تشير المرحلة الراهنة من الأوضاع الاقتصادية في الهند وباكستان إلى سيرهم في مفترق طرق؛ فبالرغم من حصول كلتا الدولتين على استقلالهما عام 1947، إلا أنه كانت الشكوك حينها تحوم حول قدرة باكستان على تحقيق مستقبل متقدم لاقتصادها، ومع ذلك خالفت الدولة التوقعات فيما بعد، لتحقق متوسط نمو سنوي مقبول، إلا أنّ مؤخرًا تعرض اقتصادها لانتكاسة، مع الأزمات العالمية المتتالية، لتسعى الدولة جاهدة للنجاة من براثن الإفلاس، وعلى عكسها، على مر السنوات استطاعت الهند أن تحرز تقدمًا كبيرًا في جميع مؤشرات الاستدامة الاقتصادية، وتوافر الموارد، وفي معدلات الناتج المحلي الإجمالي، والنمو الاقتصادي، لتتمكن من منافسة كبرى الاقتصادات على مستوى العالم.
أولًا: استراتيجيات التنمية في الدولتين
بدأت الهند وباكستان عملية التنمية الاقتصادية في نفس الوقت، إذ وضعت إسلام أباد ونيودلهي استراتيجيات مماثلة، تتضمن توسع أكبر للقطاع العام، وسرعان ما بدأ العمل على تخصيص حصة كبيرة من الإنفاق العام على التنمية الاجتماعية، وفي عام 1951 أعلنت الهند عن خطتها الخمسية الأولى للتنمية، بينما أعلنت باكستان عن استراتيجياتها التنموية في عام 1956، كما تم إجراء إصلاحات اقتصادية في كلتا الدولتين، وحتى الثمانينيات كانت معدلات النمو ودخل الفرد في البلدين متقاربة، واستطاعت باكستان في الستينيات أن تحقق تقدمًا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ليكون أعلى من مثيله في الهند، في ظل اتخاذ الهند سياسة تقليص الصادرات، واعتمادها على سياسة تجارية حمائية حينها.
وعلى مر السنين لم تتجاوز الهند نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لباكستان فحسب، بل تقدمت بشكل كبير على مستوى كل الجبهات الاقتصادية تقريبًا، ففي التسعينات على سبيل المثال انقلب مسار النمو، حيث نمت الهند بمعدل 6% خلال الثلاثين عامًا التالية، متجاوزة نسبة 4% في باكستان، وترجع الأسباب الرئيسية لذلك:
- سبب اقتصادي: يقوم على توسع باكستان في الاعتماد على مصادر التمويل الخارجية، مقارنة بالهند التي قللت اعتمادها على المساعدات الخارجية بشكل تدريجي، لتقل بشكل واضح في العقود الأخيرة، وبشكل خاص، التمويلات من صندوق النقد الدولي، أو على سبيل المثال قروض ومساعدات من الصين بهدف تطوير بنيتها التحتية؛ مما أثقل باكستان بالديون، فضلًا عن ذلك، اتخذت الهند سياسة الانفتاح الاقتصادي من تحرير التجارة، وتخفيض التعريفة الجمركية، كما قدمت التسهيلات للشركات المحلية للعمل والنمو، وفتحت الباب أمام المزيد من الاستثمار الأجنبي.
- سبب سياسي: ساهم أيضًا معاناة باكستان السياسية الناتجة عن عدم الاستقرار السياسي، وبشكل خاص في الفترة من عام 1988 إلى عام 1998، والتي شهدت عدة انقلابات تناوبت على أثرها سبع حكومات تنوعت بين الحكومات المدنية والعسكرية، والذي كان له الأثر الواضح من هروب الاستثمار الأجنبي المباشر، وصعوبة تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي، كما أدّى ذلك إلى ارتفاع الإنفاق العسكري بشكل فاق إنفاق الهند العسكري، كما عانت باكستان وحتى الآن من فشلها في كبح الجماعات الإرهابية المحلية، في الوقت الذي تكافح فيه الاقتصاد المتعثر، والديون الخارجية المتزايدة، وعلى الجانب الآخر تمكنت الهند من الحفاظ على الاستقرار النسبي سياسيًا، كما استطاعت أن تحقق مستوى أفضل من الديمقراطية.
ثانيًا: واقع الاقتصاد الباكستاني
يمر الاقتصاد الباكستاني بمرحلة حرجة، وذلك في ظل انخفاض الاحتياطيات الأجنبية بشكل محفوف بالمخاطر، وارتفاع معدلات التضخم، لتتخذ الحكومة على أثر ذلك سياسات تقوم على الحفاظ على احتياطيات النقد الأجنبي الشحيحة، ورفع دعم الطاقة، وإزالة السقف غير الرسمي لسعر الصرف، وتشديد السياسة النقدية، وبالرغم من ذلك ظلت الاحتياطيات من النقد الأجنبي عند مستويات منخفضة، وواصل التضخم في ارتفاعه، وتراجعت قيمة العملة، كما أضعفت تلك السياسات التقشفية ثقة المستهلكين والمستثمرين، وتأثر نشاط القطاع الخاص بشدة، بسبب القيود المفروضة على الواردات، وتدفقات الدولار إلى الخارج، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وزيادة أسعار الوقود، واستمرار عدم اليقين في السياسات؛ مما أدّى إلى تباطؤ حاد في النمو، وتراجع الاستثمار الخاص، وضعف الصادرات، وذلك بحسب التقرير الصادر عن “البنك الدولي“.
وفي ظل نقاط الضعف الهيكلية الطويلة الأمد في الاقتصاد الباكستاني، فقد تفاقمت الاختلالات المتزايدة بسبب الفيضانات المدمرة الأخيرة، التي عطلت الأنشطة الاقتصادية، وخاصّة الإنتاج الزراعي، وإنتاج الماشية، بجانب الصعوبات في تأمين الأسمدة عالية الجودة، والأعلاف الحيوانية؛ مما تسبب في انخفاض الإنتاجية بشكل عام، وتشير التقديرات إلى أنّ النمو الاقتصادي قد تباطأ بشكل حاد خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2022 (النصف الأول من السنة المالية 2022-2023)، ومن المتوقع أن يتباطأ نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بشكل حاد إلى 0.4% في السنة المالية 2023، وتباطأ نمو الاستثمار العام بشكل كبير إلى 11.4% في النصف الأول من السنة المالية 2022-2023 من 24.8%، خلال النصف الأول من السنة المالية 2022-2021، وارتفع التضخم الرئيسي لأسعار المستهلك في باكستان إلى أعلى مستوى له منذ عدة عقود في النصف الأول من السنة المالية 2023، ليصل إلى 25% مقارنةً بـ 9.8%، ومن المتوقع أن يرتفع معدل الفقر في السنة المالية 2022-2023، بما يدفع بنحو 3.9 مليون شخص إضافي في دائرة الفقر، مقارنة بالسنة المالية 2021-2022.
ثالثًا: واقع الاقتصاد الهندي
بعكس باكستان، فإنّ الاقتصاد الهندي اكتسب زخمًا وسط استمرار التحديات الكبيرة العالمية، لتصبح الهند واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم بحسب “البنك الدولي“، ويعتبر الاقتصاد الهندي اقتصادًا يحركه الطلب المحلي، حيث تساهم الاستثمارات والاستهلاك المحلي بنسبة 70% من النشاط الاقتصادي، وفي السنوات الأخيرة اتخذت الحكومة عدة سياسات إصلاحية ساهمت في دفع عجلة النمو الاقتصادي بالبلاد، ليرتفع نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة المالية 2022/2023 ليصل إلى نحو 7%، وتشير التوقعات إلى أن تنمو الهند بما يتراوح بين 6% و6.3% في السنة المالية 2023/2024، بسبب حالة عدم اليقين التي يمر بها الاقتصاد العالمي، إلا أنه إذا تجاوز الاقتصاد العالمي تلك الحالة فمن المتوقع أن يتجاوز النمو 7% خلال العامين المقبلين.
وشهدت العديد من القطاعات مثل البناء والزراعة نموًا أكثر من المتوقع، كما حقق قطاع التصنيع نموًا مؤخرًا، أيضًا كان أداء الصادرات جيدًا على الرغم من الرياح العالمية المعاكسة، في حين سجلت الواردات أبطأ نمو لها منذ ديسمبر 2020، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انخفاض أسعار النفط الخام، مما أدّى إلى انخفاض فواتير الواردات في الهند. وبرز الاستهلاك الخاص، وهو أكبر مكون في الطلب النهائي للهند، مع نمو متواضع بنسبة 7.5% في السنة المالية 2022-2023، باعتباره الحلقة الأضعف في النمو الإجمالي. وانخفضت حصة الاستهلاك الخاص في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير.
وأخيرًا يتضح أنّ المسارات المختلفة التي اتخذتها كلٌ من الدولتين فيما يتعلق باقتصاداتهما، آلت إلى الواقع الاقتصادي الحالي لكل منهما، ففي الوقت الذي تعاني فيه باكستان من تردي الأوضاع الاقتصادية لديها، على الجانب الآخر تعد الهند حاليًا خامس أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة، والصين، واليابان، وألمانيا، مدفوعة بالتقدم الذي تحرزه البلاد في مجال الابتكار والتكنولوجيا، وزيادة استثمار رأس المال، وارتفاع الإنتاجية.