سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ميسا جيوسي
يشهد شهر ديسمبر 2022 ذكرى مرور خمسين عاما على العلاقات الصينية الأسترالية، علاقة أقل ما يمكن وصفها بأنها علاقة شائكة تتجاذبها معطيات كثيرة بين جغرافيا المكان، والتاريخ المكون للدولتين، مرورا بالتحديات الاقتصادية ومحاولة موازنتها والمخاوف الأمنية فى محيط متغير شديد الاضطراب. فالعالم اليوم يترك عقودا شهدها من أحادية القطبية تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرشها دون منازع نحو عالم متعدد القطبية ينهض فيه التنين الصينى ويزاحم على مكانة متقدمة فيه، مستندا إلى ثقله الاقتصادى الكبير الذى ترى كثير من التقديرات أنه سيفوق الاقتصاد الأمريكى فى العقود القليلة المقبلة. ولعل النظام العالمى المقبل قد لا يكون ثنائى القطبية بين الولايات المتحدة والصين على غرار مرحلة الحرب الباردة؛ لأن الصين قد لا تمتلك الأدوات التى مكنت أميركا من الانتشار وغزو العالم فكريا وثقافيا وغيرها من أدوات الدبلوماسية الثقافية التى كانت تعمل عليها أمريكا وما زالت فى كل أنحاء العالم. لكن على الأرجح يتجه النظام الدولي لشكل متعدد الأقطاب تلعب به تحالفات الدول الصاعدة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا وديموغرافيا دورا فاعلا ومحوريا، فقد اختلف العالم اليوم عما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة ودخلت فيه متغيرات جعلت دولا تصعد بقوة اقتصادية وشركات عابرة للقارات تغير فى مصائر الدول وتؤثر فى صناعات القرار، وفضاء افتراضي واسع شكَّل مجالا تنافسيا قويا لا يمكن إغفاله أبدا في المستقبل. وفى هذا العالم الذى نتجه نحوه لابد من إعادة رسم تحالفات الدول بشكل يضمن مصالحها ويعزز فرصها فى التنمية والاستدامة والتقدم، لا سيما فى وضع اقتصادى صعب على المستوى الدولى فيما بعد تفشى جائحة كوفيد 19 وما تلاها من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وفى الخلفية من ذلك كله تحديات قديمة متجددة منها الفقر والحرب على الإرهاب وأكثرها تعقيدا وشمولية فى أثره السلبى هى التغيرات المناخية التى لا مفر من تعاون الدول كافة على مكافحتها والحد من تبعاتها الكارثية على كوكب الأرض.
ومن المهم الإشارة إلى أن التحالفات الدولية هى ليست ثابتة وإنما متغيرة بتغير مصالح الدول والطبقات الحاكمة فيها بما يتماشى مع أمنها القومى ومصالحها الاقتصادية. فرأينا فرقاء الأمس أصدقاء اليوم، وشعوب واحدة تنفرط لعداوات لا أفق مبشر لحلها. لكن قد تعد التحالفات الدولية أكثر تعقيدا فى سياقات معينة تدخل بها الجغرافيا على خط التاريخ والمكون المجتمعى جاعلة المشهد أكثرتعقيدا. وهذا يندرج على ما سنوجزه فى هذا المقالحول العلاقاتالأسترالية- الصينية بين الجغرافيا والتاريخ فى عالم وإن امتد به تحالفها الغربى بشكل متجذر لكن فى الأفق من موقعها الجغرافى ومكونها الديموغرافى أيضا للصين ثقل لا يستهان به. سنعرض لقراءة لمجموعة من الأكاديميين والكتاب الأستراليين الذين طرحوا هذا التحدى ولا يزالون بشكل يحاولون من خلاله ضمان إعلاء مصالح أستراليا فوق التجاذبات الدولية بشكل عام والأمريكية الصينية على وجه التحديد.
يطرح الكثير من الباحثين في الشأن الأسترالي – الصيني سؤالا حول التحالف بين أميركا وأستراليا، هليعد تحالفا متبادل المصالح أم علاقة تحالف لا تأخذ مصالح أستراليا فيما يتعلق بتعاملها والصين محمل الجد؟ فما زالت أمريكا حتى يومنا هذا هى القوة العظمى وسيظل الحال على هذا حتى وقت لا يستطيع أحد التنبؤ به. وحتى إن صعدت الصين ودول أخرى لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية على سيادة عرش العالم هذا فلن يفقد أمريكا قوتها العظمى بين ليلة وضحاها. لذلك فإن الدول تحرص بشكل كبير على الإبقاء على علاقة طيبة معها تضمن مساندة أمريكا لها. لكن بعض الدول تذهب لأبعد من ذلك بأن تسير فى ظل القرارات الأمريكية بشكل قد يراه البعض مبالغا به، وهذا ينطبق على ما يراه الكثير من الأكاديميين الأستراليين فى علاقة بلادهم مع أمريكا التى لم تعد تراعي مصالح أستراليا في محيطها الجغرافى وتستمر على حساب تعزيز العلاقات مع الصين بشكل قد لا يكون في المصلحة الأسترالية فى المقام الأول. وفى العودة لجذور العلاقات الأسترالية الأميركية ترى الكاتبة “إيما شورتيز” في كتابها المعنون “Our exceptional friend“أى صديقنا الاستثنائى، أن أستراليا وجدت نفسها أسيرة اتفاقية ANZUSالتي هي اتفاقية أمن وقعت بين الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا ونيوزلنداعام 1951 وبناء على هذه الاتفاقية تتصرف كل حكومات أستراليا المتعاقبة منذ عقود، حيث ترى الكاتبة أن هذه الاتفاقية وإن كانت فى مصلحة أستراليا حينها، فهى قد لا تكون اليوم تفى بالغرض الذى وجدت من أجله منذ سبعة عقود. وترى الكاتبةأن الحكومات الأسترالية تقنع الشعب الأسترالى بأن أميركا ستكون موجودة فى كل وقت تحتاج به إليها أستراليا وبكلمات أدق “America will come to the rescue“وتفند الكاتبة خلال هذه الفرضية أن أستراليا بتبنيها هذا النهج تغض البصر عن عالم متغير صعدت بها قوى واندثرت أخرى وتبقى “تدور فى فلك هذه الاتفاقية”، وتمنع أستراليا من القيام بما يتوجب عليها من “واجب أخلاقى”، تجاه العالم وخاصة فيما يتعلق بقضايا كتغيرات المناخ. وتدعو الكاتبة أستراليا لإعادة تقييم معمقة لهذه العلاقة فيما إذا كانت أستراليا تتطلع للعب أدوار مختلفة من تلك التى تضطلع بها الآن على الساحة الدولية.
لكن هناك جذورا تاريخية تربط بين الشعب الأسترالي والأميركي على حد تعبير الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذى قال:”قليل من الشعوب حول العالم تشترك بروابط تاريخية وثقافية كتلك العلاقات الأمريكية الأسترالية”[1]، فهل يمكن تجاهل الإرث التاريخى الذى يربط بين أستراليا منذ النشأة كونها امتدادا للعالم الغربى والثقافة الغربية؟ بالتأكيد لا، لكن ما ينادى به الكثير من الأكاديميين الأستراليين هو نظرة أكثر موضوعية من قبل حكوماتهم المتعاقبة وسياساتها الخارجية التى لاتراعى حسب ما يرون تغير مكونات المجتمع الأسترالى داخليا وخريطة توازنات القوى والاقتصاد دوليا.
وهنا لابد من طرح سؤال مفاده بأن ما بين القواسم المشتركة والتهديد المشترك، هل هناك خط واضح فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأسترالية أم أن هناك من التشابك والتقاطع ما يجعل هذين المتغيرين يتناقضان ويتضاربان بين ما هو ممكن وما هو مفروض بحكم التاريخ المشترك بغض النظر عن تغيرات الحاضر وأفقالتغيرات المستقبلية الوشيكة. فما تتعامل معه أستراليا اليوم هو عالم مختلف تماما عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما كانت تشكله هواجس من مخاوف السيطرة عليها حين ذلك من قبل دول محيطة بها، وكان حينها التعاون الأمنى والعسكرى حتمية تفرضها المرحلة. لكن اليوم هناك تغيرات جيوسياسية وديموغرافية داخل أستراليا وفى محيطها يجعل من المهم إعادة النظر فى هذه التحالفات خاصة فيما يتعلق بالصين التى تتوج فى شهر ديسمبر من العام الجارى 50 عاما من العلاقات الدبلوماسية مع أستراليا.
يرى “كيفن هوبجود” الذى يعمل منذ ثلاثة عقود فى مجال العلاقات الصينية الأسترالية أن بلاده “بحاجة لسياسة خارجية أكثر استقلالية”، بل يذهب لأبعد من ذلك بالقول إن كانبرا تسير بشكل كبير فى ظل ما تراه واشنطن ويقول إن أستراليا ليست بحاجة للقيام بذلك، فأمريكا على حد تعبيره ستظل صديقة لنا حتى إن اختلفنا على بعض القضايا.
يرى الكثير أن أستراليا استفادت من العولمة، واعتمدت على الصين بما اتصل بالصناعات الكثيرة التى كانت مصدرا لتحسين حياة الأستراليين الذين منذ تسعينيات القرن وهم يحصلون على كل ما يستخدمونه بأسعار زهيدة نوعا ما من الصين. ويرى هؤلاء أن المغالاة فى استخدام العقوبات الاقتصادية على الصين لن تصب فى مصلحة أستراليا؛ حيث يقترح العديد من الخبراء والأكاديميين الأستراليين محاولة إيجاد توازن يراعى المحيط الجغرافى لأستراليا ومراعاة الجذور التاريخية التى تتصل بأستراليا التى لم تواجه قط فى محيطها الآسيوى دولة بحجم وقوة الصين كما نراها اليوم على حد تعبير بروفوسور “هيو وايت” حتى أميركا ذاتها لم تشهد تحديا منذ عقود بحجم التحدى الصينى على حد تعبيره. ويرى وايت أن “خطاب كانبرا ساعد فى الترويج لأسوأ المخرجات لأستراليا فى سيناريو الحرب، وتبنى وجهة نظر تشير بأن أستراليا فى خطر حتمية نشوب حرب بين الصين وأمريكا، وأصبحت الحكومات الأسترالية تعتقد أن أمريكا يجب أن تخوض حربا مع الصين إذا لزم الأمر للحفاظ على تفوق الولايات المتحدة فى آسيا، وأن أستراليا يجب أن تخوض حربا معها بطبيعة الحال”. وهذا ما يعارضه الكاتب ويرى أن المصلحة الأسترالية تستدعى التركيز بشكل كبير على ما يمكن استغلاله بهدف إيجاد نقاط مشتركة للعمل مع الصين التى هى لم تعد الصين ذاتهامنذ خمسة عقود أو أكثر، وأن محاولة التعامل فى ظل الإملاءات الأمريكية لن تعود بنفع على أستراليا. ويسوق الكاتب مثالا للحرب الروسية الأوكرانية وما جرته من ويلات على أوكرانيا والعالم، كما يتوقع أن تايوان إن تشعب النزاع عليها بين الصين وأمريكا فستواجه مصيرا شبيها بمصير أوكرانيا من ويلات الحرب والدمار.
فى كتابه المعنون “THE AVOIDABLE WAR“، أى الحرب التى يمكن تجنبها، يرى رئيس الوزراء الأسترالى السابق “كيفن رود” أن الحرب بين الصين والولايات المتحدة على أصعد كثيرة ملتهبة لأسباب قد يكون بالإمكان التعامل معها إن تمت معالجتها على أساس “المنافسة الإستراتيجية” وليس على أساس التصادم؛ لأنه يرى أن أى محاولة لفرض الهيمنة الأمريكية فى المحيط الصينى وتحديدا تايوان وغيرها من بؤر النزاع فى المنطقة ستقود العالم نحو صدام كارثى على حد تعبيره. لكن “هيو وايت” يرى بشكل واضح فى مقال له بعنوان “بلا أمريكا- أستراليا فى آسيا الجديدة”. أن أميركا هى الخاسر الوحيد فى أى محاولة نزاع مع الصين حول بحر الصين أو محاولة فرض الهيمنة المطلقة على شرق آسيا. لكننا حسب ما يرى لا نعلم كيف ومتى والآلية التى ستتطور بها هذه المواجهة؟ وماذا سيكون مصير المنطقة وأستراليا من ضمنها إن فشلت الدبلوماسية فى تلافى التصادم وقبول الصين كقوة صاعدة لها وزنها وقيمتها ليس فقط فى محيطها الجغرافى بل عالميا؟
اليوم وبعد مرور أشهر قليلة على وصول أنتونى ألبانيزإلى رئاسة الوزراء فى أستراليا يتفاءل العديد من دعاة نهج العلاقات الطيبة مع الصين لخطوات عدة اتخذتها الحكومة الجديدة. لعل أهمها هو عقد أول لقاء يجرى منذ عام 2016 جمع بين رئيس الوزراء الأسترالى والرئيس الصينى شى جن بنج على هامش قمة مجموعة العشرين فى بالى.طلب فيها ألبانيز من الرئيس الصينى رفع التعريفة الجمركية التى فرضتها الصين على استيراد منتجات أسترالية وصلت بمجملها إلى عشرين مليار دولار أسترالى. كما وعد ألبانيز فى تصريحات له بعد اللقاء أنه ستكون هناك لقاءات لاحقة تتم من خلالها مناقشة الموضوعات ذات الاهتمام المشترك للبلدين. كما أن هناك العديد من الموضوعات العالقة بين الطرفين التى لن يكون تركها تتراكم فى مصلحة أى منهما ولعلها قد لا تؤثر فى الصين تأثيرها فى أستراليا كما يرى العديد من مراقبى الشأن الصينى الأسترالي، فهل تستطيع أستراليا نهج سياسة خارجية تسير على خط رفيع بين ما كان وما هو قائم من مصالح؟ يبقى هذا السؤال رهين التغيرات المتسارعة التى يشهدها العالم.
المصدر: مجلة السياسة الدولية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر