أكثر سؤالين يتكرران في الأيام الأخيرة هما: هل سيعزل ترمب؟ والسؤال الثاني: هل ستتراجع القوة الأميركية في المنطقة بعد الانسحاب من سوريا؟ والإجابة عن السؤالين: لا ولا. ولكن لماذا؟ أولاً، لماذا لن يعزل ترمب؟ بحسبة رياضية وكما نعرف الأرقام أقوى من المشاعر والأماني.
من المستحيل أن يصوت الجمهوريون المسيطرون على مجلس الشيوخ على الإطاحة برئيس منهم وكل المؤشرات تشير إلى ذلك الآن. صفوفهم متوحدة، حيث رفضوا بشكل قاطع إجراءات العزل التي أطلقت مؤخراً. هذا إضافة لإدراكهم أن اتصال ترمب مع الرئيس الأوكراني مخالفة ولكن لا ترقى لعمل يستحق الإزاحة والطرد.
القصص السابقة للرؤساء المحاصرين بفضائح من جمهوريين وديمقراطيين ارتقت عملياً ومنطقياً لتصل إلى مستوى العزل بشكل جديد.
مثلاً، علاقة الرئيس كلينتون الجنسية بمتدربة داخل المكتب البيضاوي نفسه تستحق أكثر من الرجم بالطماطم استهجاناً ولكن لنصب محاكمة للرئيس ومن ثم إزاحته. بعض أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي لم يجدوا حرجاً في الوقوف ضد رئيس ديمقراطي والتصويت على عزله ولن يخسروا من شعبيتهم شيئاً إذا عادوا إلى ديارهم، لأن الخطيئة كبيرة، وفي السياسة الحزبية مثل الحياة، لن يغفرها لك أحد حتى الأصدقاء المخلصون.
ذات الشيء حدث مع الرئيس الأميركي الجمهوري نيكسون. تجسس وتسجيلات وأخطاء متكررة صعبت على الجمهوريين أنفسهم الدفاع عنه، لذا رفعوا أيديهم وتركوا الحزبيين والصحافيين الغاضبين يجهزون عليه، المسألة عملية وليست عاطفية. يفكر العضو بنفسه قبل أي أحد آخر. هل تصويته مع أو ضد عزل الرئيس سيفيده أم لا وبعدها يقرر.
بالنسبة للديمقراطيين بالطبع سيكونون مع العزل، لأن قاعدتهم الشعبية تكره ترمب وتتمنى طرده بأسرع وقت. كلما صعدت أكثر ورفعت صوتك أكثر ستكتسب انتخابياً أكثر.
للجمهوريين الوضع مختلف وحسب حجم المخالفة؟ هل تستحق تلك المكالمة مع الرئيس الأوكراني العزل؟ هل هي بحجم فضيحة كلينتون الجنسية أو تجسس نيكسون وأجهزة التنصت في الوتور غيت؟ من الصعب قول ذلك. مخالفة ولكن مهما زدت من الملح والبهارات عليها لن تخلع الرئيس، أي رئيس.
ولكن الديمقراطيين أذكياء ومتمرسون ويدركون تماماً أن العزل لن يحدث، ولكنهم يستخدمونه لشيء مختلف تماماً، وهو تحويله إلى العنوان الرئيس في الأخبار وبين الناس من أجل حجب إنجازات ترمب الاقتصادية. يريدونها سحابة سوداء تلاحق الرئيس أينما كان فيضطر للدفاع عن نفسه طول الوقت بدل الحديث عن انخفاض البطالة وزيادة النمو الاقتصادي.
تقريباً ذات الشيء حدث مع قضية التدخل الروسي أو تواطؤ ترمب مع بوتين، يدرك الديمقراطيون أنها قصة مفتعلة غير حقيقية ولكنها استخدمت للنيل من خصمهم وتلطيخ صورته حتى لا يعاد انتخابه. عندما كشف تقرير مولر أن إدارة ترمب بريئة وغير متورطة مع الروس، تلاشت القصة (من يذكرها الآن؟!) وحلت مكانها قصة أخرى وهي فضيحة المكالمة وفي الوقت المناسب.
عام فقط قبل الانتخابات، ستكون فرصة سانحة لوضع الملامح الأساسية للحملة التي تستهدف منافسهم. سيكون رئيساً متهوراً يشبه زعيم المافيا يطلب من زعماء دول أن يقوموا بخدمات خاصة له.
هناك مجازفة بخطوة الديمقراطيين عزل ترمب، وهي أنها ستوحد الجماهير الجمهورية خلفه، وستحرك القواعد المحافظة دفاعاً عن رئيس تتآمر عليه النخب الليبرالية المتعالية في نيويورك ولوس أنجلوس. وهذا عملياً ما جعل رئيسة مجلس النواب بيلوسي تتردد بالإقدام عليه، وقالت سابقاً إنه لا يوجد مبرر لعزل الرئيس لإدراكها أن الطعنة في الوقت غير المناسب ستقتلهم.
ولكنها دفعت من الجناح المتشدد مع قضية المكالمة للذهاب في هذا الاتجاه، وأصبح التفكير من ناحية ديمقراطية هكذا: إما أن نترك الناس يتحدثون عن الرئيس الخائن زعيم العصابة أو سيتحدثون عن الرئيس الذي تحدى الصين من أجل مواطني بلاده ومنع الأجانب من الدخول بطريقة غير شرعية، والأهم جلب الوظائف للعاطلين.
بحسبة حزبية، الخيار الأول هو الأفضل. لكن نقول إنه من المستبعد أن يعزل ترمب. لن يقف الجمهوريون ضده ليس من أجله فقط ولكن حتى لا يغضبوا جماهيرهم ويخسروا مقاعدهم. والديمقراطيون وجدوها فرصة أخيرة، ومجازفة خطيرة.
وبالطبع يقوم ترمب وفريقه بلعب نفس اللعبة ولكن بالاتجاه المعاكس. الدعاية المتكررة منهم تقول إن الرئيس يتعرض لمؤامرة والأعداء يتربصون به وسيغيرون قواعد الانتخابات لعزله، لأنهم عاجزون عن هزيمته بشرف، وهو بحاجة لحماية أنصاره للتغلب عليهم. ومع ضعف منافسي ترمب الديمقراطيين خصوصاً الأقوى منهم بايدن الذي يعد نسخة بيضاء من أوباما لكن مصابة بالشيخوخة وتفتقد كاريزما الرئيس السابق، فيمكن القول استعدوا لخمس سنوات قادمة من عهد ترمب. أما السؤال الثاني المهم: هل تراجعت القوة الأميركية بعد الانسحاب من سوريا؟ الجواب أيضاً لا والتفسير في المقال القادم.