هل دخلت مصر والسودان قولاً وفعلاً المنطقة الرمادية، بين السلم والحرب، بعد فشل مفاوضات كينشاسا؟
يلوح هذا التساؤل في الأفق وسط صمت دولي وأممي غريب، إلا من الأشقاء، كما حال المملكة العربية السعودية، والتي اتخذت موقفا واضحا صريحا من التهديدات الجدية التي يتعرض لها مائة مليون مصري، ونحو عشرين مليون سوداني، تهديدات تبدأ من عند العطش والجفاف، وتصل إلى حد انهيار السد الإثيوبي، والذي لا يمكن أن تكون أفكار النهضة وراءه بحال من الأحوال، لا سيما وأن التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، عمل جماعي، وليس فرديا، وكما أن روح التعاون تستنقذ الأمم والشعوب في إطارها الكلي، مثلما جرى الأمر في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية، فإن عدم الاستقرار بدوره سوف يولد خسائر تصيب الجميع.
قبل ساعات تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ، مستخدما لغة تجمع بين القوة الناعمة والخشنة في آن ، فقد وصف الأثيوبيين بالأشقاء ، والتاريخ يشهد أن الرجل لم يناور أو يداور بالمرة ، ذلك أنه مرارا وتكرارا تحدث عن حق إثيوبيا في التنمية والنماء والازدهار ، ووقعت مصر بحسن نية على اتفاقية إعلان المبادئ في 2015 وشاركتها السودان ، لكن يبدو أن الموجه لهم الحديث لم يكونوا بحال من الأحوال عند مستوى الأخوة المطلوب والمرغوب ، ولهذا كان الشطر الأخر من تصريحات الرئيس المصري تمضي في إطار مجاف ومناف للحلول التوافقية الهادئة ، ووضع بقية الخيارات على طاولة الأحداث ، حال استمرار العناد الإثيوبي غير المفهوم وغير المبرر.
على الجانب السوداني لم تختلف تصريحات وزير الري، ياسر عباس ، كثيرا عما ذهب إليه السيسي ، فقد اشار إلى أن خيارات السودان مفتوحة ، من عند اللجوء إلى مجلس الأمن وصولا إلى الأدوات الأخرى المعروفة ،ونتائجها المتوقعة سلفا.
هل نحن في الساعة الحادية عشر ، أم الربع ساعة الأخيرة فيها بالفعل؟
التصريحات الصادرة عن إثيوبيا تؤكد على نوايا الإثيوبيين المضي قدما في مرحلة الملء الثاني ، هكذا من غير أي اتفاق أو تنسيق بين أطراف المصب ، ومن دون أدنى التفاتة للكثير من التحذيرات المتعلقة بجسم السد ودرجة المخاطر المحلقة من حوله ، وسلامة عملية التشغيل ، وصولا إلى الأذى المباشر المتوقع للسودان ومصر.
تبدو العقلية الإثيوبية وكأنها خلصت إلى لعب أوراقها من خلال فكرة الفوز الكلي بالمباراة ، وليذهب من يتضرر إلى ما شاء له أن يتضرر ، وهو تفكير لا يخلو من أوراق لعب أممية ، وقوى تبدو وكأنها مختبئة أو مختفية ، وإن كان الجميع يدركها بشكل أو بأخر ، فما يقال اليوم همسا في المخادع ، سينادى به في الغد من على السطوح.
عشر سنوات من المفاوضات الماراثونية العبثية ، استغلت فيها إثيوبيا أوضاع الارتباك التي صاحبت الوهم المعروف باسم الربيع العربي في مصر، عطفا على أوضاع السودان التي قادتها أصولية البشير إلى أوضاع التناحر الداخلي ، وفيما كان الأخوة والاشقاء يتقاتلون ،بدا وكأن هناك في إثيوبيا من يتوضأ بالدم لملاقاة الجانبين المصري والسوداني.
ترفض إثيوبيا بغطرسة غير محدودة أي وساطة حقيقية فاعلة ، وبخاصة من قبل الرباعية التي اقترحها السودان ، ومرد هذا ولاشك هو إدراكها المسبق بأنها على غير حق ، وأن الإدانة الدولية سوف تلحقها ، وربما كان هذا ما دعا الرئيس الأمريكي السابق ، دونالد ترامب ، وفي لحظة صدق ، وتحمل أيضا كونها دعوة عقاب للإثيوبيين على رفضهم جهوده ، وانسحابهم المخزي في اللحظات الأخيرة للتوقيع على اتفاق ملزم ، للتصريح بأنه قد يلجا الطرف الأخر إلى إزالة هذا السد من الوجود مرة وإلى الأبد .
النوايا الإثيوبية واضحة وغير خافية على أحد ، ولعل تصريحات تلفزيونية الأيام القليلة الماضية لوزير الخارجية الإثيوبي ، قد فضحت خطط أديس ابابا القائمة والقادمة ، إذ تكلم عن بيع فائض مياه النيل بعد إكمال امتلاء السد.
ما تسعى إليه إثيوبيا غير مسبوق ، ومحاولة لتغيير مسارات الجغرافيا منذ بدء التاريخ ، وهو ما يمكن أن ينشئ حالة مماثلة في كثير من بقاع وأصقاع الأرض ، ما يفيد في نهاية الأمر بحالة اضطراب وقلاقل أمنية ، بل تهديد للسلم والأمن العالميين .
طول السنوات المنقضية راوغت إثيوبيا عبر إشغال الجميع في مفاوضات عبثية ، ووجه العبث أن تلك الجولات خلت من شرطين رئيسيين ، أساسيين لأي عملية تفاوضية جدية:
الأول : رصيد مناسب من حسن النوايا المتبادلة بين أطرافها.
الثاني : رغبة حقيقية صادقة في التوصل إلى تسوية عادلة ومتوازنة ودائمة للنزاع القائم تراعي فيها مصالح كافة الأطراف.
يستلفت النظر في أزمة السد الإثيوبي المواقف الفاترة بل الباردة من القوى الدولية ، من موسكو التي تسعى للعودة إلى مربعات نفوذ إفريقية قديمة ، مرورا ببكين التي تحلم بمواد إفريقيا الخام ، في مقابل قروضها المالية الساخنة والمتحررة من شروط نظيرتها الأمريكية ، وصولا إلى الاتحاد الأوربي ، بما فيه ومن فيه من دول لا تزال ذات نفوذ في القارة السمراء ، وفي مقدمها فرنسا.
أما الموقف الأمريكي ، فهو واضح للغاية ، إذ تتسق خطوات الرئيس جوزيف بايدن ، مع سياسة باراك أوباما ، المعروفة بالقيادة من خلف الكواليس ، والإحجام عن الدخول بعمق في حل مشكلات العالم.
الخلاصة..
لن يفيد أحد اشتعال الموقف، ولهذا يأمل المرء في لحظات من العقلانية، تعيد تغيير الأوضاع وتبديل الطباع ليجدف الجميع معا نحو شط الأمان ، عوضا عن غرق القارب بمن فيه، ناهيك عن الشرر الذي سيلحق بالكثيرين ، إقليميا ودوليا ، ويكفي النظر إلى الخسائر الاقتصادية التي أصابت العالم خلال بضعة أيام من تعطل الملاحة في قناة السويس، لتقدير حقيقة ما يمكن أن تكون المنطقة مقبلة عليه في غير وعي وباندفاع كارثي نحو المجهول.