مجلة “الاحتمالات الاقتصادية العالمية” (World Economic Outlook) تصف الوضع الحالي بأنه “الانحباس العظيم” أو (The Great Lockdown) في إشارة إلى “الكساد العظيم”(The Great Depression) الذي حدث في عام 1929.
اقتصاديون آخرون سموه “الإغلاق العظيم” (The Great Shutdown) لأنه حصل بأمر من الحكومات العالمية حفاظا على الأرواح وتجنبا لتكبد المزيد من الخسائر والأزمات الناتجة من ازدحام المستشفيات والمراكز الصحية بالمصابين.
لكن التراجع الاقتصادي الحالي قد يفوق الانحباسات والتراجعات والانكماشات في تأريخ البشرية من حيث حجمُ الخسائر التي قد يتكبدها الاقتصاد العالمي مستقبلا، لأن جائحة كورونا قد طالت كل بلدان العالم حتى الآن، وليس معلوما إن كانت ستنتهي قريبا، خصوصا في حال حصول طفرات فيروسية جديدة.
إنها دون شك أعظم كارثة اقتصادية منذ الكساد العظيم، بل ربما تتجاوزه من حيث الأضرار التي تلحقها بالبشرية، اقتصاديا وإنسانيا واجتماعيا، إن بقي الوضع على ما هو عليه حاليا لفترة أطول، دون أن يجد العلماء حلولا تتعلق بطرق الفحص والتشخيص والعلاج واللقاح. جامعة أوكسفورد البريطانية أوجدت لقاحا وجربته على عدد من المتطوعين ومازال العالم ينتظر النتائج وإن كان مناسبا وناجعا كي يمكن تصنيعه تجاريا.
القلق الأعظم في كل هذه المسألة هو التخبط العالمي أزاء وباء كورونا واحتمالاته السلبية. صندوق النقد الدولي، مثلا، كان قد تنبأ في يناير الماضي بأن العالم سيشهد نموا اقتصاديا حثيثا، بينما كانت جائحة كورونا حينها تجتاح الصين! لكن الصندوق أنحى باللائمة في فشله هذا على عجز الصينيين عن إخبار العالم بالكارثة التي حصلت في ووهان. أما قادة العالم الآخرون، فقد تخبط معظمهم في كيفية التعامل مع هذه الجائحة، ربما لأن الفيروس جديد وخطير.
في بريطانيا مثلا، تأخرت الحكومة كثيرا في تطبيق الإجراءات الصحية الوقائية، حتى أن رئيس الوزراء استهان به حتى وقع ضحية له، وقد نتج عن هذا التأخر زيادة في عدد الإصابات والوفيات، ما استدعى فترة طويلة ومربكة اقتصاديا من الحجر الصحي كي تتمكن البلاد من كسر حلقة عدوى الفيروس، وما زالت الإجراءات الاستثنائية قائمة. الولايات المتحدة هي الأخرى تجاهلت الأخطار ابتداءً، بسبب خشية المسؤولين من الاضرار الاقتصادية للحجر الصحي في سنة انتخابية يأمل فيها الرئيس أن يُعاد انتخابه بناءً على (نجاحاته الاقتصادية)! لكنها رضخت للأمر الواقع لاحقا، وتكبدت خسائر بشرية فاقت كل التوقعات، وحتى الآن يحاول طاقم الرئيس أن يعيد النشاط الاقتصادي إلى مجراه الطبيعي، تحت ضغوط الطموحات الانتخابية، لكن خبراء الصحة والتكنوقراط الإداريين بشكل عام، حذروا من عواقب مغادرة الحجر الصحي قبل كسر حلقة عدوى الفيروس، لأن أي عودة مبكرة سوف تكلف العالم غاليا، في الخسائر البشرية والاقتصادية على حد سواء.
ولكن ما الذي على قادة العالم أن يفعلوه لمواجهة هذه الكارثة المفاجئة؟ يتنبأ صندوق النقد الدولي بأن انتاج الفرد العالمي سوف ينكمش هذا العام بمعدل 4.2%، وهذا يفوق ضعفي معدل الانكماش الذي حصل في عام 2009 البالغ 1.6%، علما بأن ذلك العام كان الوحيد في القرن الحادي والعشرين الذي انكمش فيه النمو الاقتصادي العالمي بسبب الازمة المالية العالمية. لكن النمو الاقتصادي الصيني المرتفع حينها ساعد في التخفيف من آثارها. وعلى الرغم من أن صدقية الصندوق اهتزت بسبب فشله في تنبؤ الانكماش الاقتصادي الحالي، فإن الصندوق عاد وتنبأ بأن 92% من بلدان العالم سوف تشهد نموا اقتصاديا سلبيا هذا العام، مقارنة مع 62% عام 2009.
كما تنبأ الصندوق بأن تراجعا في النمو الاقتصادي يبلغ 12% من الناتج المحلي الإجمالي سيحصل في البلدان الصناعية بين الربع الأخير من عام 2019 والربع الثاني من 2020، يقابله تراجعٌ اقتصادي في البلدان النامية يقدر بـ %5.
أما في الربع الثالث من عام 2020 فإن النمو الاقتصادي سيصل إلى أدنى مراحله، ليبدأ بعدها بالانتعاش، لكن الإنتاج في الاقتصادات المتقدمة سيبقى دون المستوى الذي بلغه في الربع الأخير من عام 2019، ولن يتجاوزه حتى عام 2022. ويتنبأ الصندوق بانكماش اقتصادي عالمي في عام 2020 قدره 3% يتبعه توسع بمعدل يقترب من الضعف (5.8%) في عام 2021. لكن التراجع الاقتصادي في البلدان الصناعية سوف يفوق 6%، بينما النمو اللاحق في هذه البلدان لن يتجاوز 4.5%. النمو الاقتصادي في السنوات اللاحقة سوف يُستَهلَك في تعديل آثار الانكماش الذي حصل خلال سني كورونا، ما يعني أن الاقتصاد العالمي لن يتحسن بشكل حقيقي لبضع سنوات مقبلة.
لكن كل هذه التوقعات قد تكون مفرطة في التفاؤل في حال وقوع مفاجئات، سواء صحية او اقتصادية، وصندوق النقد في الحقيقة لم يهمل مثل هذه الاحتمالات، بل وضع لها توقعات، فإن بقي الحجر الصحي لفترة أطول، فإنه سيفاقِم الانكماش الاقتصادي بمعدلٍ إضافي قدره 3% عن التنبؤات السابقة. لكن الخطر الأكبر الذي يتهدد الاقتصاد العالمي هو بالتأكيد بقاء الحجر الصحي الحالي لفترة أطول، وإذا ما صاحب ذلك عودة الفيروس عام 2021 بعد عودة النشاط الاقتصادي العالمي إلى وضعه الطبيعي، فإن الكارثة الاقتصادية ستكون أعظم.
وفي هذه الحال، ستضطر الحكومات في الدول الصناعية إلى تحفيز الاقتصاد عبر زيادة الانفاق الحكومي بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا سيتسبب في رفع الدَيْن الحكومي في 2021 بنسبة 20% فوق مستوى التوقعات السلبية الحالية. المشكلة سوف تتفاقم أكثر إن حصلت طفرات خطيرة في الفيروس، لأنها تُلغي، أو على الأقل تُضعِف، “مناعة القطيع” المكتسبة سابقا، باعتبار أن الفيروسات المستجدة ستختلف في تكوينها عن الفيروس السابق (كوفيد 19). والمشكلة الأكبر ستقع إن لم يتوصل العالم إلى تصنيع لقاح ناجع للفيروس، وهذا سيكون صعبا في حال حصول طفرات فيروسية تؤدي إلى نشوء فيروسات جديدة تستدعي لقاحات خاصة بها، كما هي حال فيروسات الإنفلونزا.
قد يتضمن الحل لمواجهة الجائحة عدم مغادرة الحجر الصحي كليا، حتى لو تقلص عدد الإصابات الجديدة وانعدمت الوفيات ولكن هذا الحل سيكون بكلفة اقتصادية باهظة. من ناحية أخرى، لا يمكن العالم أن يعود إلى العمل المعتاد ويطمئن إلى المستقبل دون أن تكون هناك إجراءات فحص متقنة يمكنها تشخيص الإصابات بشكل يَقْرُب من اليقين، ولقاح يقي الناس من خطر الفيروس بشكل مؤكد، بالإضافة إلى دواء ناجع لمعالجة المصابين. وفي كل الأحوال، يجب أن يستعد العالم لإجراءات فحص ومتابعة وحجر وعزل وعلاج ناجعة مطولة من أجل مواجهة الفيروس والقضاء عليه كليا.
إن أي تهاون أو تساهل في تنسيق الجهود الدولية والتعاون العالمي لمكافحة هذا الفيروس سيعني أن عددا أكبر من الناس سوف يصابون بالمرض وكثيرون منهم ربما يموتون للأسف. ويدخل ضمن هذه الجهود تقديم المساعدات الاقتصادية والصحية للدول النامية كي تتمكن من مكافحة الفيروس والانتصار عليه، إذ يجب أن تتضافر الجهود الدولية في هذا المجال، فلا فائدة من تكثيفها في الدول الغربية إن بقيت الدول النامية عرضة للإصابة بالفيروس، لأن العدوى سوف تنتقل بسهولة، فهذه جائحة عالمية وليست مشكلة متعلقة ببلد معين أو منطقة معينة.
من الضروري أن يقدم صندوق النقد الدولي تعزيزا لميزانيات الدول النامية من صندوق (حقوق السحب الخاصة-SDR) الذي أنشئ عام 1969 للاستخدام في مثل هذه الأزمات، وقد استعان الصندوق بهذه الأصول المالية لمساعدة الدول المتضررة من الأزمة المالية العالمية عام 2009. والصندوق يستخدم وحدة نقد خاصة به تسمي (SDR) وهي تعتمد على خمس عملات عالمية هي الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني والرنمينبي الصيني والين الياباني. وكان الصندوق قد قدم للدول الأعضاء تعزيزا ماليا عام 2009 بلغ (182.6 أس دي آر)، أو ما يعادل 250 مليار دولار.
لن تتمكن البشرية من السيطرة على هذا الفيروس إن لم تتعاون كل دول العالم والمؤسسات والجامعات ومراكز الأبحاث والشركات العابرة للقارات بقوة في مجال الصحة وتبادل الخبرات والمعدات الصحية والأدوية التي يجب ألا تخضع لأي قرارات سياسية، بل يجب أن يكون انتقالُها بحرية تامة، حتى إلى البلدان التي تتعرض لعقوبات أمريكية أو دولية. إن حصل كساد اقتصادي كالذي عاناه العالم أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات، فإن الانتعاش لن يكون سهلا، بل سيتطلب وقتاً وإجراءاتٍ استثنائية.