سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
إميل أفدالياني
يتمثل جزء مهم من استراتيجية روسيا الكبرى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية منذ نشأتها في إدارة مناطق الصراع المحيطة بها في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. ويتعلق هذا الأمر بالمعركة التي تخوضها روسيا مع الغرب على أراضيها الحدودية، أي المناطق المجاورة لروسيا من الغرب والجنوب.
ولطالما كان الحفاظ على 11 دولة محيطة بروسيا (باستثناء دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) هو حجر الزاوية في سياسة الكرملين الخارجية ضد التعديات العسكرية والاقتصادية للغرب. فقد أدرك الروس أنه بسبب الجاذبية الاقتصادية المنخفضة لبلادهم، فإن دول جنوب القوقاز ستتجه حتمًا إلى أوروبا. ومن المرجح أن يحدث الشيء نفسه مع مولدوفا وأوكرانيا على الحدود الغربية لروسيا، لأن قربهما الجغرافي من أوروبا وترابطهما التاريخي مع الأوروبيين يجعلهما عرضة بشكل خاص للإمكانيات الاقتصادية والعسكرية للغرب.
ولمنع الاختراق الاقتصادي والعسكري الغربي، عمل الكرملين عمدًا على تأجيج نزاعات انفصالية مختلفة. لقد نجحت هذه السياسة حتى الآن، حيث امتنع الاتحاد الأوروبي والناتو عن توسيع العضوية لكل من أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا.
ومع ذلك، تواجه روسيا الآن مشكلة مختلفة تتمثل في أن رؤيتها طويلة المدى للمناطق الانفصالية أصبحت غير واقعية بشكل متزايد. ففي السنوات الأولى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، كان على روسيا إدارة النزاعات الانفصالية فقط في جورجيا ومولدوفا الدولة الصغيرة والفقيرة، ثم زادت مسؤوليات موسكو بشكل كبير بحلول أواخر عام 2010.
وبعد أزمة أوكرانيا، أصبحت دونيتسك ولوهانسك جزءًا من “الإمبراطورية الانفصالية” الروسية. ويمكن للمرء أيضًا إضافة سوريا إلى هذه القائمة. وقد يكون إدراج الأخيرة مفاجئًا، لكن بالنظر إلى مستوى النفوذ الروسي بها وتراجع دور العديد من جهات الاتصال الدولية لدمشق، فإن الدولة التي مزقتها الحرب أصبحت الآن تعتمد بشكل كامل على روسيا.
ومع وجود سوريا ودونباس في القائمة، يتعين على الكرملين في الوقت الراهن إدارة مجموعة من الأراضي التي تعتمد بالكامل تقريبًا ومن الناحية العسكرية والاقتصادية على روسيا، لكنها أيضًا مشتتة جغرافيًا، وغير مواتية اقتصاديًا، وهشة جيوسياسيًا. وحتى الصراع حول ناغورنو كاراباخ، التي لا تنخرط فيها روسيا عسكريًا، فإنه يقع تحت التأثير الجيوسياسي للكرملين.
ويعني ذلك أنه في الوقت الذي تلوح فيه المشاكل الاقتصادية الناتجة عن الجائحة الوبائية والعقوبات الغربية والافتقار إلى الإصلاحات بشكل كبير على الجبهة الداخلية الروسية، بات من المتعين على موسكو أن تضخ المزيد من الأموال في العديد من الجهات الانفصالية المنتشرة عبر الفضاء السوفييتي السابق وكذلك سوريا. وبالتالي، فإن استراتيجية موسكو الأوسع لإدارة الصراعات الانفصالية تتعرض لضغوط متزايدة.
وتزداد صعوبة المناورة على الكرملين عبر العديد من الصراعات المتنوعة في وقت واحد. وفي بعض الأحيان، حاول المشاركون القيام بأدوارهم الخاصة بشكل مستقل عن موسكو. فقد فكَّرت كييف وتشيسيناو، على سبيل المثال، في تقييد إقليم ترانسنيستريا الانفصالي، حيث لا يمكن لموسكو، التي ليس لديها طريق بري أو جوي مباشر، أن تفعل أي شيء حيال ذلك. وفي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وجورجيا، تقف القوات الروسية مكتوفة الأيدي وتراقب تدريبات الناتو التي تجري على الأراضي الجورجية، وذلك في إشارة إلى أنه رغم الوجود العسكري الروسي، إلا أن الغرب يواصل توسيع دعمه العسكري لجورجيا.
وتشير الاتجاهات الجيوسياسية إلى أن استراتيجية روسيا “الانفصالية” طويلة المدى لوقف التوسع الغربي في الفضاء السوفييتي السابق باتت تفقد فعاليتها في الآونة الأخيرة. وفي حين أنه من الصحيح أن موسكو منعت جيرانها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فإن رهانها بأن تلك المناطق الانفصالية ستقوض العزم المؤيد للغرب في مولدوفا وجورجيا وأوكرانيا، قد فشل إلى حدٍ بعيدٍ. وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال مهيمنة عسكريًا، فإن التوسع الغربي عبر سلاح النفوذ الاقتصادي القوي يثبت أنه أكثر كفاءة.
ولا يمكن للقيادة الروسية أن تحل مشكلة فشلها في إغراء الدول في جميع أنحاء العالم للاعتراف باستقلال الدول الانفصالية. فعلى سبيل المثال، وفيما يقترب من حالات أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، قامت دول محدودة مثل سوريا ونيكاراغوا وفنزويلا وناورت بالاعتراف بهذه الدول، في حين لم تفعل ذلك مجموعة أكبر من الدول على المستوى الجيوسياسي. لذلك، من غير المحتمل أن يتغير هذا الاتجاه في أي وقت قريب. فموسكو ببساطة ليس لديها موارد كافية. وعلى أي حال، فإن قوانين الولايات المتحدة التي تمنع المساعدات المالية من الدول التي تعترف باستقلال الأراضي الانفصالية في جميع أنحاء الفضاء السوفييتي السابق تظل رئيسيًا أمام تلك التوجهات.
ولا تمتلك روسيا أي رؤية اقتصادية طويلة المدى للدول الانفصالية. فقد تسببت الظروف الاقتصادية الصعبة في فرار السكان نحو الأماكن التي يوجد بها وفرة في الإمكانيات الطبية والتجارية والتعليمية. وعادة ما تكون هذه الأراضي التي حاول الانفصاليون في البداية الانفصال عنها. وقد فشل الكرملين في تحويل تلك الكيانات إلى أراضٍ آمنة ومستقرة اقتصاديًا. كما كانت مستويات الجريمة في مسار تصاعدي أيضًا، إذ أدى الفساد على مستوى عالٍ والسوق السوداء النشطة إلى تقويض فعالية إنفاق موسكو.
فعلى مدى السنوات العديدة الماضية، كانت هناك تلميحات في وسائل الإعلام حول تزايد السخط داخل أوساط النخبة السياسية الروسية حول كيفية إدارة المناطق الانفصالية (بالإضافة إلى سوريا). وقد أثيرت تساؤلات حول كيفية إنفاق الأموال الروسية وحول طبيعة ذلك الإنفاق المتزايد على النخب السياسية الانفصالية (بالإضافة إلى الحالة السورية)، والتي تركز على استخراج أكبر قدر ممكن من الفوائد الاقتصادية من موسكو.
إن هذا الوضع يبدو مشابهًا لما كانت عليه الأوضاع في أواخر الثمانينيات، أي قبل الانهيار السوفييتي مباشرة. ففي ذلك الوقت، بدأ أعضاء النخبة السوفييتية يدركون أن موسكو أصبحت أكثر من مجرد مورد للجمهوريات السوفييتية التي نمت أكثر فأكثر، حيث ارتفع الفساد وارتفعت مستويات الإنتاج. وكانت النتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي.
لقد كان نفوذ الاتحاد السوفييتي على تلك الجمهوريات – آنذاك – أعلى بكثير مما هو عليه الآن، لكنَّ هناك نمطًا مماثلاً يظهر حاليًا. لذا، يتعين على موسكو أن تتعامل مع المشاكل الاقتصادية المحلية، ومحاولات “التمرد” التي يبديها القادة الانفصاليون، والعلاقات الإشكالية مع الغرب. إذ تجعل هذه التحديات من الصعب على موسكو بشكل متزايد أن تسيطر على كافة الأمور في مناطق انفصالية متعددة في وقت واحد. وحتى في سوريا، يشكك محللون وسياسيون روس في بعض الأحيان في كفاءة إنفاق الكرملين. لقد نمت النخبة الروسية بشكل أقل رغبة في تقديم منفعة اقتصادية مباشرة للانفصاليين؛ لأن العائد على ذلك يبدو هامشيًا جدًا بحيث لا تبرر كل تلك النفقات.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر