سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
وينطلق واضعو مفهوم ” المناعة الجماعية” من مبدأ أنه كلما انتشر فيروس متسبب في هذا الوباء أو ذاك بسرعة لدى السكان، سمح ذلك للأشخاص المصابين بصوغ مضادات مناعية تقاوم الفيروس وتحد من توسعه. وتفيد بعض النماذج الرياضية حول فيروس كوفيد-19 أن نسبة عدواه تنتشر بمعدل مرتين اثنين ونصف عما هي عليه لدى العينة المصابة. بمعنى آخر بإمكان ألف شخص مصابين بالفيروس نقل عدواه إلى قرابة 2500 شخص آخرين. وفي حال عدم التحرك للحد من انتشار العدوى فإنها سرعان ما ترتفع إلى نسبة تصبح كفيلة بخفض نسبة انتقال الفيروس. فإذا انتشر الفيروس لدى نصف السكان، انخفض معدل نقل العدوى من شخص إلى أشخاص آخرين بفضل المناعة الجماعية التي يكتسبها السكان للحد من انتشار الفيروس إلى حدود 1,24 أي أن الشخص المصاب قادر على نقل عدوى الوباء إلى أقل من شخصين آخرين. وإذا ارتفعت نسبة السكان المصابين إلى 60 في المائة، ينخفض هذا المعدل إلى شخص واحد أي أن الشخص المصاب لا يستطيع أن ينقله إلى أكثر من شخص آخر.
تجارب أوروبية
أما البلدان الأوروبية الثلاثة التي ركزت استراتيجية التصدي لوباء كوفيد 19 على سلاح ” المناعة الجماعية ” فهي المملكة المتحدة وهولندا والسويد. ولكن السلطات البريطانية تراجعت عن هذه الاستراتيجية بعد أن اتضح لديها أن عدم التحرك بما فيه الكفاية في انتظار إصابة أكثر من نصف السكان بالفيروس من شأنه أن يقضي على 250 ألف شخص على الأقل وأن يعطل نشاط المؤسسات الصحية في البلاد في حال ارتفاع نسبة الإصابات الخطيرة بشكل خاص. وهذا ما جعل رئيس الوزراء البريطاني يقرر فرض الحجر الجماعي لمدة ثلاثة أسابيع على الأقل.
أما هولندا فقد سعت السلطات فيها منذ بداية الأزمة إلى استخدام منهجية تقوم هي الأخرى على قدرة المواطنين أنفسهم على السيطرة على الوباء من خلال مبدأ ” المناعة الجماعية” من خلال عدم فرض حجر شامل والتعويل على المواطنين عبر توجيهات غير ملزمة في مجال الانضباط بالتعليمات الحكومية. وفي 30 مارس 2020، أعربت الحكومة الهولندية عن فخرها بـما وصفته ” الديموقراطية الراشدة” في إشارة إلى إقدام المواطنين على تغيير سلوكياتهم من تلقاء أنفسهم لا عبر إجراءات مفروضة. وصحيح أن عمليات استطلاع الرأي لاحظت أن غالبية الهولنديين أصبحوا يتحاشون الأماكن العامة ووسائل النقل العام للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد. ومع ذلك فإن المراقبين المهتمين بطريقة تعامل هولندا مع وباء كورونا يؤكدون أن هناك إجراءات ملزمة اتخذتها الحكومة الهولندية للحيلولة دون تفشي الوباء بسرعة في البلاد منها مثلا إغلاق الجامعات والمدارس والمطاعم والتجمعات التي تتجاوز ثلاثة أشخاص شريكة أن تكون المسافة الفاصلة بين الأشخاص مترا ونصف المتر.
وتظل التجربة السويدية المتصلة بالتعامل مع وباء كورونا من خلال الاستثمار غير المباشر في مبدا ” المناعة الجماعية” أهم التجارب التي يضرب بها المثل في العالم في السعي إلى تطبيقها من قبل سلطات هذا البلد. فكثير من المحلات التجارية المتخصصة في بيع مواد غير أساسية ظلت مفتوحة على غرار مطاعم ومقاه كثيرة. وباستثناء إغلاق الجامعات والمدارس، فإن سلطات البلاد عولت كثيرا على روح المسؤولية عند المواطنين لمواجهة البواء. وبالرغم من أن جزءا مهما من المجتمع السويدي يرى أن هذه المنهجية مفيدة في التصدي للوباء عبر ” المناعة الجماعية” ومن خلال تنشيط الدورة الاقتصادية، فإن أفراد الطواقم الطبية غير راضين تماما عنها ويرون أنها ستؤدي إلى كارثة لعدة أسباب منها أن هذا عدد الوفيات الناتجة عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد تتجاوز بعشر مرات ما هو عليه الأمر بالنسبة إلى النرويج الذي يبلغ عدد سكانه نصف سكان السويد البالغ عددهم عشرة ملايين وثلاث مائة ألف ساكن علما أن النرويج هو أحد البلدان الإسكندنافية التي فرضت حجرا جماعيا ملزما على السكان.
ويُذَكِّر المسؤولون السويديون عن القطاع الصحي بأن عدم التحرك لفرض إجراءات ملزمة للحد من فيروس كورونا المستجد يوشك أن يفاقم مشكلة عدم قدرة المستشفيات السويدية على إيواء المصابين بحالات خطرة خاصة وأن هذا البلد يُعَد الأضعف على مستوى أوروبا في توفير الأسِرَّة الكافية في المستشفيات حسب دراسة مشرتها منظمة التجارة والتعاون الاقتصادي عام 2018. وقبل عيد الفصح ألمح ملك البلاد كارل السادس عشر إلى ذلك من خلال دعوة الناس إلى البقاء في منازلهم وتحاشي زيارة الكنائس وأهلهم تجنبا لفيروس كورونا. والملاحظ أن الملك الذي يبلغ من العمر الرابعة والسبعين يعتكف مع الملكة سيلفيا التي هي في الخامسة والسبعين في أحد القصور الواقعة جنوب العاصمة ستوكهولم.
حدود سلاح ” المناعة الجماعية”
ويرى كثير من خبراء الصحة أنه من المبكر تقويم تجارب استخدام ” المناعة الجماعية” في العالم ولاسيما في السويد كطريقة للتصدي لوباء كورونا الحالي. ومع ذلك فإنهم يجمعون على أنها تطرح عدة مشاكل يمكن تلخيصها في أربع نقاط هي التالية:
-أولا: أن اعتماد هذه المنهجية يعرض حياة كثير من الناس إلى موت محقق طالما أن جدوى ” المناعة الجماعية” غير مضمونة إذا لم يُصب الفيروس أكثر من نصف السكان على الأقل.
-ثانيا: أنه ليس ثمة أي بلد في العالم بما في ذلك البلدان الصناعية المتقدمة يملك مستشفيات قادرة على استيعاب أعداد مكثفة ومتزايدة من المصابين بالوباء للعناية بهم كما ينبغي نظرا لقلة المعدات الضرورية.
-ثالثا: أنه ليس ثمة اليوم أي علاج قادر مائة في المائة على احتواء الوباء في انتظار التوصل إلى لقاح.
-رابعا: أن هناك ضبابية كبيرة بشأن عدة جوانب متعلقة بالفيروس وقدرته على التحول وعما إذا كان الذي لديه مناعة فردية أو جماعية ضد الفيروس قادر على الحفاظ عليها لفترة طويلة.