حكومة الوفاق الوطني | مركز سمت للدراسات

لماذا تدخلت تركيا في ليبيا؟

التاريخ والوقت : الإثنين, 15 فبراير 2021

جليل حرشاوي

 

وافق البرلمان التركي في 2 يناير 2020 على التدخل رسمياً في ليبيا وقبلها ببضعة أسابيع، في 27 نوفمبر 2019، أقنع الرئيس رجب طيب أردوغان حكومة الوفاق الوطني، الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، بالتوقيع على مذكرة بحرية مع أنقرة، وقد أعلنت الوثيقة التي لم يتم التصديق عليها حتى الآن ممراً بعرض 16 ميلاً بحرياً من جنوب غرب تركيا إلى شمال شرق ليبيا كمنطقة اقتصادية خالصة بشكل يتجاهل حقوق اليونان.

وفي المقابل، التزمت تركيا، من خلال مذكرة أمنية، بالدفاع عن طرابلس، وشنت عملية هدفها التكتيكي الأساسي وضع حد للهجوم الذي استمر ثمانية أشهر، آنذاك، والذي شنه على العاصمة التحالف المسلح التابع لقائد الثوار في شرق ليبيا خليفة حفتر.

وبحلول أواخر ربيع 2020، كانت القوات المدعومة من تركيا، والمتحالفة مع حكومة طرابلس، قد أجبرت كتائب الجنرال حفتر الرئيسة على الخروج من شمال غرب ليبيا. وقد أثار ذلك تعليقاتٍ صارخة من عواصم عدة. كما أصدرت فرنسا واليونان أيضاً إدانات شديدة اللهجة، بينما لم تصدر واشنطن ولا موسكو بياناً حازماً.

لم يكن تدخل عام 2020 جديداً تماماً

والواقع أن التصريحات العديدة التي تصور تركيا مؤخراً باعتبارها سبباً في زعزعة الاستقرار داخل المسرح الليبي، يمكن أن تدفع المراقبين بسهولة إلى نسيان حقيقة مفادها أن الانتفاضات الشعبية التي اندلعت في الفترة من فبراير إلى مارس 2011، كانت معارضة لخوض حلف شمال الأطلسي حرباً ضد النظام الليبي المستبد. وكان تقارب تركيا مع القذافي قد ازدهر لأول مرة عندما دعم غزو تركيا قبرص الشمالية عام 1974، ونما النشاط الاقتصادي بين ليبيا وتركيا على مدى السنوات اللاحقة.

وقد تسارع هذا النمو بعد أن ساعد اتفاق دبلوماسي مع الولايات المتحدة عام 2003 في رفع العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا في خضم حقبة من ارتفاع أسعار النفط. كما أنه عندما أُعلنت ليبيا منطقة اقتصادية خالصة في مايو 2009، وأشارت إلى أنها منفتحة على الاتفاقيات الدولية، أزعج ذلك المصالح التركية. فبحلول أوائل عام 2011، كان لدى الشركات التركية أكثر من 20 مليار دولار من المشروعات المعلقة هناك، معظمها في مجالات البناء والهندسة والطاقة. وهذه المصالح الاقتصادية الهائلة تكفي لتفسير السبب الذي جعل تركيا تحاول أولاً معارضة التدخل.

وفي الفترة بين عامَي 2011 و2013، قرَّبت الأزمتان المصرية والسورية قطر وتركيا بعضهما من بعض؛ حيث دعمت كلتاهما التيارات الإسلامية هناك. كما لعب الإسلاميون الليبيون دوراً في سوريا في ذلك الوقت؛ حيث عملوا مع الدوحة وأنقرة على تقويض حكومة بشار الأسد. وظلَّت هذه الروابط قائمة منذ ذلك الحين، بينما يتوقف أردوغان عن دعم الإسلام السُّني الإصلاحي من القاعدة إلى القمة في البلدان العربية على الرغم من تعدده الأيديولوجي خلال العقد الماضي.

إلا أن هذا لا يعني أن تعزيز جماعة الإخوان المسلمين هو هدف تركي بحد ذاته؛ بل العكس هو الصحيح. فمن أجل دفع أجندتها الجيوسياسية في المنطقة، استغلت أنقرة نفوذها وقربها من الشبكات الإسلامية في الدول العربية؛ مثل ليبيا. وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن تحظى بشعبية كبيرة في ليبيا؛ فإن حرب 2011 ضد القذافي دفعت عدداً من أنصار الإسلام السياسي إلى مناصب في السلطة. وبشكل منفصل، فإن العلاقات التاريخية العميقة تربط الساحل الغربي لليبيا بتركيا.

وفي ليبيا، اتخذ دعم تركيا لطيفٍ متنوع من القوى الإسلامية والثورية بعداً عسكرياً في النصف الثاني من عام 2014، عندما بدأت تظهر علامات القدرة على المواجهة على حملة حفتر ضد جميع الجماعات الإسلامية في بنغازي. ولم يكن تدخل أنقرة في تلك السنوات هائلاً، كما أنه لم يعكس سياسة منهجية. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في موقف أنقرة من عدم التدخل، والذي كان يغض الطرف كلما قامت جهات ليبية متمركزة في تركيا بشحن أسلحة إلى ألوية إسلامية ملتزمة بمحاربة قوات حفتر.

بعد الفوز في معركة طرابلس 

ويمتد خط الصدع من مدينة سرت الواقعة في وسط المنطقة الساحلية الليبية إلى قاعدة الجفرة الجوية على بعد 260 كيلومتراً إلى الجنوب، ويفصل هذا الخط بشكل أساسي الجزء الجنوبي- الغربي من البلاد عن شمالها الغربي. وقد استغلت تركيا، التي تبدو غير منزعجة ظاهرياً، فترة التوقف التي دامت عدة أشهر منذ يونيو؛ لترسيخ وجودها في شمال غرب ليبيا، فالعتاد التركي كبير الآن ويشمل قاعدتَين عسكريتَين كاملتَين ودائمتَين ونحو 30000 من المرتزقة السوريين.

وعلى الصعيد المالي، أبدت أنقرة اهتماماً شديداً بخزائن طرابلس، وقد تجلى ذلك عندما وقعت في أغسطس 2020 اتفاقاً غير معلن مع بنك ليبيا المركزي الغني بالدولار. ويساعد هذا الحرص البالغ لجمع العوائد الاقتصادية على تفسير التهاون المؤقت لتركيا تجاه روسيا، مع علمها بأن موسكو ضغطت على حفتر لحمله على رفع الحصار الذي فرضه على صادرات النفط والذي دام 9 أشهر، ومحاولات الأمم المتحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة يمكن قبولها في مختلف أنحاء ليبيا. ويفترض تفكير الأتراك أن مثل هذا الترتيب من شأنه أن يسمح بالتقاسم غير المباشر لموارد البلاد.

ومن بين الأسباب التي قد تجعل من غير المرجح أن تقبل تركيا بالحد من ترسيخها العسكري في طرابلس، هو الأراضي الواقعة خارج الحدود الليبية. فمن خلال تأمين وجود منطقة في شمال غرب ليبيا، تصبح أنقرة في طريقها إلى الحصول ببطء على ممر إلى منطقة الساحل وإفريقيا. والواقع أن الأهمية القصوى للسوق الإفريقية سوف تستمر في النمو على مدى العقود المقبلة بالنسبة إلى شركات البناء التركية، والمصنعين القائمين على التصدير.

المخاطر بالنسبة إلى تركيا في ليبيا والبحر

تتطلب الطموحات البحرية لتركيا فروقاً إضافية دقيقة، والواقع أن طلعات مسح الغاز الأخيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط -وهي الإيماءات العدوانية التي تضاعفت بعد انتصار حكومة الوفاق الوطني في طرابلس- لا تتعلق في المقام الأول باحتياطيات الغاز؛ بل إن الدافع وراءها يتعلق أكثر بالسيادة الإقليمية وغيرها من الرهانات السياسية الخالية من المكاسب الاقتصادية المباشرة. ولكي نفهم السبب وراء هذا، يتعين علينا أن نكتسب المزيد من الفهم حول الكيفية التي تنظر بها تركيا إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وكيف تتناسب ليبيا بشكل بالغ الأهمية مع حساباتها الجيوسياسية.

وترجع جذور هذا الوضع المعقد الحالي بشأن المناطق الاقتصادية الخالصة المتنافسة في شرق البحر الأبيض المتوسط إلى القرن العشرين، وفي بعض الأحيان إلى ما هو أبعد من ذلك من التنافس الذي دام قروناً، ويرتبط بعضها بالأحقاد التركية- اليونانية في حقبة الحرب الباردة.

وبعيداً عن استياء تركيا تجاه اليونان بشأن بحر إيجة، فإن أزمة قبرص التي لم تحل لها جوانب بحرية مهمة أيضاً؛ فالمياه المحيطة بالجزيرة المقسمة مشلولة بالفعل بسبب التوترات الناتجة عن الوضع غير المعترف به لجمهورية شمال قبرص التركية، واستمرار تدخل أنقرة العسكري هناك. والواقع أن كمية الغاز الطبيعي التي اكتشفها منافسو تركيا الدوليون منذ عام 2011 لم تكن ضخمة للغاية؛ ولكنها ساعدت في حشد تضامنهم ضد تركيا، في حين أعادت إشعال كل القضايا القديمة المعلقة.

وفي عام 2019، افتتحتِ القاهرة منتدى غاز شرق المتوسط الذي دعت إليه إيطاليا وجمهورية قبرص واليونان وإسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية. وكان أحد الأهداف الرئيسة للمنتدى هو الاستفادة من مرافق الغاز الطبيعي المسال في مصر؛ بغرض تبسيط نقل الغاز الطبيعي من المنطقة إلى أوروبا. ولا يستبعد هذا المسعى تركيا الفقيرة في الطاقة فحسب؛ بل يقوض أيضاً طموحها طويل الأمد في أن تصبح منصة عبور حيوية للغاز الأجنبي إلى أوروبا. وتعزز أنقرة هيبتها الأيديولوجية في أعين مختلف الدوائر الانتخابية في معظم أنحاء المنطقة وخارجها.

الخلاصة

إن دعم جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من كونه حقيقة ثابتة على المستوى التكتيكي، لم يكن في حد ذاته دافعاً أساسياً وراء قرار الأتراك بالذهاب إلى ليبيا، والواقع أن القومية المتطرفة لعبت دوراً أكبر كمحرك أيديولوجي لهذا القرار مقارنة بالإسلام السياسي. وفي جميع الحالات، فإن التفكير الذي تقوم عليه سياسة أنقرة الخارجية لا يتسم بالبرجماتية كما يزعم بعض أنصارها.

وهم يزعمون أنها تعمل على إنتاج “دبلوماسية قسرية”، أو ديناميكية من شأنها أن ترغم منافسيها على الإذعان لتكوين جيوستراتيجي جديد. وفي نهاية المطاف، فإن قبول تسوية تفاوضية قابلة للتطبيق ومرضية لأنقرة، قد يدفع الأمور في هذا الاتجاه؛ ولكن حتى وقت كتابة هذا التقرير، لا توجد أدلة ملموسة تشير إلى أنها سوف تسير في هذا الاتجاه. وحتى الآن لم تتمكن لعبة أنقرة في ليبيا من تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية.

وفي الوقت ذاته، فإن رغبة تركيا متزايدة الحدة في فرض نفسها في الخارج بطريقة عدوانية تخدم غرضاً داخلياً لقادتها. فلدى أردوغان وشركائه حافز قوي لصرف انتباه الرأي العام التركي عن أزمة الديون الصعبة التي خرجت عن نطاق السيطرة، والتي أدت إلى خفض قيمة الليرة بالدولار إلى النصف في غضون عامَين، وألحقت ضرراً بالاقتصاد الحقيقي. وهذا يعني أن الهزيمة الساحقة التي لا لبس فيها هي وحدها القادرة على اقتلاع الطاغية التركي من ليبيا في غضون السنوات القليلة المقبلة.

 

المصدر: كيو بوست عن معهد فورين بوليسي للأبحاث

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر