قبل الحديث عن أحمد الريسوني، أستاذ علم المقاصد الشرعية “المغربي”، خليفة يوسف القرضاوي في رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وبحث الأسباب التي جعلت منه خياراً ملائماً لتنفيذ استراتيجية الاتحاد الجديدة، بعد محنة الإسلاميين فيما يسمى بـ”الربيع العربي”، نعرج قليلاً على ورقة القيادي والرمز في جماعة إخوان “الكويت” إسماعيل الشطي، بعنوان “الإسلاميون المعتدلون في ظل الاستراتيجيات الجديدة”، والتي تناولنا قسماً كبيراً منها في الجزء الأول.
معامل الارتباط هنا تكمن أولاً: بقوة العلاقة، ما بين تاريخ ومناسبة إلقاء ورقة الشطي، التي كانت في ورشة عمل عقدت بلندن في 2005، وبين تاريخ وأهداف تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي كان الريسوني أحد أعضائه المؤسسين، والمشارك في أول جمعية عمومية للاتحاد، عقدت أيضا في العاصمة البريطانية “لندن” في يوليو 2004، بعد تسجيل تأسيسه قانونياً بعاصمة إيرلندا (دبلن)، قبل أن يتخذ من العاصمة القطرية الدوحة مقراً فعلياً لإدارته وعقد لقاءاته في مارس 2011.
وثانيا: اتجاه العلاقة بين ” منيفستو” إسماعيل الشطي، أحد رموز الإسلام السياسي الذي صدره في كتابه “الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة”، وطرح فيه نموذج الحكم المقترح لـ “الدولة الإسلامية”، بتفويض من راشد الغنوشي، زعيم النهضة التونسي، ومن جهة أخرى التعيين الانتخابي لمرشح وحيد، تم تقديمه لتولي منصب رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ودون أية أسماء منافسة وهو الفقيه المغربي “أحمد الريسوني”، ابن التيار الحركي الإخواني في المغرب تلميذ المدرسة “الغنوشية” للإسلام السياسي.
بداية الإسلام السياسي
من العاصمة البريطانية “لندن” بدأت الحركة الإسلامية (الإسلام السياسي) التموضع لأخذ دورها في مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد، واستثمار أحداث 11/9، فبدأت بتأسيس الاتحاد والذي كان أحد أهدافه “الدعائية” لدغدغة المصالح الغربية: تبني الوسطية والاعتدال ومواجهة الغلو والتطرف، وهي الدعاية المناسبة لمناهضة كافة المؤسسات الدينية الرسمية، وخصوصاً السعودية بعد أن ركز سهامه على “السلفية الوهابية” واتهامها بالتطرف والإرهاب و “دعشنتها” لاحقاً من قبل الريسوني ورفاقه في الحركة الإسلامية.
إسماعيل الشطي، ومن خلال كتابه يلقي الضوء أكثر على حملة “التسويق” لمشروع الإسلام السياسي “السني” في الأوساط الغربية، قائلاً: “لقد أبدى الغربيون محاولات جس نبض مع كثير من جماعات الإسلاميين السنة، أما من خلال لقاءات الدبلوماسيين بهم أو من خلال تحويل الموضوع إلى نقاش عام بالصحافة، أو من خلال بعض الأنظمة الحليفة، أو من خلال الدعوة إلى ندوات أو مؤتمرات أو حلقات نقاش”.
وأضاف: لعل أبرز هذه الاتصالات التي قام بها الغرب مع الإسلاميين السنة، هي تلك التي تمت مع حماس (الجناح العسكري للإخوان المسلمين الفلسطينيين) والجهاد الإسلامي، إذ التقى وفد من الولايات المتحدة الأميركية بوفد من حماس وحزب الله والجماعة الإسلامية في مارس 2005، واتفقوا على استمرار العلاقة والحوار بينهم، كما نشرت صحيفة العرب اللندنية (صفحة 229-228)، مؤكداً على دقة قراءته للمشهد السياسي بما نشرته صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية “اليسارية” تحت عنوان: “البحث عن أصدقاء بين الأعداء” والمنشور في 11 سبتمبر 2004، وهي الذكرى الرابعة لتفجيرات برجي التجارة العالمي، (وبالطبع لم يكن التاريخ مصادفة).
وهنا قال إسماعيل الشطي: “خصص الكاتبان جل حديثهم عن الإخوان المسلمين، وقد ناقشا بشكل تفصيلي مدى إمكانية التعاون وجدواه”، مضيفاً: “أوضح المقال بشكل صريح أن هدف الالتقاء مع الإخوان لتنشيط التيار السلمي بالحركة الإسلامية في مواجهة التيار الجهادي، وأشار إلى تجربتهم الناجحة بالتعاون مع الإخوان اليمنيين في شؤون التدريب السياسي، لقد كان هذا المقال إشارة للإخوان حول اهتمام الغرب بالحوار معهم، وجس نبضهم حول استعدادهم لذلك”، كل ذلك كان اقتباساً حرفياً مما جاء في حديث الشطي في الصفحة 229 من كتابه “الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة”.
خطاب دعائي
على خلفية اللقاءات التي جمعت حركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، مع الوفود الأميركية والأوروبية، بادر الاتحاد كخطوة أولى للتعبير عن حسن النوايا باستصدار فتوى من قبل الفقيه بالمقاصد الشرعية المغربي “أحمد الريسوني” والتي أجاز فيها الاعتراف بدولة “إسرائيل”، نشرت حينها في موقع قناة “الجزيرة” في 25/5 / 2006 وحملت عنوان: “قضية فلسطين اليوم.. رؤية فقهية سياسية”، قال الريسوني: “لا شك في أن أهم ما يميز قضية فلسطين اليوم، هو الفوز الانتخابي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، ثم تشكيلها للحكومة الفلسطينية الحالية، ثم الآثار والتداعيات الناجمة عن ذلك، هذا الواقع الجديد ملأ الدنيا وشغل الناس داخل الساحة… ما الذي يمنع من أن تتحول هذه الفكرة إلى فكرة اتفاقية سلام، قد يكون طويل الأمد أيضا، وقد يكون قصير الأمد وقد لا يتحقق أبداً.. ولتكن فكرة اتفاقية السلام هذه مشروطة بالاعتراف المتزامن من الطرفين بجميع قرارات الأممية المتعلقة بفلسطين، وباتخاذها كاملة أساساً مرجعياً للسلام والتعايش”.
هذه الفتوى ما كان لها إلا أن تعود مجدداً إلى دائرة الأضواء ومباشرة عقب الفوز “الانتخابي” للريسوني في رئاسة بالاتحاد، كاشفة عن حالة انقسام داخلية بين جماعات الإسلام السياسي، تدخل لحلها عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيصل بن جاسم آل ثاني”، ضابط الاتصال بين النظام القطري ورموز التيار الصحوي وخاصة شقه “السروري”، بعد اعتراض من قبل “حاكم المطيري”، رئيس حزب الأمة، لإعادة “آل ثاني” تغريدة “حسن الدغيم” عضو المجلس الإسلامي السوري قال فيها: “منذ انتخاب فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الريسوني رئيساً للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وحزب الأمة برئاسة الدكتور حاكم المطيري، يشن معركة لا هوادة فيها على شخصية الريسوني، ولا يوفرون في ذلك سقطة ولا عثرة إلا وطاشوا بها ثم يكلمونك عن الأمة والوحدة”.
فكان رد المطيري: “حياك الله أخي فيصل، ليس هناك معركة ضد شخص الريسوني، وإنما رفض لأفكاره ابتداء من نفيه وجود نظام إسلامي، وارتياحه لما جرى في مصر باعتباره صراعاً على السلطة وليس انقلاباً على إرادة الشعب وانتهاء بالدعوة للاعتراف بإسرائيل، وكما رفضنا حصار قطر نرفض حصار الإسلام وتقديمه كبش فداء لأميركا”.
ليعود القطري فيصل بن جاسم آل ثاني بالدفاع قائلاً: “الله يحييك أخي حاكم، مما لا شك به عندي على الأقل أن الريسوني من خيرة علماء الأمة المعاصرين، ولا نزكي على الله أحدا، وأن ما أفتى به هو نتيجة اجتهاد ونظر هو من أهله، ولك الحق وغيرك بالاختلاف معه علمياً، ولكن إسقاط أمثال الريسوني وتحميل الأمور ما لا تحتمل أمر مرفوض ومضر لا يخدم وحدة الأمة”.
مما دفع أيضاً هذا الخلاف بهاشم الشيخ أحمد القائد السابق في أحرار الشام، إعلان تأييده لحاكم المطيري، قائلا: “ليس هناك معركة ضد شخص الريسوني، وإنما رفض لأفكاره ابتداء من نفيه وجود نظام إسلامي وارتياحه لما جرى في مصر باعتباره صراعاً على السلطة، وليس انقلاباً على إرادة الشعب وانتهاء بالدعوة للاعتراف بإسرائيل”.
هذه الأجواء المشحونة دفعت الفقيه الحركي “الريسوني”، وفي أول لقاء له بعد تعيينه، إلى تعمد استخدام أسلوب “التورية” تجنباً للحرج من فتواه السابقة، في إجابة له عن موقفه “من تسارع التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في الأيام الأخيرة وخاصة في منطقة الخليج؟”.
فقال الريسوني: “لنا موقف يلزمنا وهو في أعناقنا لا نحيد عنه، وهو أنه لا تساهل ولا هوادة مع #الاحتلال_الإسرائيلي وما نشأ عنه من اغتصاب للأرض، ومن مظالم للشعب الفلسطيني وللشعوب المجاورة لفلسطين”.
الاتحاد الجديد
بدا أحمد الريسوني الذي يصفه مريدوه بـ “فقيه الثورة ومنظرها ومؤصلها العلمي والفكري”، في الظهور على المشهد منذ تعيينه نائباً أول ليوسف القرضاوي رئيس الاتحاد آنذاك في سبتمبر 2013، من جهة كان ناقداً لتجربة جماعة الإخوان بمصر، بعد صعودهم إلى سدة الحكم، ومن جهة أخرى تبني كافة المواقف القطرية والتركية السياسية مقابل تكثيف جهوده في مهاجمة السعودية والإمارات، بعد أن مكث فيهما عقداً من الزمن، نذكر من ذلك مقالين أحدهما كان بعنوان “الإسلام السعودي.. من الازدهار إلى الاندحار” و “علامات الساعة في جزيرة العرب”، والذي رد عليه بشكل وافٍ أحد زملائه خلال تواجده الطويل في السعودية الداعية محمد السعيدي.
وقبل الإسهاب في الحديث عن الريسوني وأسباب اختياره، نشير إلى أنه وبحسب مصادر ذات علاقة تحدثت معها “العربية.نت”، فقد خضع الريسوني خلال عمله على مشروع “معلمة القواعد الفقهية” والذي تحملت نفقته مؤسسة زايد الخيرية، وتحت رعاية المجمع الفقهي الدولي، لمساءلة وتحرٍّ من قبل لجنة متخصصة كلفت من قبل #الإمارات، لبحث أسباب التكاليف الباهظة التي أنفقت على المشروع، والتي بلغت قيمتها الـ 20 مليون درهم، مع المماطلة في إتمام المشروع، لتتولى لجنة متخصصة مراقبة المشروع حتى إنجازه، خرج عقبها من السعودية ومنع من دخول الإمارات.
إن اختيار الداعية المغربي أحمد الريسوني، ونوابه الآخرون، من تركيا والسودان وعمان وإندونيسيا، يبعد تماماً عن تفسيره كتجميل جغرافي للاتحاد، وإنما بالإمكان القول إنه محاولة “بعث” جديد لمشروع الإسلام السياسي، بعد ما ألحقه إخوان مصر من خسائر لمشروع الإسلام السياسي خلال ما عرف بـ “الربيع العربي”.
فبعد عقود على سيطرة التيار المصري على مفاصل المشروع الإسلاموي، واعتبار نفسه عموداً للحركة الإسلامية، أخذت حصته في التنظيم الدولي للجماعة في الانكماش والانحسار، مقابل صعود ما يوصف بالتيار الإخواني الشرقي “شمال إفريقيا”، مقدماً نفسه كخيار بديل عن إخوان مصر، فهو الأكثر تطوراً وصاحب التجربة السياسية، مع ما منحته النشأة في ظل أنظمة علمانية ملكية أو جمهورية قدراً من السياسة الواقعية “البراغماتية”.
وهنا يسعى اليوم رعاة الحركة الإسلامية “الإسلام السياسي”، إلى مراجعة حساباتهم وخطابهم الشرعي والسياسي، كما أكد على ذلك الريسوني نفسه، أو قد نقول محاولة المشروع الإسلامي فرز نفسه من جديد عن إخوان مصر التيار (الأصولي) في الحركة الإسلاموية، كما فعل سابقاً أعقاب أحداث 11 سبتمبر بالتبرؤ الصوري من القاعدة وجماعات العنف، للمحافظة على شرعيته الواهنة لدى المؤسسات الغربية اليسارية، وذلك بتبنٍّ صارخ للعلمانية مقابل التخلص تماماً من شعار “الإسلام هو الحل”.
ولعل ما يفسر شيئاً من ذلك، وما يكشف عن التوظيف الديني في المكر السياسي، رأيه بخصوص الواقع الراهن للجماعات الإسلامية بطابعها الشمولي كجماعة #الإخوان_المسلمين في مصر، وإمكانية الانتقال السلس إلى جماعات وظيفية فاعلة، بحسب ما جاء في حوار أجري معه في موقع إضاءات قال: “نعم هذا صحيح تماما، فنحن في زمان (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)، وفي زمان (وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر)، أما الكيف فسؤال يتحدد ويتجدد جوابه في كل زمان ومكان”.
وبعد مضي 7 أعوام على ما سمي بثورات الربيع العربي وما مني به مشروع الإسلام السياسي من خسائر في شقيه السني والشيعي، لا تزال مراكز تشخيص الربيع التابعة للتنظيم الدولي للإخوان، ومن بينهم أحمد الريسوني، يرفضون بشدة فكرة الاعتراف بالهزيمة أو الاستسلام ، فوفقاً لوصف الريسوني لواقع نتائج الثورات قال: “ليس في التاريخ شيء نهائي، وإنما فيه تدافع وسجال ومد وجزر وكمون وانفجار… وأما بخصوص الحراك الثوري الاحتجاجي الذي شهدته الدول العربية قبل ستة أعوام، والذي سمي بالربيع العربي، فتفاعلاته مازالت حية ومتحركة بدرجات وتعبيرات متفاوتة، فهو مشتعل وحامي الوطيس في سوريا وليبيا واليمن، وهو في حالة غليان واحتقان شديد في مصر، وهو هادئ نوعاً ما في تونس والمغرب، وهو كامن أو مؤجل في دول أخرى كالجزائر والسعودية”.
إذن وعبر اختيار الداعية المغربي “الريسوني” يسعى موجهو دفة الاتحاد العالمي، استنهاضا للمشروع الإسلاموي، إلى “تجيير” المغرب لصالح الغايات القطرية والتركية، والذي يتضح من تأكيد الريسوني على إدارة شؤون الاتحاد من الرباط قائلاً: “أفضل ما يمكن أن أقدمه للاتحاد سيكون من المغرب وليس من مكان آخر، وأريد أن أؤكد شيئاً أنه لا مشكلة في المغرب ولا مشكلة مع المغرب، وأيضاً أن الاتحاد ليس مقتصراً في #قطر وإنما إدارة صغيرة، ولكن الاتحاد يمتد في القارات الخمس”.
مضيفاً في حوار سابق: “منذ فترة ألاحظ أن #المغرب كان قد تورط فيما أسميه الأوحال الشرقية، وجامل وساير وأرسل قواته هناك وهناك، واتخذ مواقف سياسية عدائية مع #إيران، دون سبب، فقط لوجه هؤلاء، لكن يبدو أنه أحس منذ مدة أن هذا التورط ما كان ينبغي وأنه لم يستفد منه شيئاً”.
أما على صعيد حركية الخطاب الإسلاموي الجديد فهنا يتقاطع الريسوني مع منظر الحركة الإسلامية “إسماعيل الشطي” بالترويج لشكل ونموذج “الحكومة الإسلامية” الجديدة، التي قال فيها الشطي: “نموذج حكم الإسلاميين للدولة المعاصرة يجب أن لا يخرج عن طبيعة الدولة المعاصرة ولا يتجاوز أصلها العلماني، فيما يخص المواطنة(…) مع الحد الأدنى من المظاهر والثقافة الإسلامية كوجود المساجد والصلاة فيها ورعاية الوقف والتعطيل يوم الجمعة (…)، وأن يلتزم الإسلاميون بنظام الحكم الديمقراطي(… ) فهم إسلاميون يديرون دولة علمانية، كما يقول أردوغان وليس إسلاميون يريدون إلغاء العلمانية”.. صفحة 208-209 .
ويبقى السؤال: هل يستطيع حقاً #الريسوني صاحب الفتاوى الشاذة، ومنها “جواز نكاح الميت” وفتوى تحريم قتال “داعش”، إقناع الغرب بمشروعهم “الأخلاقوي” و”العلمانوي”؟