سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد رجب سلامة
في فترة وجيزة، نجحت السعودية وروسيا في إقامة تحالف وتعاون قوي ومميز في جميع النواحي والصعد، وليست علاقات محصورة في مجرد شراء المملكة الأسلحة الروسية، أو ضخ الاستثمارات السعودية في روسيا، لكن بات الأمر أوسع من ذلك، حيث تمَّ خلق شبكة من المصالح لا يجوز التحلل منها، غير مرتبطة بتطورات إقليمية أو دولية ما. ولعل إعلان توقيع 6 اتفاقات ومذكرات تعاون بين روسيا والمملكة في مجالات الطاقة والفضاء والإسكان والاستثمار، يأتي ضمن هذا السياق، إضافة إلى الاتفاقية العسكرية التي تمَّ توقيعها بين الجانبين، فضلًا عن إعلان المملكة بناء 16 مفاعلًا نوويًا وإعطاء روسيا الدور الأكبر في تشغيل تلك المفاعلات، ومن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 7,5 مليارات دولار عام 2020.
ونجحت السعودية في إقناع روسيا بأهمية مصالح دول مجلس التعاون، وكذلك مخاوف دول المجلس، وبخاصة تجاه البرامج النووية الإيرانية والتسلح الإيراني التقليدي، وهو ما تسهم فيه روسيا بنسبة كبيرة، إذ تشير التقارير إلى أن قيمة المبيعات الروسية لإيران من الأسلحة عام 2014 بلغت نحو 4 بلايين دولار.
ومجمل ما سبق، لا يعني أن الحضور الروسي في منطقة الخليج العربي، بديل للشراكات القائمة لدول المجلس، وإنما تنويع تلك الشراكات هو أمر تفرضه متطلبات المرحلة الراهنة التي تملي ليس فقط على دول مجلس التعاون، وإنما على كافة الدول، إعادة تعريف مصالحها الاستراتيجية.. في الأسطر القادمة نرصد أهم المحطات التاريخية بين البلدين، ومستقبل العلاقات الثنائية بينهما في ظل تداعيات الملف السوري الذي سنتحدث عنه بالتفصيل، إضافة إلى كيفية مجابهة التدخل الإيراني، ومراعاة الأمن الخليجي عامة والسعودي بشكل خاص.
محطات في تاريخ العلاقات بين البلدين حتى الآن
التقت السعودية مع دولة روسيا الاتحادية، بالعديد من المحطات المهمة عبر مراحل تاريخية مختلفة، يتخللها تارة التعاون، وتارة أخرى الخلاف، بينما ما نشهده حاليًا هو وجود توافقات عدة بين البلدين على مبادئ رئيسية، مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتشابه مواقف البلدين في الأمم المتحدة، وكذلك على المستوى الاقتصادي، انطلاقًا من مسؤولية عالمية تُمليها عضوية البلدين في مجموعة العشرين.
يُذكر أن العلاقات السعودية الروسية، بدأت في عام 1926م، حيث لم يمضِ سوى شهر وعشرة أيام على تأسيس المملكة، حتى بادر الاتحاد السوفيتي السابق برسالة بتاريخ 19 فبراير 1926م، أعلن فيها اعترافه رسميًا بالمملكة العربية السعودية، التي كان يُطلق عليها في ذلك التوقيت “مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها”، لتكون بذلك أول دولة في العالم تعترف بالمملكة، وردَّ الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، برسالة أعرب فيها عن استعداد المملكة التام لإقامة علاقات مع حكومة الاتحاد السوفيتي ومواطنيها كما هو متبع مع الدول الصديقة.
شكّلت الرسائل المتبادلة، بداية التواصل الرسمي بين البلدين، الذي تُوج بزيارة تاريخية للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز في عام 1932م إلى موسكو، عام إعلان “المملكة العربية السعودية”، عندما كان وزيرًا للخارجية في عهد والده الملك المؤسس، وفتحت الزيارة صفحة في تنامي العلاقات بين البلدين، غير أن علاقات غير رسمية كانت قائمة. ويُذكر أن أول ما سجلته العلاقات السعودية الروسية، كانت الاتصالات المبكرة مع الإمام عبدالرحمن وابنه الأمير عبدالعزيز (الملك المؤسس) في الكويت في مطلع القرن العشرين قبل الاعتراف بالمملكة.
وتوقفت العلاقة بعد سنوات على بدئها لعقود، وذلك في أبريل عام 1938م، عندما أعلن الاتحاد السوفيتي إغلاق بعثته الدبلوماسية في جدة، وقد كان الانقطاع الطويل للعلاقات الذي استمر لأكثر من نصف قرن، مضرًا لكلا الشعبين.
جاءت البداية الجديدة في 17 سبتمبر 1990م من خلال صدور بيان مشترك يُعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، على أسس ومبادئ ثابتة، لتبدأ مرحلة جديدة، عززتها الزيارات التاريخية التي قام بها إلى روسيا الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود عام 2003م عندما كان وليًا للعهد، والملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود عام 2006م إلى روسيا عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض، وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة عام 2007م.
