سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
حبيب الشمري
المعلومات الخطيرة والحساسة و”المفصلية” التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” عن قضية الفساد الكبرى التي تورط فيها سعد الجبري، كانت من الضخامة والمباشرة، التي لا تحتاج معها لأي مقدمات. المجتمع السعودي بأكمله اطلع على أدق تفاصيلها، وما زال مصدومًا من حجم الفساد، وطبيعة المتورطين، وشكل الثقة التي منحت لهم، وخطورة العمل الذي كانوا يقومون به، وارتباط ذلك بأمن الوطن.
الحديث عن الجبري – بشكل مثير للريبة – ظهر لأول مرة قبل سنوات في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال تغريدات تتهمه بالفساد، ثم رصدت بعض الشكاوى ضده (وبعضها موثقة بالصوت والصورة)، من بعض العاملين معه. اللافت والمثير للاستغراب أن تلك الأصوات لم تكن قادرة على اختراق “جدار الصوت” لتأخذ دورها في التحقيق، والمحاسبة، والملاحقة، فضلاً عن الرد والتوضيح كما يحدث في بقية الجهاز الحكومي.
ومنذ العام الماضي، تسربت بعض المعلومات في الصحافة الغربية التي تحاول تبرئة الجبري، وإسباغ صفة المعارضة عليه، والادعاء أن الملاحقة تتم لأنه يملك معلومات حساسة عن الدولة، وأن هذه المعلومات تمثل خطورة على الدولة. وبالطبع هذا طرح (مشبوه)، وله مآرب خبيثة، فهدفه استباق الملاحقة وتصويرها على أنها غير قانونية، ولكسب التعاطف الدولي. ومعروف أن من يروج مثل الأخبار بعض الأطراف الغربية التي تعمل ضد مصالح المملكة، وتروج من خلال إعلام عدائي إقليمي معروف.
ويمكن الرد على هذه الفرية ببساطة متناهية، وهي أن الاطلاع على معلومات “وأسرار” بحكم الوظيفة، في كل دول العالم لا يمكن أن يفسر خارج إطاره، بل إنه يدين صاحبه ولا يبرئه في حال إفشائه أو استخدامه لغير غرضه الأساسي، وفي المملكة تحديدًا هناك آلاف من الموظفين المتقاعدين ممن اطلعوا بحكم موقعهم الوظيفي على معلومات حساسة، لم تتم ملاحقتهم أو اتهامهم.
الرد على الفرية الأخرى، التي تشير إلى وجود مخاوف من خطورة هذه المعلومات على المملكة، بسيط جدًا، ويتمثل في معرفة حجم التغيير الجذري الذي أحدثته القيادة منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، مقاليد الحكم، وتسنم ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، مسؤوليته في إدارة الدولة وتجديد دمائها، وإعادة هيكلة القطاع الحكومي كاملاً بما فيه القطاعات الأمنية والعسكرية والاستخبارية. وبالتالي، فإنه حتى معرفة بعض الأسرار “الوظيفية” بات أمرًا من الماضي، في ظل هذا التجديد والتغيير الشامل. وهذا يثبت أن الملاحقة تتم بالفعل لارتكابه جريمة الفساد المالي، ولذلك تتم ملاحقته دوليًا عبر الإنتربول.
السؤال المهم، ما الذي تغير في إجراءات الدولة ليحدث هذا “الكشف المزلزل” وتحصل الجهة المختصة على كل هذه المعلومات، وتستطيع تفكيك كل هذه الشبكة المعقدة؟
المتابع لمثل هذه الملفات يلحظ ثلاثة تغييرات جوهرية أجراها الملك سلمان، وبمتابعة ولي عهده، في المنظومة التنفيذية والأمنية للدولة، ساهمت – برأيي – في وضع اليد عليه بأدق تفاصيله، والعمل على معالجته بما يكفل المصالح العليا للوطن.
أول هذه التغييرات كان تأسيس النيابة العامة بمفهومها الجديد، والذي تمَّ من خلال تعديل مسمى هيئة التحقيق والادعاء العام، وربطها بالملك مباشرة، ومنحها الصلاحية الكاملة لإعادة ضبط الأمور. حدث ذلك في يونيو 2017، بأمر ملكي، مع ما تبع ذلك من إعادة هيكلة هذا الجهاز، وضخ مزيد من الدماء الجديدة فيه، بحيث تحرر من كل “الضغوط”، وبدأ بممارسة أعماله بما يحفظ حق الدولة والمجتمع في مختلف القضايا، خاصة مثل هذه القضية الخطيرة. وهكذا تحولت النيابة كرأس حربة في تحريك الدعاوي على المتورطين، ومتابعتها، وجمع خيوطها، والعمل على جلبهم من الخارج وفق الأنظمة الدولية.
التغيير الجوهري الثاني كان إنشاء جهاز أمن الدولة، وربطه بمجلس الوزراء مباشرة، وحدث ذلك بأمر ملكي في يوليو 2017، مع ما ترتب عليه من جمع شتات مؤسسات مختلفة، هي: المديرية العامة للمباحث، وقوات الأمن الخاصة، وقوات الطوارئ الخاصة، وطيران الأمن. وهذا القرار، فضلاً عن كونه أسس جهازًا جديدًا بأهداف مختلفة وشاملة، فقد حرر الإرث الذي حمله من “التبعية”، وجعله ينظر بشكل أشمل بحكم توسيع الصلاحيات، ومستوى الارتباط الإداري ممثلاً في مجلس الوزراء.
التغيير الثالث، هو التحول الكبير في عمل هيئة مكافحة الفساد، من خلال القرار التاريخي بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد السعودي لمكافحة الفساد، وما ترتب على ذلك من فتح ملفات شائكة لم تكن الهيئة بشكلها القديم قادرة على فتحها، ثم إعادة الهيكلة الذي صدر بأمر ملكي في ديسمبر 2019 بضم هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ليكون اسمها “هيئة الرقابة ومكافحة الفساد”، وهو ما أعطاها صلاحية الرقابة والملاحقة والضبط، من خلال إنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي تختص بالتحقيق الجنائي في القضايا الجنائية المتعلقة بالفساد المالي والإداري، والادعاء فيها.
نخلص هذه القضية الخطيرة، وبهذه التداعيات الحساسة، أهمية و”نجاعة” الإصلاحات الجديدة في بنية الدولة بما فيها القرارات الثلاثة السابقة، وهو ما يجب أن يعطينا مزيدًا من الثقة بمثل هذه القرارات، التي ثبت عاجلاً قدرتها على حماية المصالح العليا للدولة، وحماية المال العام، وذلك للارتباط العضوي بين الفساد المالي والاختراقات الحزبية والأمنية.
كما أن هذه (الحالة الخطيرة) تكشف لنا الأثر الكارثي لغياب الحوكمة سابقًا، خاصة في مفاصل مهمة في منظومة الدولة، وأهمية تعزيز هذه الحوكمة وحمايتها وصيانتها، وضمان عدم سيطرة جهاز على آخر بأي حال من الأحوال، للتصدي لأي مخاطر محتملة. كما تكشف ضرورة وجود صحافة جريئة، متحررة من التبعية لأجهزة تنفيذية، وتعتمد على المعلومات الموثقة، والطرح الرصين الواعي، وتستند إلى جدار الوطن واستقراره ووحدته وسلمه الاجتماعي.. وقيادته.
كاتب وصحفي سعودي*
@habeebalshammry
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر