مع استمرار انتشار فيروس كورونا، وتراجع حجم التجارة الدولية بسبب تطبيق العديد من الدول سياسات الإغلاق التام؛ يسلط الكثيرون الضوء الآن على مخاطر الاعتماد على سلاسل القيمة العالمية. وهناك حديث متواتر عن تراجع العولمة. العولمة تعتمد على الروابط المعقدة (سلاسل القيمة العالمية) التي تربط المنتجين في العديد من البلدان. وغالبًا ما يستخدم هؤلاء المنتجون سلعًا وسيطة عالية التخصص، أو مدخلات ينتجها مورد خارجي واحد فقط.
هذا المقال يُناقش تأثير فيروس كورونا على التجارة الدولية، ومستقبل ظاهرة العولمة بعد جائحة كورونا، وأخيرًا ما يمكن للدول القيام به للحد من الاضطرابات الاقتصادية.
تأثير كورونا على التجارة الدولية
توقعت منظمة التجارة العالمية أن تنخفض التجارة الدولية خلال عام 2020 بنسبة تتراوح بين 13٪ – 32٪، ويعود ذلك إلى عدم القدرة على المعرفة الدقيقة بحجم تأثير الأزمة الصحية على الاقتصاد. رغم أنه في ذروة الأزمة المالية في عام 2009، انخفضت التجارة بنسبة 12.5٪. وتوقعت المنظمة أن جميع المناطق تقريبًا ستعاني هذا العام من انخفاض مزدوج الرقم في التجارة، أي أكثر من 10%. كما أن القطاعات ذات سلاسل القيمة المعقدة، مثل الإلكترونيات ومنتجات السيارات، هي القطاعات التي من المتوقع أن تشهد انخفاضًا أكثر حدة، ولكن التجارة في قطاع الخدمات قد تكون هي الأكثر تضررًا من جائحة (كوفيد-19) بسبب قيود النقل والسفر وإغلاق المطاعم والفنادق وأماكن الترفيه. وتتوقع المنظمة انتعاشًا في تجارة السلع العالمية خلال العام المقبل 2021 بنسبة تتراوح بين 21٪-24٪، ويتوقف ذلك على مدة تفشي الفيروس التاجي وفعالية الاستجابات السياسية.
وبالإضافة إلى ذلك، تتوقع منظمة التجارة العالمية أن تكون الصادرات من أمريكا الشمالية وآسيا أكثر تضررًا. ووفقًا لإحصاءات الجمارك الصينية، انخفضت قيمة الصادرات الصينية في الشهرين الأولين من عام 2020 بنسبة 17.2٪ على أساس سنوي، في حين تباطأت الواردات بنسبة 4٪. وأثر هذا الانخفاض في التجارة الصينية على بعض الأسواق أكثر من غيرها، حيث انخفضت الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 29.9٪ في الشهرين الأولين من هذا العام عن العام السابق، بينما انخفضت الواردات من الاتحاد الأوروبي بنسبة 18.9٪. وانخفضت الصادرات والواردات من الولايات المتحدة بنسبة 27٪ و8٪ على التوالي. في عام 2019، كانت الولايات المتحدة أكثر البلدان اعتمادًا على الصين تجاريًّا، تليها سبع دول أوروبية واليابان. وبحلول عام 2020، تقدمت الدول الأوروبية أكثر في التصنيف العالمي. لذلك فإن هذه الانخفاضات الكبيرة مرتبطة بالاعتماد المتبادل القوي بين الشركات الأوروبية والأمريكية والصينية.
هل هذه نهاية العولمة أو التجارة الدولية؟
هناك نقاش حول تأثير جائحة (كوفيد-19) على هيكل الإنتاج العالمي وسلاسل التوريد العالمية. بالنسبة للبعض، تكشف جائحة كورونا عن أهمية إعادة تأميم سلاسل التوريد، أو على الأقل تقصيرها، للحد من المخاطر العالمية. ومن هذا المنظور، قد تحتاج الشركات إلى إعادة التفكير في قراراتها المتعلقة بمصادر الإمداد، مما يؤدي إلى إعادة ترتيب سلاسل الإنتاج العالمية. وبالمثل، هناك نقاش حول ما إذا كانت الحكومات تحتاج إلى إعادة النظر في قائمة السلع الاستراتيجية التي تتطلب إنتاجًا محليًّا، أو فرض قيود جديدة على مصادر الإمداد على الشركات، وما إذا كانت أيضًا بحاجة إلى إعادة النظر في ممارسات المشتريات الحكومية. على سبيل المثال، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لين”، إلى تقصير سلاسل التوريد العالمية لأن الاتحاد الأوروبي يعتمد بشكل كبير على عدد قليل من الموردين الأجانب. كما دعا الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، إلى تعزيز “السيادة الاقتصادية” الفرنسية والأوروبية من خلال الاستثمار داخل البلاد في قطاعات التكنولوجيا والطب. لكن لم يتخذ أي بلد أي إجراء جاد لإلغاء أو عكس تحالفاتهم ومصالحهم واستراتيجياتهم العالمية. فحتى الآن، لم تغير أي من الدول الكبرى استراتيجيتها في السعي من أجل اقتصاد أكثر ترابطًا. فما زالت الصين تواصل استثماراتها الهائلة في مبادرة “الحزام والطريق” التجارية، ويحاول الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية التوصل إلى اتفاق بخصوص فرض ضرائب على شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى (جوجل، فيسبوك، ومايكروسوفت) وهذا لتجنب حرب الرسوم الجمركية. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال ألمانيا حريصة على تجنب الخلافات مع الولايات المتحدة أو الصين.
لذلك، هناك خطر من افتراض افتراضات سريعة حول ما هو ضروري لضمان المرونة. على الصعيد الدولي، غالبًا ما يكون الإنتاج المتنوع مصدرًا للمرونة والتكيف للشركات في بيئة مختلفة، فالاكتفاء الذاتي من العرض يختلف عن ضمان العرض. ستكون هناك أيضًا حاجة لكل من الشركات والحكومات للتفكير مرة أخرى في أفضل السبل لضمان مرونة سلاسل التوريد. وسيتطلب ذلك فهمًا أفضل لنقاط القوة ونقاط الضعف في سلاسل التوريد الرئيسية في الأزمة الحالية، والنظر مرة أخرى في أدوات المرونة في ضوء ذلك. بالنسبة للحكومات، ستكون هناك حاجة للنظر في سياسات التجارة والاستثمار التي يمكن أن تدعم المرونة على أفضل وجه. على سبيل المثال، توفُّر البنية التحتية الرقمية لتقليل الضربات المتعلقة بالإنتاجية والتي تساعد على استئناف التجارة الدولية في أوقات الأزمات. وفي هذا الصدد، قال المدير العام لمنظمة التجارة العالمية “روبرتو أزيفيدو” في مؤتمر صحفي إن البلدان التي تعمل معًا ستشهد انتعاشًا أسرع مما لو تصرفت كل دولة بمفردها، وأن التحول إلى سياسات الحماية سيخلق صدمات جديدة، ولن تكون أي دولة مكتفية ذاتيًّا بالكامل، وأن الإجابة هي التنويع بحيث تأتي الإمدادات من أكثر من منطقة واحدة أو لاعب واحد.
وهناك ما يبرر المخاوف بشأن الاعتماد المفرط على سلاسل القيمة العالمية المعقدة في حالة المنتجات المتعلقة بالأمن القومي، مثل الإمدادات الطبية. ولكن هذه ليست نهاية العولمة، بل إعادة تكوين سلاسل القيمة العالمية. فعلى الرغم من أن سلاسل التوريد العالمية معقدة للغاية، إلا أن سلاسل القيمة العالمية تتبع مبدأ الكفاءة، وهذا نتيجة قيام الشركات بتوظيف أفضل المدخلات الممكنة لتلبية احتياجات الإنتاج بأقل تكلفة، أينما كان الموقع الذي تأتي منه هذه المدخلات، مما يضمن بقاء العولمة. فبينما تظل الكفاءة الهدف الرئيسي، ستستمر الشركات في التسوق عالميًّا.
ما الذي يمكن للدول القيام به؟
بعض البلدان غير قادرة على إنتاج الإمدادات الطبية الخاصة بها بكميات كافية أو بشكل فعال من حيث التكلفة. هذا هو الحال بشكل خاص في البلدان ذات الدخل المنخفض، حيث بدأ الفيروس في السيطرة عليها. ففي هذه البلدان، لا ينبغي أن تكون أولوية الميزانيات الصحية المحدودة بناء قدرات التصنيع المحلية. بالنسبة لهذه البلدان -كما كان الحال بالنسبة للبلدان الأخرى التي عانت من الفيروس حتى الآن- فإن التجارة الدولية ضرورية.
وبناء على منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وللحفاظ على الثقة في الأسواق العالمية، هناك حاجة لتجنب المزيد من التصعيد في التوترات التجارية المستمرة. ومع التوترات المتزايدة في الشركات بسبب الانهيار في الطلب وعدم اليقين المستمر فيما يتعلق بمدة وشدة جائحة كورونا وتدابير الاحتواء ذات الصلة، فإن الوقت الحالي ليس هو الوقت المناسب لفرض المزيد من التكاليف. ففرض تكاليف إضافية على الشركات والمستهلكين من خلال التعريفات الجمركية لا يتسبب فقط في مشقة لأولئك الذين يعانون بالفعل من فقدان الدخل بسبب الأزمة، ولكن أيضًا يخاطر بزيادة حجم المساعدة الحكومية اللازمة لدعم تلك الشركات والمستهلكين. لذلك، من بين الخطوات الإيجابية لتعزيز الثقة وتخفيف الأعباء أن تلتزم الحكومات بعدم فرض تعريفات جمركية جديدة أو إجراءات تقييدية تجارية.
وفي حين كانت التجارة الدولية واحدة من أولى ضحايا الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، إلا أن إجراءات تقييد التجارة الجديدة أثرت على حوالي 1٪ فقط من الواردات العالمية. ففي ذلك الوقت، التزم قادة مجموعة العشرين بالامتناع عن تدابير الحماية والتمسك بنظام التجارة القائم على القواعد، وأوجدت قواعد التجارة في منظمة التجارة العالمية بعض اليقين للشركات، واستقر النظام من خلال وضع سقف على الإجراءات الجمركية. وفي حين أن هناك بعض الاختلافات، وكذلك التشابهات، بين أزمة عام 2008 وأزمة كورونا، فإن البيئة الاقتصادية غير المؤكدة الحالية تزيد من الحاجة إلى الالتزام بالتجارة المستندة إلى القواعد والابتعاد عن سياسات الحماية التجارية.