سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
خورشيد دلي
لم يكن قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الاعتراف بالإبادة الأرمينية من الفراغ، بل جاء بعد سنوات طويلة من الجدل في أمريكا بهذا الخصوص.
وعليه، شكل قراره لحظة سياسية وتاريخية فارقة، انتصرت فيها الأخلاق والمبادئ الإنسانية على المصالح في العلاقات بين الدول، وهي من اللحظات النادرة التي ترسم العلاقات بين الدول لطالما أن القاعدة الأساسية في السياسة تقول إن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح أولا وأخيراً.
القرار الأمريكي جاء بعد قرارات مماثلة من عشرات الدول والبرلمانات والمنظمات الدولية، بما يعني أن سياسة إنكار جريمة الإبادة فشلت، وأن الاعتراف الدولي بالإبادة سيشكل حصاراً سياسياً وأخلاقياً لتركيا، خاصة أن محاولاتها لتبرير الجريمة من خلال القول إنها وقعت في سياق أعمال القتل خلال فترة الحرب العالمية الأولى بسبب خيانة الأرمن للدولة العثمانية تفتقر إلى المنطق والدقة. وعليه، فإن السؤال الجوهري الذي يطرحه الجميع، هو متى ستعترف تركيا بالإبادة الأرمينية؟
في الواقع، ثمة أسباب جوهرية كثيرة تقف وراء الامتناع التركي عن الاعتراف بالإبادة الأرمينية حتى الآن، لعل أهمها:
1- التعويض: تقدر التقارير التي صدرت بهذا الخصوص حجم التعويض الذي سيترتب على تركيا دفعه في حال إقرارها بجريمة الإبادة ما بين 50 ملياراً إلى 105 مليارات دولار، وسبب اختلاف الرقم على هذا النحو، له علاقة إضافة إلى الخسائر البشرية بأموال الأرمن وممتلكاتهم التي صودرت خلال تلك الفترة، فبقرار من السلطات الاتحادية العليا وقتها صودرت أموال الأرمن وودائعهم المالية وممتلكاتهم بما في ذلك قصر تشانقايا الرئاسي، قبل أن يبني أردوغان القصر الرئاسي الجديد الذي سمّاه القصر الأبيض.
2- إن الاعتراف بالإبادة يفتح الباب أمام إعادة الممتلكات الأرمينية، وهذا خط أحمر بالنسبة إلى تركيا يمسّ سيادتها على أراضيها، فالمسألة هنا، تتجاوز التعويض المالي أو حتى ترميم بعض الكنائس الأرمينية والاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية، وتصل إلى المطالبة بالأراضي التي تُعرف بأرمينيا الغربية “داخل تركيا الحالية”، حيث جبل أرارات الذي يعد رمزاً وطنياً للأرمن، ولعل هذا ما يدفع القادة الأتراك إلى القول مراراً إن الغرب يريد تكرار اتفاقية “سيفر” التي أقرت بإقامة كيانين أرميني وكردي قابلين للتحول إلى دولتين في المناطق الواقعة جنوب تركيا وشرقها.
3- إن الاعتراف بالإبادة الأرمينية هو بمثابة إدانة للقادة الأتراك الذين أسسوا الدولة التركية الحالية، ويحتلون مكانة قومية كبيرة في وجدان الأتراك وأحزابهم على اختلاف مشاربها القومية والدينية واليسارية، فهؤلاء القادة هم من كانوا وراء الأوامر التي صدرت بعمليات اعتقال الأرمن وتجميعهم وقتلهم أو ترحيلهم، وإدانة هؤلاء هي بمثابة إدانة لتاريخ الدولة التركية وضرب للأسس القومية والوطنية التي أنشئت عليها، والتي تتلخص بتجميد العرق التركي مقابل إنكار باقي الهويات القومية داخل تركيا.
4 – التداعيات القانونية والدستورية، فمثلاً الفقرة 301 من القانون التركي الذي تم تمريره عام 2005 تجرم أي شكل من أشكال الوصف أو الاعتراف بالإبادة الأرمينية، وكل من يقر بهذا الوصف معرض للسجن لمدة 15 سنة وفق هذا القانون، وهذا يعني أن الاعتراف بالإبادة يتطلب تغيير القانون التركي، ويضاف إلى ما سبق الجوانب الأخلاقية والقانونية والإنسانية التي ستكون وصمة عار في التاريخ التركي.
هذه الأسباب وغيرها هي التي تقف وراء امتناع تركيا عن الاعتراف بالإبادة الأرمينية، ومحاولة التهرب منها، والتقليل من أعداد الضحايا، وذلك بالقول إنهم لا يتجاوزون 300 ألف أرميني ومثلهم تقريباً من الأتراك، في حين يقول الأرمن إن عدد الضحايا بلغ مليوناً ونصف مليون أرميني، في حين تقدر بعض التقارير عددهم بمليون و300 ألف، لكن ينبغي القول هنا إن تفاوت أرقام الضحايا لا يؤثر في جوهر القضية، أي وقوع جريمة الإبادة.
في الواقع، قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالإبادة الأرمينية، يؤكد فشل سياسة إنكارها، وأنها سياسة لم تعد في مصلحة تركيا نفسها بعد اليوم كما يرى كثيرون، وذلك للأسباب الآتية:
1- ازدياد عدد الدول والبرلمانات والمنظمات الدولية المختلفة التي تعترف بالإبادة الأرمينية، ما يشكل ضغطاً قانونياً وسياسياً ودبلوماسياً على تركيا، علماً بأن سياسة التهديد بسحب السفراء الأتراك من الدول التي تعترف بالإبادة الأرمينية لم تعد تجدي نفعاً.
2- إن المصالحة مع أرمينيا وإيجاد تسوية نهائية للصراع على إقليم قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان حليفة تركيا يمران عبر شكل من أشكال الاعتراف بالإبادة الأرمينية.
3- إن تحرر تركيا من أسر التاريخ هو بالمصالحة مع هذا التاريخ كما يقول الصحفي التركي الشهير علي بيرم أوغلو الذي كتب مع صديقه جنكيز أكتار عام 2015 بمناسبة مرور ذكرى 100 عام على الإبادة نص حملة الاعتذار للأرمن، التي وقع عليها أكثر من 30 ألف شخص معظمهم من المثقفين والناشطين والحقوقيين.
الثابت في قضية الاعتراف بالإبادة الأرمينية، هو أن الأرمن نجحوا في إبقاء قضية الإبادة حية، رغم محاولة تركيا محو الذاكرة الأرمينية، ودفع ملايين الدولارات لأشخاص ومؤسسات في الدول الغربية لمنع اعتراف هذه الدول بجريمة الإبادة، والثابت أيضا أن اللوبي الأرميني في الخارج نجح في نقل قضية الإبادة الأرمينية إلى المحافل الدولية وجعلها حاضرة في نقاشات برلمانات معظم دول العالم ودفع العديد منها إلى إقرارها، ولعل ما يؤكد خطأ الرؤية التركية هنا، هو أن معظم الدول التي اعترفت بالإبادة الأرمينية حتى الآن تعدها تركيا حليفة لها أو تجمعها معها عضوية مشتركة، لا سيما في الحلف الأطلسي.
قرار بايدن الاعتراف بالإبادة الأرمينية فتح الباب أمام مسألتين مهمتين:
الأولى: عدم تحميل تركيا الحالية مسؤولية الإبادة التي ارتكبت في عهد الدولة العثمانية، ويشكل هذا الأمر الجانب البراجماتي في القرار الأمريكي، والهدف منه استيعاب الحرب الكلامية التركية رداً على قرار بايدن.
الثانية: التأكيد على الالتزام بمنع حدوث أحداث مشابهة في المستقبل كما قال بايدن، وهو الأمر نفسه الذي أشارت إليه رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي عندما تطرقت إلى ما تفعله تركيا حالياً ضد الأكراد، كل ذلك في إطار تعزيز سياسة الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية والهويات الثقافية.
أمام هذه المعطيات والتطورات، ثمة من يرى أنه بات من مصلحة تركيا الاعتراف بالإبادة الأرمينية، وأن هذا الاعتراف بات الطريق إلى التقدم والمستقبل، وهؤلاء يستشهدون بما فعلته ألمانيا عندما تبرأت من النازية وجرمتها، ولكن المشكلة كل المشكلة في الحالة التركية أن أردوغان الذي يفتخر بتراث أجداده، يعمل على خطاهم لإعادة إحياء المشروع العثماني في المنطقة، وأن تراث الدولة العثمانية يقوم على كم هائل من المجازر، بدءاً من تلك التي ارتكبت ضد المماليك في مصر، مروراً بما جرى في جدة بالسعودية، وصولاً إلى مجازر الأرمن والسريان والآشوريين، وحديثاً ما جرى ويجري ضد الأكراد في عفرين وغيرها، وهو ما قد يدفع بأردوغان المعروف بتعنته إلى المزيد من التصلب ولعب كل أوراقه أمام عاصفة الاعتراف العالمي بجريمة الإبادة الأرمينية، مع أن قرار الرئيس الأمريكي دفع بأصوات في الداخل التركي وحتى من داخل البرلمان إلى رفع الصوت والمطالبة بالاعتراف بالإبادة الأرمينية، إنصافاً للضحايا، ومصالحة مع التاريخ، وطريقاً للمستقبل.
المصدر: العين الإخبارية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر