سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
فرانسيسكو دي سانتيبانيس
شهدت البرازيل، الشهر الماضي، انتخابات فاز فيها “جايير بولسونارو”، وهي النتيجة التي من شأنها أن تفتح سيناريو سياسيًا واقتصاديًا جديدًا، ليس فقط للبرازيل، لكن للأرجنتين أيضًا. فالولايات المتحدة باتت مطالبة بأن تأخذ في الاعتبار آثار وتداعيات التغيرات التي تشهدها القوتان الرئيستان في أميركا الجنوبية على السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالمنطقة.
فعلى الصعيد الدبلوماسي، تضمن البرنامج الانتخابي لـ”بولسونارو” تشكيل تحالف مع الولايات المتحدة، وهو ما ينطوي على إشارة مستقبلية ينبغي أن يُنظر لها باعتبارها مبدأ أساسيًا؛ ذلك أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، و”بولسونارو”، يشتركان في أفكار مماثلة، وتدعمهما مجموعات مماثلة أيضًا؛ وهو ما من شأنه أن يهدف إلى مساعدة البرازيل على استعادة القيادة الإقليمية والدولية التي كانت عليها في السابق. وفي الواقع، فإن هناك العديد من الصراعات التي كانت قائمة بين حكومة الرئيس السابق “لولا دا سيلفا” وواشنطن، بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالشرعية القائمة – حاليًا – التي خلقت حوافز لإدارتي أوباما وترمب، لوضع الأرجنتين تحت رئاسة “ماكري” كاستراتيجية رئيسية وشريكة في أميركا الجنوبية. وقد أدى عدم وجود حوار بنّاء بين البرازيل والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البرازيل، إلى خسارة البرازيل الكثير من نفوذها السياسي الدولي.
فاستراتيجية “بولسونارو” لبناء تحالف مع الولايات المتحدة، التي تَمَّ تبنيها بفعالية، من شأنها أن تخلق مشاكل لسياسة الأرجنتين الخارجية. فمنذ أن تولى الرئيس “ماكري” منصبه، كان التزامه بناء علاقات دولية إيجابية، مثلت مصدرًا دائمًا للأخبار السارة لإدارته. وفي الواقع، فإن العلاقات المتطورة بين الأرجنتين وبعض البلدان، كان “كيرشنير” على خلاف معها خلال العقد الماضي، مثل الولايات المتحدة، ذلك أنها مكَّنت الأرجنتين من الحصول على المساعدة الدولية في أزمتها الاقتصادية الحالية.
والجدير بالإشارة أن هذا النوع من الدعم على قدر من الأهمية، لأنه من مصلحة الولايات المتحدة أن تقوم الأرجنتين بعمل إيجابي، فواشنطن في حاجة لحليف قوي بتلك المنطقة، لكن حكومات القوتين الاقتصاديتين والسياسيتين الرئيستين البرازيل والمكسيك، كانت في خضم أزمات شرعية خطيرة. كما تلقت حكومة “ماكري” في “بيونيس آيرس” التأييد، لأن الأرجنتين واحدة من الأمثلة القليلة على الدول التي تحاول أن تتخلى عن إرثٍ ديمقراطي عبر اليسار الشعبوي، وذلك لكي تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة وتتبنى إصلاحات “السوق الحر” المتواضعة. لذا، فمن مصلحة واشنطن – أيضًا – إيجاد نوع من الحوافز للبلدان الأخرى في أميركا اللاتينية لتتبع هذا النموذج، وأن تقدم المكافآت لأولئك الذين سبق لهم القيام بذلك.
ومع ذلك، فإن النصر الانتخابي لـ”لوبيز أوبرادور” في المكسيك و”بولسونارو” في البرازيل من شأنه أن يغير الخريطة السياسية للمنطقة. فمن الواضح – حاليًا – أن البرازيل سيكون لها رئيس لن يتحدى الولايات المتحدة – كما حدث مع “دا سيلفا” – ومن غير المحتمل أن يدافع عن الحكم الذاتي للبرازيل مثلما فعلت وزيرة الشؤون الخارجية “إيتاماراتي” تاريخيًا. وعلاوة على ذلك، ونتيجة للعديد من الأسباب الداخلية بجانب القرب الجغرافي لفنزويلا، فإن “بولسونارو” يبدو في وضع أفضل مقارنة بـ”ماكري” لتقديم المساعدة إلى الولايات المتحدة في حل الأزمة الفنزويلية. وهو ما من شأنه أن يترك الأرجنتين في موقف صعب، لأنها تخلق فرصة للبرازيل حتى تضع نفسها كحليف إقليمي رئيس لواشنطن. ونتيجة لذلك، لن تتمكن “بوينس آيرس” من الحصول على نفس النوع من المعاملة المتميزة التي تلقتها حتى الآن.
وبعد انتخابه مباشرة، أعطى “بولسونارو” إشارات واضحة تبين رغبته في إحداث تغييرات كبيرة في السياسات المرتبطة بمؤسسة الحكم؛ حيث كانت إحدى السياسات المرتبطة بذلك هو التحالف الاستراتيجي مع الأرجنتين. وفي الواقع، فإن هذا التحالف، الذي كان مفتاحًا لتحقيق السلام والاستقرار السياسي في المنطقة، قد تَمَّ احترامه حتى الآن من قبل الرؤساء من يمين الوسط، مثل: “فرناندو هنريك كاردوسو”، ومن اليسار، “لولا دا سيلفا” و”ديلما روسيف”.
لكن المفاجئ للكثيرين أن أول رحلة لـ”بولسونارو” ستكون إلى تشيلي، وليس للأرجنتين. فبعد أيام قليلة من الانتخابات قال “باولو غيديس”، المرشح لتولي وزارة المالية، إنه لن تكون الأولوية لأي من “ميركوسور” أو الأرجنتين بالنسبة للحكومة الجديدة.
لكن يبقى السؤال: ماذا يعني ذلك للأرجنتين على النطاق الأوسع في المنطقة؟ وللإجابة على ذلك نشير إلى أنه أولاً، يمكن أن يشير ذلك إلى تقارب بين تشيلي والبرازيل من شأنه أن يؤدي إلى علاقات أوثق بين هذين البلدين؛ وهو ما قد يؤدي إلى نوع من اتفاقيات التجارة الحرة بين تحالف المحيط الهادئ (وهي الكتلة التجارية التي تقودها المكسيك، وتشيلي، وبيرو، وكولومبيا) من جهة، و”ميركوسور” (وهو الاتحاد الجمركي الذي يتشكل من البرازيل، والأرجنتين، وأوروغواي، وباراغواي) من جهة أخرى. ورغم أن ذلك، سيكون له آثار إيجابية على جميع الاقتصادات المعنية (خاصة للأرجنتين والبرازيل لأن لديهما بعض الاقتصادات الأكثر حمائية في العالم)، فضلاً عن إضعاف العلاقات بين البلدين الرئيسيين في أميركا الجنوبية، نتيجة لأولويات البرازيل الجديدة، وهو ما سيجعل الأرجنتين تفقد بعض نفوذها السياسي. كما أن ذلك يمكن أن يخلق السخط في “بوينس آيرس”.
وثانيًا، فقد كان أحد مصادر الدعم الرئيسية لـ”بولسونارو” هو الجيش، إذ إن “بولسونارو” نفسه كابتن متقاعد؛ لذلك يمكننا أن نتوقع أنه سيولي المزيد من الاهتمام بالقوات المسلحة، كما سيعمل على توفير المزيد من الموارد لها. وقد تكون تلك الفرصة مناسبة لتشجيع الأرجنتينيين لبدء مناقشة ما يريدون القيام به مع مؤسساتهم العسكرية الخاصة. فقد ركزت مناقشاتهم حتى الآن على إشراك الجيش في مسائل الأمن الداخلي، كذلك لم تتضمن الكثير من الموضوعات الرئيسية الأخرى المتعلقة بالدفاع، مثل: التخطيط الاستراتيجي، وشراء أنظمة الدفاع، وتعليم الأفراد العسكريين. وإلى جانب هذه التغييرات، بات من المتعين عليه الحفاظ على إنجاز رئيسي واحد على الأقل. فخلال الثمانينيات، بدأت البرازيل والأرجنتين توقيع عدد من الاتفاقات التي أنهت منافسة استراتيجية شملت تطوير الأسلحة النووية؛ وهو ما جلب السلام والاستقرار إلى المنطقة. لذلك، فمن مصلحة واشنطن – أيضًا – أن توضح للبلدين أن المعاهدات النووية التي عززت إمكانية أن تكون أميركا اللاتينية منطقة خالية من الأسلحة النووية ينبغي احترامها.
ثالثًا، وهو ما يتعلق بالمجال الاقتصادي، فقد وعد “بولسونارو” بتنفيذ إصلاحات تتعارض مع ما كانت عليه الاستراتيجية البرازيلية حتى هذه المرحلة. فقد هدفت خطته الاقتصادية التي سينفذها “باولو غيديس”، وهو خبير اقتصادي مدرب في جامعة شيكاغو، إلى إنهاء العجز المالي، وخفض الإنفاق العام، وخصخصة بعض الشركات الحكومية. كما ستمنح الخطة البنك المركزي مزيدًا من الاستقلالية، فضلاً عن أنها تقترح إصلاح نظام المعاشات، الذي سيشمل نوعًا من نظام “الرسملة” والتغيير في سن التقاعد. ويتمثل الهدف الآخر لخطة “بولسونارو” الاقتصادية في تبسيط النظام الضريبي المعروف بتعقده وعدم فعاليته. وعمومًا، فإن هذه السياسات تنطوي على خطة مؤيدة للسوق.
وإذا تمكن “بولسونارو” من تنفيذ برنامجه الاقتصادي، فسوف تفقد الأرجنتين – بالتأكيد – جاذبية المستثمرين الأجانب. أمَّا البرازيل، فعلى العكس من ذلك، إذ ستصبح النجم الواعد بالمنطقة والقادرة على جذب استثمارات جديدة، في حين تبدو الأرجنتين ليست متورطة في أزمة فقط، بل ستكون لديها – أيضًا – حكومة تفتقر إلى رأس المال السياسي الكافي لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية.
وعلى الجانب الإيجابي، فإن نجاح “بولسونارو”، سيساعد على خلق إجماع جديد في الأرجنتين بشأن الحاجة إلى تنفيذ تغييرات اقتصادية رئيسية من شأنها أن تسمح لاقتصادها باكتساب القدرة التنافسية. كما ستظهر فرصة لتوقيع “تجمع ميركوسور” على اتفاقيات تجارة حرة جديدة مع الاقتصاديات الأخرى؛ وهو ما سيسعى “بولسونارو” للقيام به. وبالنظر إلى الدعم الذي تلقاه جدول الأعمال من قطاع الأغذية، الذي يستفيد إلى حد بعيد من التجارة الحرة، فإن ذلك الأمر يبدو – أيضًا – في صالح ائتلافه.
إضافة إلى ذلك، فإن ثمة سؤالاً أخيرًا يجب مراعاته، وهو: كيف ستؤثر رئاسة “بولسونارو” على السياسة الداخلية في الأرجنتين؟ ذلك أن “بولسونارو” يمثل جزءًا من ظاهرة أوسع. فالتيار الشعبي المحافظ الذي يدافع عنه يمثل حركة وطنية مبنية على رفض دور النخب الليبرالية والعالمية ودعوة للعودة إلى التقاليد الدينية والمحلية. ففي الشؤون الدولية، تتمتع هذه الحركة بنظرة واتجاه واقعيين حيث تميل إلى عدم الثقة بالمنظمات المتعددة الأطراف.
إلى جانب ذلك، فإن الأيديولوجيا التي تتبناها تلك الحركة تبدو مختلفة عن الأفكار التي دافعت عنها إدارة “ماكري”، إذ تتعلق أفكاره بقدر من الليبرالية التي دافع عنها الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، أو الرئيس إيمانويل ماكرون في فرنسا، أو رئيس الوزراء جاستن ترودو في كندا، الذي يفضل الأسواق المفتوحة، ولكنه على قدر من “التقدمية” في القضايا الاجتماعية مقارنة بتلك التي يقدمها الحزب المحافظ. وفي الواقع، أيدت حكومة “ماكري” علنًا ترشيح هيلاري كلينتون لمنصب الرئيس.
فالمشكلة إذًا في هذا السياق، هي أن قادة العالم الذين يدعمون هذه الأفكار ينتباهم الضعف. فعلى سبيل المثال، يواجه كل من “ترودو” و”ماكرون” معارضة متنامية في الداخل ببدائل محافظة وشعبية. علاوة على ذلك، يميل القادة المحافظون الشعبيون إلى التواصل بشكل كبير فيما بينهم وتنسيق جهودهم السياسية. لذا، فمن الممكن إذا لم يقم “ماكري” بتغيير تكتيكاته، فربَّما يبدأ في فقدان القيادة الدولية والإقليمية. ويبدو أن رئيس تشيلي، “سيباستيان بينيرا”، قد تكيف مع الظروف الجديدة عندما قال إنه يؤيد المقترحات الاقتصادية لـ”بولسونارو”، إذ يشترك معه في دعم الكنائس الإنجيلية في بلادهم.
إذًا، كم من الوقت سيستغرق وصول التيار المحافظ إلى الأرجنتين؟ لهذا نشير إلى أن النجاح الذي تحقق – بالفعل – في البرازيل سيعطيها – بالتأكيد – شرعية أكبر، وسيخلق حوافز لبعض السياسيين الأرجنتينيين لبدء اعتماد أفكارها. وعلاوة على ذلك، فإن بعض الشروط التي سمحت لها بالنمو في البرازيل موجودة – بالفعل – في الأرجنتين، ومن بينها انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي، وتزايد المخاوف بشأن انعدام الأمن وارتفاع معدلات الجريمة.
ومن العوامل الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار أنه منذ بضعة أشهر فقط، ناقش الكونجرس الأرجنتيني تشريع “الإجهاض”، وهو اقتراح رفضه مجلس الشيوخ الأرجنتيني في نهاية المطاف. وربَّما يقنع هذا النقاش الإنجيليين بأن عليهم أن يكونوا أكثر نشاطًا في السياسة (كما هو الحال في الولايات المتحدة والبرازيل). كما هيأت الظروف لهم تشكيل تحالف تكتيكي مع قطاعات محافظة في الكنيسة الكاثوليكية. ومن المحتمل – أيضًا – أن يلعب هذا التحالف الجديد في الأرجنتين دورًا مهمًا في السنوات المقبلة، بل ربَّما يكون بمثابة الدائرة الأساسية الداعمة لإدخال التيار المحافظ في البلاد.
أخيرًا، سيكون لانتصار “بولسونارو” نتائج مهمة، ليس فقط للبرازيل، ولكن – أيضًا – للأرجنتين ومنطقة أميركا اللاتينية بشكل عام. وهو ما يوجب على الولايات المتحدة أن تولي مزيدًا من الاهتمام لسلسلة من التغييرات التي يمكن أن تؤدي، وفقًا للطريقة التي يتصرف بها قادة هذه الدول المختلفة، إلى خلق فرص، أو تؤدي إلى مجموعة جديدة من الصعوبات للولايات المتحدة وحلفائها.
المصدر: مركز الدراسات الدولية بواشنطن
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر