سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
مايكل روبين
لم يعد هناك أي نقاش حقيقي حول طبيعة النظام الحاكم في تركيا برئاسة “رجب طيب أردوغان”؛ ففي العام الماضي، خفَّضت منظمة “بيت الحريات” Freedom House ترتيب تركيا إلى “غير حرة” Not Free، لتنضم بذلك إلى معسكر يضم دولاً مثل إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا. وفي عام 2012، وصفت منظمة “مراسلون بلا حدود” تركيا بأنها “أكبر سجن للصحفيين في العالم”، إذ باتت أوضاعهم أكثر سوءًا. وفي تركيا تقوم هيئات الضرائب بمحاسبة أي شخص يجرؤ على التبرع لخصوم أردوغان السياسيين. وتكتظ السجون التركية بالسجناء السياسيين. وقد وصل الحال بأردوغان إلى تشبيهه السافر للديمقراطية بأنها مثل “سيارة في الشارع” ينبغي توجيهها في اتجاه محدد حتى يتم الوصول إلى الوجهة المطلوبة.
وهناك مجموعة كبيرة من الأتراك الذين يزورون الولايات المتحدة وأوروبا يتحدثون كثيرًا عن الخوف الذي يكتنف المجتمع التركي. وكما في الكثير من الأنظمة الاستبدادية في العالم، فإن الأتراك يخشون من أن يصدر فيما بينهم كلمة خاطئة أو أن نكتة يمكن أن تقود صاحبها إلى التحقيق أو الاعتقال أو السجن. وكما هو الحال في الدول الشيوعية خلال حقبة الحرب الباردة، يمكن لأي شخصٍ تقديم تقرير كاذب يؤدي إلى إفساد حياة شخص ما.
وقد يبدو الدكتاتوريون للوهلة الأولى في مأمن بسبب قوتهم، لكن الديمقراطيين يستيقظون كل صباح واثقين بشرعية وأمن أكثر، وهو ما يجعل الديكتاتوريين دائمًا ينظرون إلى يومهم على أنه ربَّما كان الأخير بالنسبة لهم؛ فمن غير المتصور قدر الصدمة التي يمكن أن تنتهي إليها فترة حكمهم.
وعودة إلى أردوغان، فبعد نحو 15 سنة من توليه رئاسة الوزراء، فإنه يبدو في مأمن بالسلطة رغم أنه لم يحصل على تصويت الأغلبية إلا مرة واحدة. ويثير ذلك تساؤلات حول مستقبل ومصير أردوغان، يمكن أن نوردها في أربعة احتمالات:
أولاً: جنازة رسمية
وهو ما يفضله أردوغان نفسه، فنتيجة للفقر الذي بدأ عليه حياته، نجد أنه عمل على جمع ثروة تقدر بمليارات الدولارات، ثم إنه لا يحب المخاطرة بتخفيف قبضته على مقاليد السلطة. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي عمل من خلالها على تقديم نفسه هو وزوجته في صورة المتدين، تمامًا كما كان الحال بالنسبة للسيدة الأولى السابقة في الأرجنتين “إيفيتا بيرون”، نجد أن حرم الرئيس التركي قد أدمنت الفخامة. ولا يُعدُّ تراكم الثروة العائلية والقدرة على إذلال أعدائه خارجيًا وداخليًا، الدافع الوحيد لمساعي أردوغان للسلطة، إذ يعتبر المعتقد الديني عاملاً آخر؛ فمع اقتراب الذكرى المئوية على تأسيس تركيا، يسعى أردوغان إلى تدشين الجمهورية الثانية والقضاء على إرث أتاتورك.
وربَّما كان السبب الأكبر لمحاولات أردوغان البقاء في السلطة، هو ضمان إرثٍ لعائلته؛ فما إن تمكَّن حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه من السلطة، حتى قام بإقصاء عدد من الشخصيات السياسية المؤثرة، مثل: الرئيس السابق عبدالله غول، ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو، ليحل محلهم أفراد ينتمون إلى أسرته؛ فعزَّزَ وضع أبنائه أحمد وبلال لتولي مسؤولية ثروات العائلة التي تبلغ عدة مليارات من الدولارات، ثم إنه يهيئ صهره “بيرات البيرق”، الذي يشغل حاليًا منصب وزير المالية، لخلافته. ولعل ما لا يتذكره أردوغان، هو مساعي الرئيس المصري حسني مبارك لتنصيب ابنه جمال خلفًا له مما أثار ليس الجماهير فقط، بل والنخبة العسكرية أيضًا، وصولاً للإطاحة به. وبعيدًا عن ذلك، فإن أردوغان يقلل من شأن الخناجر التي يمتلكها أعضاء “حزب العدالة والتنمية” والذين يسيئون استغلالها تمهيداً لتصعيدأحمد وبلال وبيرات عندما يرحل أردوغان.
ثانيًا: المنفى
إن جنون العظمة الذي يعاني منه أردوغان، يرسخ لدى الجميع اعتقاداً بأنه ليس بمأمنٍ، وذلك بخلاف ما يرغب هو نفسه أن يراه الناس معتمدا في ذلك على قوات الأمن.لكن مع كل عملية اعتقال أو مصادرة وتطهير اقتصادي يلوح في الأفق، يتولد المزيد من الضغط، وهو ما قد يكون مسألة وقت فقط حتى يحدث الانفجار. فدائمًا ما يدين أردوغان الإطاحة بمحمد مرسي في مصر عام 2013، الذي يعتبره أول رئيس منتخب من جماعة الإخوان، لكنه يتجاهل حقيقة الأمر؛ ذلك أنه في غضون عام واحد مارس مرسي استقطابًا أيديولوجيًا أدى إلى تحول الملايين من المصريين إلى الوقوف ضده. ويميل منتقدو الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى اعتبار ما حدث انقلابًا، بينما يرى مؤيدوه أنه ثورة، ومهما كانت الدلالات، فإن الشيء الواضح أن السيسي ما كان له أن يصل للسلطة، بدون أن يفقد مرسي الدعم الشعبي.
ومن ثَمَّ، إذا نهض الشعب التركي، فماذا سيفعل أردوغان؟ قد يكون خياره المفضل هو الفرار إلى المنفى. فالديكتاتور الأوغندي “عيدي أمين” اختار المنفى سابقًا، وكذلك الحال بالنسبة للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ونفس المصير لقيه الرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش” الذي لجأ إلى موسكو. واختاره رئيس جامبيا السابق “يحيى جامع”، غينيا الاستوائية، ولم يجد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي أصدقاء يلجأ إليهم. أمَّا سلوك أردوغان الخاطئ فسيحد من خياراته. وباحتوائه لجماعة الإخوان، لم تعد روسيا خيارًا لأن يلجأ إليه أردوغان، فبالنسبة لفلاديمير بوتين، فإن أردوغان ربَّما كان مفيدًا، لكنه في نهاية المطاف لا يعدو كونه يقوم بدور “مزعج” للغرب. وحينما لا يعد أردوغان مفيدًا، سوف يتخلص بوتين منه، تمامًا كما تتخلص القطة من جثة الفأر. والحال نفسه بالنسبة لنظام “مادورو” في فنزويلا، الذي قد يستمر فترة أطول. وهكذا يتبقى أمام أردوغان كلٌّ من قطر أو أذربيجان حيث يمكنه أن يشتري عقارًا في أي منهما قبل أن يقوم خلفه أو أعداؤه بالمجتمع الدولي بتجميد حسابات أرصدته الكثيرة.
ثالثًا: السجن
غالبًا ما يخدع الدكتاتوريون أنفسهم بأنهم يمكنهم استعادة السلطة، عندما يبدأ المد الجماهيري بالتحرك ضدهم؛ فقد مات الرئيس الصربي السابق “سلوبودان ميلوسيفيتش” في السجن. وعُرِضَ على الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إمكانية اللجوء إلى قصر فخم في المنفى ليمضي بقية حياته هناك، بينما كانت الدبابات الأميركية تحاصر بغداد، ثم اختبأ ليراقب الأوضاع من ثقوب العنكبوت، وأمضى سنواته عمره الأخيرة في السجن، حتى قُدِّم إلى المحاكمة لجرائمه التي ارتكبها، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة على حبل المشنقة. كما انتقل حسني مبارك من القصر إلى السجن، وإن كان حصل على عفوٍ في وقتٍ لاحقٍ.
وفي حالة اندلاع الغضب العام وتغير النظام في تركيا، يمكن حينئذٍ للمحققين أن يختاروا الجرائم التي يتهمون بها أردوغان؛ فعندما انتُخِبَ رئيسًا للوزراء، كانت هناك – بالفعل – ملفات فساد معلقة تعود إلى فترة توليه منصب “عمدة إسطنبول”، ذلك أنه لا تتوفر لديه التفسيرات القانونية المقنعة والكافية لتراكم ثروته الهائلة. فقد شهد زملاؤه من حزب العدالة والتنمية على حساباته المصرفية بالخارج، ثم إن هناك التسجيلات الهاتفية المسربة التي ينكرها أردوغان زاعمًا أنها تلفيق. بجانب ذلك، فهناك الكثير من المستندات التي تؤكد جرائم غسيل الأموال والتهرب التي يتورط فيها أردوغان، فضلاً عن ذلك، فإن تدميره لعدد من المناطق الكردية، مثل: ابن عمر، ونصيبين وغيرهما، من المحتمل أن تُعدَّ جرائم ضد الإنسانية. وباختصار، فإذا استمر أردوغان طويلاً على خلفية تلك الاضطرابات، فقد يجد نفسه يواجه عشرات السنين في السجن، إن لم يكن الأمر أسوأ من ذلك.
رابعًا: الإعدام
لن يكون أردوغان هو الزعيم التركي الأول الذي يُودَع في السجن. لكن، إذا سعى معارضوه للانتقام، وسمح نظام العدالة التركي بذلك، فهل سيمثل ذلك الحالة الأولى من نوعها؟ والإجابة أنه في عام 1950، وصل الحزب الديمقراطي بقيادة “عدنان مندريس” للسلطة وأصبح “مندريس” أول رئيسًا للوزراء للبلاد بعد انتخابه، لكنه استمر في السلطة مدة 10 سنوات. لم يقد “مندريس” عملية دخول تركيا لحلف شمال الأطلنطي فحسب، وإنما أشرف أيضًا على نموٍ اقتصاديٍ لم يسبق له مثيل في البلاد، إلى أن جاء عام 1960، وعلى خلفية الشكوك التي سادت أثناء الحرب الباردة حول ميوله اليسارية وتسامحه مع اتساع مساحة التوجهات الدينية في المجتمع التركي، قاد الجيش التركي انقلابًا للإطاحة به وتمَّ سجنه. وفي نهاية المطاف، أقرَّت المحكمة بأن “مندريس” مذنب في قضية اختلاس انتهك خلالها الدستور التركي. بالإضافة إلى أنه وجَّه الأوامر بارتكاب مذبحة في إسطنبول أودت بحياة الكثير من المواطنين اليونانيين في تركيا، إلى أن تمَّ إعدامه شنقًا من قِبَل الجيش التركي في تاريخ 17 سبتمبر 1961.
لم يكن هناك أي مبرر للانقلاب أو الإعدام في قضية “مندريس”، ذلك أن المؤرخين الأتراك الذين يضعون حماية إرث تركيا فوق كل شيء، شاهدوا بأنفسهم المصير الظالم الذي تعرض له “مندريس”، فقد أقرَّ البرلمان التركي عفوًا عنه، ليس هذا فحسب، بل سمح ببناء ضريحٍ له.
لقد أثار إعدام “مندريس” الذعر في تركيا، وشكَّل سابقةً في التاريخ التركي، لأنه كان بريئًا؛ لكن أردوغان، في معظم الحالات، يعتبر مذنبًا. وكما هو الحال بالنسبة لـ”مندريس” الذي يبدو في أعين البعض شهيدًا، إلا أن هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد تورط أردوغان في جرائم تطهير عرقي، ورعاية الإرهاب والفساد الجماعي وهو ما يقوده إلى دفع الثمن في النهاية. وربَّما تعارض منظمة “هيومان رايتس ووتش”، ومنظمات أخرى عقوبة الإعدام، إلا أنها في المحصلة النهائية تخضع لقواعد اللعبة السياسية؛ إذ ربَّما لا يكون إعدام أردوغان أمرًا حكيمًا، فقد يجعل ذلك منه شهيدًا، وهو ما يخلق بدوره حالة من الاستقطاب والاضطرابات التي تواجه الأجيال الحالية.
أخيرًا، ففي كثير من البلدان بمنطقة الشرق الأوسط، ومنها تركيا، وبخاصة المجتمعات “غير الحرة”، يخلط النخبة من المثقفين والسياسيين بين التحليل والرأي، فربَّما يتفاعل البعض سلبًا مع أي سيناريوهات لا تتوافق مع طموحات النظام، لكن الحقيقة ربَّما يكون فيها قدر من الخيال، ذلك أن النظر إلى آفاق مستقبل أردوغان بشكل مباشر، ربَّما يشير إلى أن مستقبله لا يبدو مشرقًا، وأن الإذلال والعدالة ربَّما يتحققان معًا، ليحلا محل الفخامة والقوة التي اعتادها أردوغان وعائلته.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر/ واشنطن إكسماينر Washington Examiner
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر