سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أقدم المصرف المركزي السوداني، مطلع الأسبوع الجاري، على إصدار قرار يقضي بتوحيد سعر صرف العملة في السوق الرسمية والسوق الموازية، ويأتي هذه القرار بعد معاناة شديدة وطويلة للاقتصاد، ولاسيما على المستوى النقدي والمالي، في ظل الضعف الشديد في موارد العملات الأجنبية، مع تراجع إيرادات الدولة منها، وهو الأمر الذي تسبب في ظهور سوق موازية للعملات الأجنبية، واتساع الفجوة بين أسعار الصرف في السوقين، هذا بجانب تسرب العملات الأجنبية من الاقتصاد، فضلاً عن عزوف الاستثمارات الأجنبية عن القدوم إلى السوق التي تعاني تضخماً مبالغاً فيه.
وفي مواجهة هذا الواقع المعقد، تتبادر إلى الأذهان الكثير من التساؤلات حول توقيت اتخاذ القرار، وأهدافه، وكذلك مدى قدرته على معالجة الأزمات التي يعانيها الاقتصاد، والمتعلقة بوجه خاص بأزمات العملات الأجنبية والتضخم، وتعدد أسعار الصرف، لاسيما أن المشكلات التي يعانيها الاقتصاد في هذا الشأن ليست وليدة اللحظة، بل إن جذورها تمتد لسنوات، حتى أنها تعود إلى فترات تسبق تاريخ بداية الأحداث السياسية التي أنهت فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير.
قرار استثنائي:
أصدر بنك السودان المركزي، في 21 فبراير الجاري، تعليمات للبنوك العاملة في الدولة بتوحيد سعر الصرف الرسمي والموازي، ويهدف الإجراء إلى تجاوز أزمة اقتصادية معقدة، وبرغم أن البنك لم يعلن بشكل مباشر سعر الصرف الاسترشادي الذي سيتم بمقتضاه توحيد سعر الصرف بين السوقين، فقد قالت مصادر مصرفية إن البنك المركزي حدد سعر الصرف الاسترشادي عند 375 جنيهاً للدولار، بدلاً من سعر الصرف الرسمي السابق البالغ 55 جنيهاً.
وقد تضمن بيان البنك أنه سيتم تحديد سعر استرشادي يومي بانتهاج نظام سعر الصرف المرن المدار، وإن البنوك ومكاتب الصرافة ملزمة بالتداول في نطاق يزيد أو ينقص بما مقداره 5% عن السعر الاسترشادي، على أن يكون هامش الربح بين سعري البيع والشراء بما لا يزيد على 0.5%. وتجدر الإشارة إلى أن قرار توحيد سعر الصرف كان متوقعاً صدوره منذ أواخر عام 2020، في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته الحكومة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقال البنك المركزي أن رأي الحكومة الانتقالية استقر على تبني حزمة من السياسات والإجراءات التي تستهدف إصلاح نظام سعر الصرف وتوحيده، وذلك بانتهاج نظام سعر الصرف المرن المدار المسمّى بـ”تعويم جزئي”. ويقصد بالقرار أن البنك ستكون له كامل الصلاحيات بالتدخل في أسعار الصرف في حال تجاوزها سقفاً محدداً من قِبَله.
تداعيات مباشرة:
أوضح البنك المركزي أن توحيد سعر الصرف سيسهم في استقراره، وتحويل موارد العملات الأجنبية من السوق الموازية إلى السوق الرسمية، ويساعد على استقطاب تحويلات السودانيين العاملين بالخارج عبر القنوات الرسمية، بجانب استقطاب تدفقات الاستثمار الأجنبي. وسيسهم الإجراء كذلك في تطبيع العلاقات مع مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية والدول الصديقة، بما يضمن استقطاب تدفقات المنح والقروض، وتحفيز المنتجين والمصدرين والقطاع الخاص عبر توفير سعر صرف كفء لهم.
كما أشار البنك إلى أن القرار سيحد من تهريب السلع والعملات، وسد الثغرات لمنع استفادة المضاربين من وجود فجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازية، بالإضافة إلى المساعدة في العمل على إعفاء ديون السودان الخارجية بالاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون.