وأخذ التوجه نحو تكثيف التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين يتشكل تدريجيًا، حيث ارتفع حجم المبادلات التجارية بين البلدين من 235 مليون دولار أمريكي في عام 2005م، إلى 926 مليون دولار أمريكي خلال عام 2015م، منها صادرات سعودية إلى روسيا بقيمة 155.3 مليون دولار، وواردات من روسيا بقيمة 770.7 مليون دولار أمريكي.
تتركز واردات المملكة من روسيا الاتحادية بالدرجة الأولى على قضبان الحديد والتسليح، والشعير، وقضبان النحاس المصقول، والأنابيب ومعدات الحفر، إضافة إلى المنتجات المعدنية شبه الجاهزة. وتُصدر المملكة إلى روسيا المنتجات البتروكيماوية (الأصباغ)، والتمور، وبولي إيثلين عالي الكثافة، والبوليميرات إثيلين، إضافة إلى أصباغ ودهانات سطحية والسجاد والموكيت وخيوط العزل.
لا شكَّ في أن هناك نقاط تفاهم وتوافق بين الرياض وموسكو، وهو ما تجلى في تأكيدات لسمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، عقب زيارته الأخيرة إلى موسكو، بأن العلاقات الثنائية بين البلدين في أوج ازدهارها، وفي المقابل أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن رغبته في العمل مع المملكة، وهو ما يحدث بالفعل.
في ملف النفط، اتّسمت العلاقات السعودية الروسية بتفاهم متبادل، ففي ربيع العام الجاري، اتفق البلدان على خفض الإنتاج إلى 1.8 مليون برميل يوميًا من أجل الحفاظ على الأسعار.
وفي سياق البُعد الإقليمي، اتفقتا على تداول السلطة في مصر سنة 2013، وشاركت موسكو في دعم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. وفي هذا السياق، مكّنت المساعدات السعودية، القاهرة من شراء الأسلحة الروسية.
والمتابع لمسار العلاقات السعودية – الروسية، يجد أنها أخذت أفقًا جديدًا ونقلة نوعية بعد الزيارتين اللتين قام بهما الأمير محمد بن سلمان، إلى روسيا ومباحثاته مع الرئيس الروسي، في يونيو وأكتوبر عام 2015م، وما تمَّ توقيعه من اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتوسيع التعاون في جميع المجالات، أبرزها الاتفاق على استثمار 10 مليارات دولار في إطار شراكة بين صندوق الاستثمارات العامة في المملكة والصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة.
إضافة إلى زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، خلال شهر أبريل الماضي، ولقائه مع نظيره الروسي لافروف، والتي شهدت خلالها تطورات مهمة في العلاقات بين السعودية وروسيا، إذ تمَّ خلالها تقديم دعوة من قبل روسيا بشأن الترتيب لزيارة مرتقبة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو، مع الإشارة إلى تكثيف الزيارات المتبادلة بين البلدين.
وفي منتصف أبريل المنصرم، أجرى وفد برلماني روسي برئاسة فالنتينا ماتفيينكو، رئيسة مجلس الشيوخ الروسي، زيارة إلى العاصمة السعودية الرياض، تأكيدًا على أن السعودية شريك هام لروسيا في الشرق الأوسط، إذ إن موسكو لديها مصالح في تطوير وتعميق التعاون في شتى المجالات، وخصوصًا في مسألة توفير الأمن للشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية.
ونهاية بزيارة ثالثة وسريعة لسمو الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في نهاية مايو الماضي، قال فيها للرئيس بوتين إن العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا، تمر الآن في أفضل مراحلها، مع وجود كثير من نقاط التفاهم بين البلدين، وتحديد آليات لتجاوز النقاط الخلافية.
وبالقدر والأهمية التي توليها المملكة لتطوير العلاقات الثنائية مع روسيا في جميع المجالات، لا تُغفل السعودية أن هناك أكثر من 20 مليون مسلم روسي يشكلون ما نسبته نحو 14% من إجمالي عدد سكان روسيا، وتحرص المملكة دائمًا على الاهتمام ورعاية الحجاج الروس إلى الأماكن المقدسة، الذين يبلغ عددهم ما بين 16- 20 ألف حاج روسي، إضافة إلى آلاف المعتمرين على مدار العام، ولا تقتصر هذه الجهود على رعايتهم داخل الحرمين الشريفين، أو حتى داخل المملكة فقط، بل تبدأ من سفارة المملكة في موسكو، التي تستقبل آلاف الطلبات للحج والعمرة كل عام، وتوفر لمقدمي الطلبات كل ما يلزم من مساعدة لإتمام الإجراءات بيسر وسهولة.
مستقبل العلاقات السعودية الروسية
قبل الجهود التي بذلتها الرياض، وبخاصة الزيارات الثلاث التي أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لتعميق وتعزير العلاقات بين البلدين على أكثر من صعيد، كان مستوى التبادل التجاري – قبل عام 2015- لا يتجاوز مليار دولار، رغم ضخامة إمكانات وطاقات البلدين ورحابة الفرص الاستثمارية المتاحة، إذ إن هناك إمكانات هائلة غير مستغلة بالكامل.
وبحسب وجهة النظر السعودية، فإن البلدين سيتمكنان من وضع أسس متينة فيما يخص استقرار سوق النفط، والأسعار على الطاقة، مما يشكل للطرفين فرصة جيدة للمضي في بناء المستقبل الاستراتيجي.
وفي السياق الاقتصادي، هناك كثير من مشاريع التعاون الاقتصادي بين روسيا الاتحادية والسعودية، وهو ما يساعد على رفع وتيرة العمل المشترك في المراحل المقبلة.
وفي الشأن السياسي، أكد ولي العهد، عدم وجود أي نقاط مواجهة بين سياسات البلدين، وسيتمكن الجانبان معًا من توجيه سياستهما في الاتجاه الصحيح بما يخدم مصالح البلدين.
وبفضل الزيارات المتتالية بين البلدين، نجح كلا الطرفين في تعزيز التوافق السعودي – الروسي حول الاتفاق النفطي الذي قادته السعودية، الذي يضمن لأول مرة في تاريخ المنظمة تعاون الدول المنتجة للنفط من خارج «أوبك»، وعلى رأسها روسيا.
ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة، فرص تحفيز الاتفاقات وتفعيلها لتحقيق عوائد إيجابية وتحقيق الاستقرار في أسواق البترول، لا سيما التعاون في مجال الصناعات البتروكيماوية وعدد من الصناعات النفطية.
وفي يوليو المنصرم، وجهت موسكو على لسان وزير الطاقة الروسي ألكساندر نوفاك، دعوة لشركة “أرامكو” للمشاركة في مشروع للغاز الطبيعي المسال في المنطقة القطبية الشمالية، الذي سيبدأ العمل فيه في عام 2020 بعد اكتمال عمليات بناء وحدات الإنتاج. كما قدمت لشركة “أرامكو”، عدة خيارات متنوعة للمشاركة في المشروع بالتعاون مع شركة “نوفاتك” التي تعدّ أكبر شركة منتجة للغاز في روسيا.
انفراجة في أزمة الملف السوري
يعدُّ الملف السوري من أهم الأسباب التي صنعت فجوة بين الرياض وموسكو، إذ تلتزم كلٌّ منهما بموقف مختلف في مسألة النزاع السوري، إذ ترى المملكة في استقالة بشار الأسد حلاً لا بدَّ منه لتحقيق تسوية سياسية في الجمهورية السورية، إلى أن بدأت الرياض، مؤخرًا، بإيلاء اهتمام أكبر لرأي موسكو، الذي يعطي الأولوية للقضايا، وليس للشخصيات في السلطة، وبالتالي لضرورة ضمان الحفاظ على سوريا كدولة مستقلة وموحدة علمانية وديمقراطية.
وإن هذا الفهم من جانب المملكة، سمح لفالنتينا ماتفيينكو بالقول إن “هناك خلافات بشأن القضية السورية بين روسيا والسعودية، لكننا مع ذلك لسنا على الجانبين المتقابلين من المتراس”. وما سبق دليل على بداية نشوء الثقة التي يحتاج إليها الطرفان بشدة، إذ إن روسيا التزمت – بالكامل – بشروط الرقابة على أسعار النفط، وأوفت بالالتزامات المفروضة عليها كافة. وهذه الحيثية لم تبقَ من دون اهتمام.
أمن الخليج العربي والتدخلات الإيرانية
إقامة حوار مباشر ومنتظم بين موسكو والرياض أصبح أمرًا حتميًا، يستحيل من دونه التوصل إلى حل مرضٍ لأي من مشكلات المنطقة، وبخاصة الأزمة الإيرانية، في حالة تراجع الدور الأمريكي تجاه أزمات الأمن الإقليمي نوعًا ما، وبخاصة بعدما وقع في وقت سابق من تقارب أمريكي – إيراني، إذ إن الأمر لا يرتبط فقط بمسألة البرامج النووية الإيرانية، وإنما الرغبة الأمريكية في إدماج إيران ضمن منظومة الأمن الإقليمي في الوقت الذي لا تزال لديها مشكلات عالقة مع دول مجلس التعاون الخليجي.
ثم الفوائد المشتركة التي ستعود على الجانبين، سواء في مجال الطاقة في ظل الانخفاض غير المسبوق لأسعار النفط وتداعياته على اقتصاديات دول المجلس، فروسيا لا يزال لها تأثير على المستوى الدولي، وبخاصة في المنظمات الدولية، بل والإقليمية أهمها منظمة شنغهاي وتجمع البريكس، وعلى المستوى العسكري لا يزال لدى روسيا قوات عسكرية متفوقة للغاية.
كاتب وباحث*
@ragabsalama
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر