إلى تسريع الابتكار في قطاعات محددة. فقد تطورت مجالات الرقمنة الزراعيةAgritech ، والرقمنة الصحية healthtech ، والرقمنة التعليمية edtech  تطورًا ومهمًا، وهي قطاعات شهدت العديد من أنماط الابتكار التي تم إنشاؤها من خلال الجمع بين التقنيات الرقمية والزراعة والغذاء والرعاية الصحية والتعليم. ففي سنغافورة، سمحت مبادرات السياسة الجديدة واستثمارات البحث والتطوير (R & D) واللوائح للمساعدة في تعزيز إنتاج اللحوم من خلال المختبرات والزراعة الحضرية المستدامة للدولة المدينة، كل ذلك سمح بجذب الشركات الناشئة الرائدة في هذا المجال. وفي دول أخرى بمنطقة الآسيان، ازدهرت تطبيقات الهاتف المحمول التي توفر اتصالات بمقدمي الخدمات الطبية أثناء عمليات الإغلاق. فمن بين العديد من منصات شبكات الرعاية الصحية في المنطقة، قامت شركة “هالوديك” Halodoc الإندونيسية بتوفير خدمة التطبيب للمرضى عن بُعد، في الجزر التي تتكون منها البلاد، وتوفير خدمة توصيل الأدوية إلى المنازل في وقت شهدت البلاد ذروة انتشار جائحة كوفيد-19. لقد أصبحت التكنولوجيا التعليمية ضرورة مع إغلاق المدارس بسبب “كوفيد-19″، كما شهد هذا القطاع نموًا كبيرًا منذ عام 2020. ومع ذلك، فإن العديد من الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا التعليم الإقليمية تستعد لمواجهة أية جائحة من خلال منصات مثل “إيزي يوني” EasyUni، وهي أكبر بوابة إلكترونية في جنوب شرق آسيا للتعليم العالي، التي تم إنشاؤها في كوالا لامبور في عام 2008 بغرض ربط الطلاب بفرص الدراسة الدولية.

إذا كانت المنطقة ترغب في الاستفادة من هذه التطورات الإيجابية والبناء عليها لتسريع الانتقال نحو الدخل المتوسط ​​والمرتفع، فهناك العديد من القضايا التي يجب التعامل معها.

فرواد الأعمال ذوو المهارات العالية يعدون مفتاحًا لظهور وتدعيم النقاط الساخنة للابتكار. وبالتالي، يجب أن تستمر رابطة دول جنوب شرق آسيا في توسيع استثماراتها في تنمية المهارات، مع التركيز بشكل خاص على المناطق الريفية والمحيطية حيث تكون المهارات أكثر نقصًا. كما يعتبر التسجيل في التعليم العالي في منطقة الآسيان في المتوسط ​​أقل جدًا مما هو عليه في أجزاء من شرق آسيا.

أخيرًا، تحتاج منطقة الآسيان إلى رفع جودة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، التي هي بخلاف تلك الموجودة في سنغافورة، لا تتساوى مع البلدان الأخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. إذا ليس من المستغرب أن نجد العديد من رواد الأعمال الرقميين الناجحين العاملين في رابطة دول جنوب شرق آسيا من العائدين الحاصلين على شهادات في الخارج. لذا، فإن زيادة تحرير قطاع التعليم العالي لتوفير تعليم جيد من خلال تسهيل التبادلات مع الجامعات الأجنبية الرائدة والصلات بشبكات التعليم العالمية، يعدُّ أمرًا ضروريًا لتوفير منصة لأصحاب المشاريع التقنية. لذا، افتتحت إندونيسيا أول حرم جامعي مملوك للأجانب العام الماضي.

وفي الوقت نفسه، بات من المتعين على صانعي السياسة في الآسيان التفكير في سبل تسهيل تداول المواهب على المستوى الإقليمي؛ وهو ما يمكن القيام به عن طريق تبسيط التنقل داخل الآسيان وجذب المزيد من المبتكرين الرقميين إلى المنطقة. لقد كانت سنغافورة رائدة في هذه الفكرة من خلال منصة “تيك باس” Tech.Pass التي تم إطلاقها مؤخرًا، ويمكن لدول آسيان الأخرى أن تحذو حذوها. وتعد المرافق الإقليمية الوفيرة من الأصول التي يمكن للمنطقة الاستفادة منها لجذب المواهب الرقمية المتنقلة.

إن معالجة الإدماج أمر بالغ الأهمية لدفع الابتكار الرقمي. إذ تتركز فوائد الاقتصاد الرقمي لرابطة دول جنوب شرق آسيا بشكل كبير في بعض القطاعات. ففي المتوسط، استفادت مناطق الآسيان الحضرية بشكل غير متناسب من إنشاء الشركات الناشئة الرقمية. ولا تمتلك بعض البلدان بنية تحتية رقمية مناسبة في المناطق النائية، حيث يمثل التحول إلى رائد أعمال رقمي أحد التحديات التي ينبغي مواجهتها.

وحققت الشركات الكبرى مكاسب غير متناسبة من خلال الابتكار الرقمي. في حين تتخلف النساء من حيث فرص ريادة الأعمال، ومهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والوصول إلى القيادة، وتستثمر الشركات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية في الصغر في الآسيان وتبني التكنولوجيا الرقمية بمعدل أقل جدًا من التكتلات الكبيرة. وفي هذا الإطار، يهدف تطوير المبادرات الإقليمية، مثل Go Digital ASEAN  الذي يوسع مشاركة المهارات الرقمية في 10 دول، إلى تقليل هذه الفجوة.

أخيرًا، ففي حين أن المؤشرات والمقاييس التي ترصد الاقتصاد الرقمي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا لا تتم مناقشتها دائمًا في التعليقات التحليلية، إلا أنها تبدو ضرورية لفهم التطورات في المنطقة. هنا تدعو الفجوات الرقمية المتنامية إلى فهم ورسم خرائط أفضل لظهور النقاط الساخنة للابتكار الرقمي في الآسيان.

وهنا، فإن بعض المؤشرات المستخدمة تقليديًا لالتقاط هذه الابتكارات في الاقتصادات المتقدمة، مثل براءات الاختراع واستثمارات البحث والتطوير، قد لا تبدو مناسبة لهذا الغرض في الاقتصادات النامية. إذ تميل الشركات في المنطقة إلى الحصول على براءات اختراع أو الاستثمار في أو الإبلاغ عن استثمارات في البحث والتطوير، وخاصة مع وجود اقتصاد غير رسمي كبير. لذا، يجب على الباحثين وصانعي السياسات التفكير بشكل خلاق واستخدام وفرة البيانات المتاحة لرصد الاتجاهات والتطورات، وهو ما سيؤدي إلى فهم أفضل للمنطقة وإدخال التدابير المطلوبة بشكل أكبر لتطوير قدرة رقمية واسعة النطاق في المستقبل.

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: منصة مستقبل آسيا الرقمي