لكن في الحقيقة، فإن الوصول إلى هذه النتائج سيحتاج وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً من الحكومة، لاسيما أن الأجل القصير، بعد الإقدام على هذا القرار، سيشهد صدمة كبيرة لأسواق الصرف، وما يرتبط بها من متغيرات، وما يعتمد عليها من متغيرات أخرى، لاسيما وأنه قبل صدور القرار كان الدولار متداولاً في السوق الموازية بسعر يتراوح بين 350 و400 جنيهاً، وفي حال صدقت توقعات المصادر المصرفية بشأن السعر الاسترشادي، فهذا يعني أن القرار الأخير يقضي بتوحيد سعر الصرف بين السوقين الرسمية والموازية من خلال تحريك الأولى إلى نطاق الثانية.
ويعني ذلك حدوث انخفاض كبير لقيمة الجنيه، وفق سعر الصرف الرسمي. وبطبيعة الحال سيترتب على ذلك الكثير من التداعيات على الاقتصاد، من أهمها حدوث ارتفاع كبير في معدلات التضخم في البلاد، لاسيما في ظل تأثر أسعار المنتجات والسلع المستوردة، خاصة مع حدوث ارتفاع كبير –متوقع- في سعر الدولار الجمركي، الذي يحصل بمقتضاه المستوردون على احتياجاتهم من الدولارات عبر البنوك والقنوات الرسمية.
ومن شأن ذلك إحداث زيادة كبيرة في التضخم في السودان، في توقيت وصلت فيها معدلات التضخم في البلاد إلى 304.33% في يناير الماضي، وهو مستوى مضر بالنسبة للاقتصاد الكلي، ومرهق بالنسبة لميزانية الأسرة، أن يضع الاقتصاد على المحك، ويزيد من ضعف الطلب الكلي الفعال في البلاد.
عقبات عديدة:
يعتبر قرار المصرف المركزي تعويماً لسعر صرف الجنيه، وهو ما سيدفع بقيمة الجنيه إلى الهبوط مجدداً وبقيم ونسب كبيرة في وقت قصير، على نحو سيوجه صدمة قوية للاقتصاد. ومن المتوقع أن يواجه تنفيذ القرار الكثير من العقبات، التي يعتبر الرفض الشعبي أولها، ويمثل عدم كفاءة سوق الصرف في البلاد ثانيها، هذا بجانب ضعف الموارد الحقيقية للنقد الأجنبي في البلاد، والتي تعتبر هي ثالث وأهم العقبات. وبالتأكيد فإن البنك المركزي يعي هذه العقبات، ويدرك مدى عمقها أيضاً. وبدا ذلك بوضوح لدى قول البنك في بيانه: “إن ضمان نجاح نتائج هذه السياسات والإجراءات يتطلب تكاتف وتضافر جهود كل الجهات ذات الصلة، بما فيها الجهات الحكومية والقطاع الخاص، كما يتطلب في الوقت ذاته تطبيق حزمة الإصلاحات الاقتصادية بشكل فوري من دون إبطاء، وبتنسيق تام”.
إن تغلب الاقتصاد السوداني على العقبات التي تقف في وجهه، ولاسيما فيما يتعلق بضبط أسواق الصرف، يستوجب في الخطوة الأولى توفير الموارد اللازمة والكافية من العملات الأجنبية، وإصلاح آليات سوق الصرف، وضبط حركتها عبر نظام منضبط من الرقابة والتنظيم، هذا بجانب إجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية تتعلق بتصويب العيوب التي يعانيها الاقتصاد منذ سنوات، ولاسيما منذ انفصال جنوب السودان، وحرمان اقتصاد البلاد من معظم مواردها من العملات الأجنبية، مع توفير حد مقبول من الاستقرار السياسي والأمني في البلاد. وكل ذلك يأتي قبل قيام الحكومة بتعزيز ترابطها مع الشركاء الاقتصاديين واجتذاب الاستثمارات من الخارج.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر