سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ممدوح المهيني
المتابعون باهتمام للرئيس الفرنسي ماكرون منذ صعوده لابد أن تخالجهم نحوه مشاعر متضاربة. الذكاء الواضح إلى جانب التعجرف. خطيب مفوه لا يلبث أن ينحدر إلى منظر يبعث على السأم. شخصية ناعمة منمقة يريد أن يكون متنمراً في بعض الأوقات لكنه يبدو ضعيفاً. ولكن أخطر ما فيه أنه طموح ولكن على حساب الآخرين.
وهذا ما يفعله مع إيران حيث يقوم بإلحاح على فتح القفص للنظام الإيراني الذي يبدو الآن مثل الدب المحاصر في أكثر أوقاته ضعفاً. في هذه الحالة يذكرنا ماكرون بالرئيس أوباما، الذي أراد أن يذكره التاريخ قبل أن يغادر البيت الأبيض، فعقد صفقة سرية غير عادلة مع النظام الخطير متجاهلاً كل الشرور المحدقة بدول المنطقة، وكيف تسبب لها بالأذى وأضعف مفهوم الدولة واستبدلها بالمليشيات الموالية له.
وكأن الشريط يكرر نفسه، الرئيس الأميركي السابق المثقف والمصقول، لم يتردد بمصافحة أيادي المسؤولين الإيرانيين في ذات الوقت التي كانت ملطخة بدماء السوريين. وعبر ابتهاج وزير الخارجية ظريف وهو يلوّح بأوراق الاتفاقية من شرفة غرفة فندقه أمام كاميرات المصورين عن أكثر المشاهد قتامة في المسرح الدولي، حيث رأينا قيم العدالة بحدها الأدنى تنهار أمام أعيننا بمعاقبة الضحايا ومكافأة المذنبين بميداليات النصر.
ماكرون يلعب تقريباً دوراً مشابهاً لأنه يبحث عن إرث خارجي بأي ثمن ولحسن الحظ أنه ليس رئيس الولايات المتحدة الأميركية. يريد أن يسجل اسمه في التاريخ الدولي كرجل للتاريخ والعالم وليس فرنسا فقط. هشمت تظاهرات أصحاب السترات الصفر صورة ماكرون الذي قدم نفسه بهيئة النبي الشاب الجديد للعولمة والحضارة الإنسانية الواحدة ليجد نفسه مضطرا لقمعها بطريقة خشنة.
وعلى عكس أوباما الذي جعله منصبه كزعيم أقوى دولة بالعالم مترفعاً يبحث الآخرون عن وده لتحقيق الصفقات السياسية، يسعى ماكرون بالدفع بحماسة لتخليص النظام الإيراني من ورطته بطريقة اقتحامية وذليلة في بعض الأحيان. حينما قامت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تريزا ماي بالاتصال 12 مرة لثني ترمب عن قراره بالخروج من الاتفاق النووي، قرر ماكرون السفر إلى ترمب وتودد للرئيس الأميركي مستنداً على قناعة أن ترمب شخصية انطباعية غرائزية يؤثر عليه العناق والقبلات وإظهار المشاعر الدافئة بشكل مفرط. فشل هذا الأسلوب وخرج ترمب من الاتفاق بعد ذلك بفترة وجيزة، وقام ماكرون بتغيير لهجته الودودة ووضع وجها صارما ووبخ الرئيس الأميركي أمام العالم في خطاب طويل تضمن اتهامات صريحة بإعادة إحياء الشعبوية وتأجيج النزعات القومية.
مؤخرا عاد ماكرون ليلعب ذات الدور بطريقة اقتحامية حيث بدا للحظات وكأنه يتحدث نيابة عن الأميركيين ويفاوض باسمهم ويضع الكلمات بأفواههم. وقام بدعوة وزير الخارجية الإيراني لقمّة مجموعة السبع في بياريتس وجعله في أقرب نقطة ممكنة للرئيس الأميركي في محاولة لإحداث عملية اختراق وعزل ترمب عن بومبيو وبولتون بحجة أنهم شخصيات عقائدية بكراهيتها لنظام طهران وتفرض طوقاً على رئيسها ما يمنعه من تغيير موقفه.
قام ماكرون بسيرك سياسي وخرجت بعد ذلك عناوين وسائل الإعلام المعجبة بالرئيس الفرنسي والمتعاطفة مع إيران، بالحديث عن كسر الجمود والديناميكية الدبلوماسية. على الرغم من عدم معرفة الأميركيين بحضور ظريف وهم الذين وضعوه قبل أسابيع على لائحة العقوبات وقيدوا تحركه في نيويورك بثلاث بنايات فقط. لم تنجح المحاولة مرة أخرى ونفي بشكل قاطع التوصل لاتفاق.
تحدث ترمب بعدها بأيام ووجّه انتقادات متعمدة للرئيس الفرنسي قائلاً من داخل البيت الأبيض إنه لا يتحدث “باسمهم ولا أحد يفاوض بالنيابة عنهم”، وإنه ماض في سياسته بدون تغيير. فرضت بعدها الخزانة الأميركية عقوبات على الشركات التي تخرق العقوبات وتبيع النفط الإيراني في إشارة واضحة من واشنطن إلى استمرارها في سياسة الضغط الأقصى وأعلن برايان هوك المبعوث الأميركي الخاص بإيران عن تقديم مكافآت تصل إلى 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد على وقف نشاطات طهران غير المشروعة.
ولكن لماذا سياسة ماكرون حيال إيران نشطة إلى هذا الحد؟ على هذا السؤال أجاب ماكرون مرات عديدة بالقول إنه يبحث عن استقرار المنطقة. ولكن إعادة عرض أوباما من جديد سيقود إلى مكافأة النظام الإيراني بمليارات الدولارات، هو من دفع المنطقة إلى هذه الحالة من التأزم والفوضى. وتكرر السيناريو قبل أيام مع العرض الأوروبي بتقديم 15 مليار دولار لطهران تعويضا لخسائرها، بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي والبحث عن إرث شخصي يريد أيضا ماكرون أن يظهر القوة الفرنسية غير التابعة لواشنطن، وهو من اقترح قبل أشهر تشكيل جيش أوروبي موحد يضاهي القوة العسكرية الأميركية.
من المهم أن نعرف كيف تفكر هذه الزعامات التي بيدها مفاتيح التاريخ وتغيير العالم حتى نتوقع كيف تتصرف والأخطاء التي ترتكبها لتحقق ما تريد. ماكرون وغيره قيادات لا تحمل نوايا شريرة ولكنها منغمسة بذاتها وتبحث عن مجدها الخاص حتى على حساب الآخرين. خطورتها الناعمة تكمن بإيمانها التام بامتلاكها الحقيقة المطلقة وكتالوج حلول مشاكل العالم المتخيل الموجود في عقلها فقط، في الوقت الذي يهوي فيه العالم الحقيقي إلى هوة من الدماء والآلام.
المصدر: العربية.نت
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر