سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
خالد البري
مع تبادل الرسائل، والتهديد والوعيد، والإهانة اللفظية المتجاوزة المعتاد في الخطاب الدبلوماسي من الرئيس الأميركي إلى الرئيس التركي، بدأ البعض ترديد مقولة: «ولكن أردوغان حصل على ما أراد».
ما أبعد هذه المقولة عن الحقيقة، وما أصدقها في التعبير عن الجاري؛ في الوقت نفسه.
ما أبعدها عن الحقيقة قياساً بما أراد الرئيس التركي من مغامرته السورية، التي جاءت ضمن ما أقر به هو شخصياً بأنه جزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد. استخدم الرئيس التركي المصطلح الرائج عالمياً في بداية «الربيع العربي». أما نحن – أهل المنطقة – فنعلم كيف روّجوه فيها. مشروع إحياء للاستعمار العثماني، الذي سيطر على بلادنا أربعة قرون، وكان سبباً رئيسياً في تخلفها، لا سيما أنها قرون تزامنت مع النهضة الأوروبية الجامحة، فكان الواحد منها بألف سنة مما يعدّون.
لم يحصل أردوغان على ما أراد مطلقاً. لم يتحول إلى «قائد للأمة» على حد تعبير الشيخ يوسف القرضاوي، ولا صارت إسطنبول مهوى أفئدة. بالعكس، لقد وصلت الخسارة إلى إسطنبول نفسها في انتخاباتها الأخيرة، في إشارة موجزة لمجمل المشروع. وخسر معها الاقتصاد التركي صعوده، وخسرت الليرة التركية قيمتها، وانشق قياديون من حزب أردوغان. لقد فقد أرضاً سياسية داخل تركيا نفسها، ناهيك بمد نفوذه خارجها. هكذا يجب أن نقيس ما حصل عليه، وما لم يحصل عليه.
لكن الجملة تعبير حقيقي عن الغرض مما يحدث. أراد أردوغان أن يترك انطباعاً بالانتصار، يُنسي الأتراك أولاً، وجمهوره الإقليمي من العناصر المحلية الداعمة ثانياً، كل ما فات، ويتركهم بمظنة النصر، تحت لواء القائد الأعلى.
المشاهد الختامية في الصراعات ممارسة معروفة… لها غرض نفسي وإعلامي وسياسي. الحلفاء دمروا دِريسْدِن ولم يكونوا في حاجة لتدميرها. وأميركا ضربت القنبلة الثانية على ناغازاكي ولم تكن في حاجة.
لكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم. أردوغان والعناصر المحلية الداعمة انهزموا على كل صعيد داخل سوريا. حتى المناطق التي لم يتعقبهم فيها خصومهم متروكة بهدف جمع شتات الفارين حتى يسهل مراقبتهم، ليس إلا. من طردهم من حلب كان قادراً على تعقبهم في إدلب. لكن ليس له في ذلك مصلحة.
صارت مناطق الكرد المحل الوحيد الذي يمكن أن يؤدي فيه أردوغان المهزوم مشهداً ختامياً يوحي بالانتصار. ليس فقط لأن الكرد في سوريا مجموعة محدودة العدد، بل لأن للآخرين مصلحة في كسر شوكتهم. سوريا تريد ذلك. حلفاؤها يريدون ذلك. أميركا تريد أن تخرج من سوريا وهذا ثمن الخروج. والأوروبيون، وإن أقسموا علناً، لا يمانعون. يريدون هم أيضاً أن يضمنوا تسكين شبح اللاجئين في جسم بعيد عنهم.
لكن حين نتحدث عن «الشُّو الإعلامي» لا يمكن أن نتجاوز الرئيس ترمب، الرجل الذي جاء من عالم برامج الواقع لكي يرأس أكبر قوة في عالم السياسة، ومن العالم الأول نقل ما تعلمه إلى العالم الثاني. ولم يكن ليترك أردوغان يسرق «الشُّو» على حسابه… على حساب الكرد ودمائهم نعم… على حساب وحدة الأراضي السورية؛ جائز. أما على حسابه هو شخصياً فمستحيل.
الخطاب الذي قال فيه لرئيس تركيا: «لا تتغابَ» لم يتسرب إلى الإعلام اعتباطاً.
وجد ترمب أن الجمهور، ومنهم بعض مناصريه، تحولوا إلى انتقاده، وصار هو «نقطة الحوار»، فحرف أنظارهم إلى نميمة سياسية أخرى يلوكونها. خطاب لم يشهدوا مثله من قبل في عالم الدبلوماسية. صيغة لم يتحدث بها رئيس لرئيس في وثيقة رسمية نعرفها في وقت السلم، وأقرب ما نعرفه مجرد روايات قديمة عن خطاب بعث به المعتصم إلى ساكن القسطنطينية القديم قبل معركة عمورية… ويأتي الإسلاميون على ذكره كثيراً. يا للمفارقة.
ثم أرسل ترمب لإردوغان معادله الموضوعي، نائب الرئيس مايك بنس؛ الرجل المسيحي المتدين ذا الجمهور المسيحي المتدين. الود مفقود بين مايك بنس ورجب طيب أردوغان منذ قضية القس برونسون، وتهديد بنس العلني لإردوغان بأن يطلق سراح القس «فوراً، وإلا فليستعد لتحمل العواقب». وهو التهديد الذي آتى ثماره مباشرة، ونفذ إردوغان المطلوب.
استدعاء مايك بنس إلى المشهد استدعاء غير مباشر للواقعة إلى ذاكرة أردوغان. ولكن أيضاً إلى ذاكرة الجمهور المستهدف بتسريب خطاب إهانة أردوغان… على قدر ما يبغض هذا الجمهور الرئيس التركي، يثق ببنس ثقة كبيرة؛ بسببها اختاره الرئيس ترمب نائباً في المقام الأول.
حتى المشهد الختامي، الذي أراد إردوغان من ورائه أن ينسى الناس كل ما حصل منذ 2011 وأن يقولوا: «لكنه حصل على ما أراد»، لم يتركه له الرئيس ترمب، وأفسده عليه. حتى هذا المشهد لم يحصل فيه على ما أراد. لكن يبقى أن الكرد مَن دفعوا ثمن إرضاء جماهير هذا وذاك في المشهد الأخير.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر