سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أندريه سوشينتزوف
كتب أندريه سوشينتزوف، مدير برنامج “فالداي كلوب”: يمكن أن تقوم الولايات المتحدة بحساباتٍ خاطئة، وربما تكون كارثية على أية دولة أخرى؛ فقيادة الولايات المتحدة ترتكز على أربع ركائز للقوة، هي: هيمنة الدولار على التعاملات التجارية الدولية، وقوتها العسكرية غير المسبوقة، وأسلوب الحياة الجذاب وسياسة الهجرة المنفتحة، وأخيراً الاقتصاد المبتكر الذي يسمح للولايات المتحدة بالبقاء في الطليعة، في مجال التكنولوجيا والتصنيع العسكري. وما لم تقوض أخطاء السياسة الخارجية إحدى هذه الركائز فستبقى الولايات المتحدة قادرة على ارتكاب الأخطاء دون أن تتحمل عواقبها.
بعد أن تعاملتُ مع الأبحاث الأمريكية لأكثر من خمسة عشر عاماً، ما زلت أستغرب من المفارقة التالية: على الرغم من العدد الكبير من مراكز الأبحاث من الدرجة الأولى في الولايات المتحدة -هنالك أكثر من 2000 مركز أبحاث في الولايات المتحدة- فإنها لا تزال ترتكب أخطاءً فادحة في سياساتها الخارجية؛ مثل غزو أفغانستان والعراق وليبيا، وخيانة حكومة مبارك المتحالفة معها عام 2011 لصالح الإسلامويين، ثم دعم الانقلاب عليهم في ما بعد.
وكل واحد من هذه الأخطاء الجسيمة في السياسة الخارجية قد سبب أضراراً كبيرة للقوة الأمريكية، وكلف دافعي الضرائب أموالاً طائلة. فعلى سبيل المثال، كانت تكاليف غزو العراق وأفغانستان الإجمالية تعادل الناتج المحلي الإجمالي لواحدة من أكبر عشر دول في العالم. وبالطبع، لا العراق ولا أفغانستان، يمتلكان الموارد الكافية لتعويض الولايات المتحدة عن تكاليف تدخلها العسكري. والسؤال هنا: لماذا لم تعتمد النخبة الأمريكية على آراء الخبراء البارزين في الولايات المتحدة الذين حذروا من العواقب الوخيمة لهذه الخطوات، عندما اتخذت القرارات في مسائل مهمة كهذه؟
دعونا نحاول الإجابة عن هذا السؤال.
إن ممارسة التحليل السياسي التطبيقي في الولايات المتحدة هي الأكثر تطوراً بين جميع دول العالم، وقد ازدهرت بشكل خاص في مجال التحليل التطبيقي والاستشراف. وتعتمد الأبحاث المتقدمة على طرق تحليل المفاوضات، وتقييم مصالح الأطراف، وتحليل البيئة الدولية، والموارد المتاحة للأطراف المعنية في المواضيع الدولية، والتحليل المقارن لاستراتيجياتهم المشتركة. وقد تم تطوير هذه الأساليب البحثية وغيرها على الأراضي الأمريكية على مدى القرن العشرين؛ خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2005 كانت جائزة نوبل الوحيدة الممنوحة لمتخصص في الشؤون الدولية من نصيب الأمريكي توماس شيلينغ، مؤلف الأعمال العديدة حول التلاعب بالأزمات الدولية، والمؤلف المشارك لمفهوم الاحتواء.
تتطور أبحاث الاستشراف بشكل كبير في الولايات المتحدة بشكل خاص؛ حيث تم تطوير أربع مقاربات رئيسية للتقليل من نسبة عدم اليقين في المسائل الدولية:
المقاربة الأولى والأكثر شيوعاً، هي الحدس المنطقي؛ حيث يستعرض الباحثون الاتجاهات الملحوظة ويسقطونها على المستقبل، ويطرحون افتراضات منطقية حول كيفية تطورها على المدى القريب والمتوسط. وتصدر توقعات سنوية لتطور العلاقات الدولية عن مراكز أبحاث وتحليل تجارية معروفة؛ مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) التابع لمجموعة “يوراسيا إيان بريمر”، وشركة “ستراتفور” وشركة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”.
المجموعة الثانية من المقاربات تقوم على أساليب المحاكاة ووضع السيناريوهات، وقد تم تطويرها بشكل دقيق ومفصل؛ وهي تؤدي إلى نتائج مقنعة تماماً. ويقوم مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، بالاعتماد على هذه التقنيات، بإعداد تقارير دورية عن “الاتجاهات العالمية” تحتوي على توقعات متوسطة وبعيدة المدى للعلاقات الدولية. في منتصف الثمانينيات، قدم فريق البحث بقيادة المستشرف بيتر شوارتز تحليلاً لسيناريو تطور سوق الطاقة العالمية، استند أحد فروعه إلى احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي عام 2010 قدمت نفس المجموعة سيناريو حول جائحة عالمية لعدوى فيروسية، ووصفت عواقبها بشكل مقنع تماماً.
كذلك قدَّم كل من كليفورد غادي ومايكل أوهانلان، تحليلاً لسيناريو لمستقبل السياسة الروسية في مقالٍ بعنوان “نحو روسيا ريغانوف”؛ حيث استشرف المؤلفان أن أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو أن تنحو السياسة الروسية منحى النموذج الأمريكي في عهد الرئيس ريغان، وتوقعا أن تقوم روسيا بعددٍ من العمليات العسكرية المحدودة في الخارج، وأن تعتمد على القيم المحافظة، وتستثمر في الصناعة العسكرية الضخمة.
أما المجموعة الثالثة فتعتمد على الانتشار المتزايد للعمل في مجموعات؛ حيث يشترك عدد كبير من المتخصصين من مختلف مجالات الاستشراف في الإجابة عن سؤال محدد حول إمكانية حدوث أمر محدد في وقت محدد. ومن أبرز مَن يعتمد هذه المقاربة مجموعة “فيليب تيتلوك” التابعة لجامعة بنسلفانيا، التي تعمل على مشروع “الأحكام الصحيحة” منذ عام 1984.
وأخيراً، المقاربة الرابعة التي تقوم على استخدام أنظمة المعلومات واسعة النطاق، وأكبرها في الوقت الراهن هو مؤسسة “بالانتير” التي صممت في الأساس لتلبية احتياجات الجيش؛ ولكنها وسعت استخداماتها بحيث أصبحت تتعامل مع كميات هائلة من البيانات من مختلف المصادر.
وعلى الرغم من هذا التقدم الكبير في أساليب التحليل والاستشراف؛ فإن السياسة الخارجية الأمريكية لا تزال ترتكب أخطاءً جسيمة. فما الأسباب وراء ذلك، وكيف يمكن تفسيره؟
الجواب الأقصر الأسهل هو أن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على أن تقوم بحساباتٍ خاطئة قد تكون كارثية على أية دولة أخرى. تعتمد قيادة الولايات المتحدة على أربع ركائز رئيسية للقوة: هيمنة الدولار الأمريكي على التعاملات التجارية الدولية، والقوة العسكرية غير المسبوقة التي لا يمكن أن تتحداها سوى روسيا من خلال أسلحتها النووية، وأسلوب الحياة الجذاب، وسياسات الهجرة التي تجتذب الآلاف من أصحاب المواهب إلى البلاد كل عام، وأخيراً الاقتصاد المبتكر الذي يتيح للولايات المتحدة الحفاظ على ريادتها في التكنولوجيا، والمنظومات القتالية العسكرية.
وإذا لم تقوض أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية إحدى هذه الركائز، فإن الولايات المتحدة ستبقى قادرة على ارتكاب هذه الأخطاء دون أية عواقب بالنسبة إليها؛ فنجاح السياسة الخارجية الأمريكية لا يرتبط بالقرارات العقلانية الصحيحة، بل بالمحافظة على زمام المبادرة في الشؤون الدولية، والقدرة على الاستمرار بتنفيذ قراراتها من خلال استخدام القوة؛ مما يخلق مفارقة “صراع الحرية مع اللا حرية”.
في هذه الحالة لا تكون إنجازات المحللين الأمريكيين الكبيرة ضرورية؛ لأن الاحتفاظ بزمام المبادرة في العمليات السياسية لا يتطلب العقلانية، بل القدرة والتصميم على استخدام القوة. ونتيجة لذلك يُستبدل بمراكز الأبحاث التقليدية تدريجياً مراكز الأبحاث المؤيدة -مراكز الأبحاث المنخرطة في الدعاية- التي تسوق لبرنامجٍ سياسي معين، وتخلق إجماعاً حوله. ولا تتمثل مهمة هذه المراكز بوضع أفضل القراءات وأكثرها عقلانية؛ بل في تطوير السياسة الأكثر حيوية وتحفيزاً للمشاعر والعواطف وتعبئة للرأي العام. والولايات المتحدة قادرة على تحمل مثل هذا السلوك طالما بقيت الركائز الأربع لقيادتها للعالم سليمة.
المصدر: كيوبوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر