سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
في خلال أقل من 15 يومًا فقط (النصف الأول من شهر أغسطس)، أعلن الرئيس ترمب استعداد الولايات المتحدة لاستخدام القوة المسلحة ضد كلٍّ من كوريا الشمالية وفنزويلا، وفرض عقوبات جديدة على إيران. هذا الأمر يدل على تشكُّل هيكلٍ جديدٍ لمصطلح محور الشر Axis of Evil، وهو المصطلح الذي تردّد أولًا على لسان الرئيس الأميركي جورج و. بوش في خطاب ألقاه بتاريخ 29 يناير 2002 ليصف به حكومات كلٍّ من: العراق، وإيران، وكوريا الشمالية. وقد استخدم هذه العبارة – بحسب ما ذكر – لأنه يعتقد أن تلك الدول تدعم الإرهاب، وتسعى لشراء أسلحة الدمار الشامل. كما أشار السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة آنذاك، جون بولتون، في خلال أحد الخطابات في مايو 2002، إلى بعض البلدان بعبارة “ما وراء محور الشر”(Beyond the Axis of Evil) ، مشيرًا إلى كلٍّ من: ليبيا، وسوريا، وكوبا. على حين أشارت وزيرة خارجية الولايات المتحدة، كوندوليزا رايس في يناير 2005 إلى كلٍّ من: كوبا، وروسيا البيضاء، وزيمبابوي، وميانمار، بعبارة “ركائز الاستبداد”(Outposts of Tyranny) . ويرى الكثيرون أن فكرة بوش هذه هي التي قادته لبدء ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب”.
فلماذا أعادت واشنطن استخدام السياسة السابقة؟ وهل هي جادة في استخدام القوة تجاه الدول السابقة؟
إجابة السؤال السابق، ترتبط بالأساس وبشكل مباشر بالحركة النشطة لكلٍّ من الصين وروسيا لملء الفراغ الناشئ عن عجز واشنطن عن التعاطي الفعال مع العديد من المشكلات الدولية.
فمع سقوط الاتحاد السوفييتي، اعتقدت الولايات المتحدة،أنها قد حققت الانتصار الكامل على السوفييت بتفكك حلف (وارسو)، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه. كما اعتقدت أنها قد نجحت في ترسيخ نظام رأسمالي عالمي يحكم الحياة الاقتصادية في العالم تكون هي في مركزه. وعلى المستوى الفكري والإعلامي، أخذ الفكر السياسي الأميركي، يروج لانتصار الساحق للرأسمالية على الاشتراكية والنموذج الأميركي. على هذا الأساس،أعادت الولايات المتحدة توجيه سياستها العالمية من الاهتمام بالشأن العالمي بشكل متكامل، وفق نظرية الدومينو، إلى التركيز على مناطق بعينها يمكن أن تشكل لها تهديدًا، أو منافسًا لها في المستقبل. فكان التركيز على إعادة ترتيب البيت الأوروبي، وفق تصور قائم على الفصل بين أوروبا العجوز (كما سماها دونالد رمسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق)، وبين أوروبا الجديدة، وهي دول أوروبا الشرقية سابقًا، التي يجب أن تكون خاضعة لواشنطن لا لبرلين.
أولى المناطق التي خرجت من الاهتمام الأميركي، كانت أميركا اللاتينية، إذ تركت المنطقة أسيرة تفاعلاتها الداخلية دون تدخُّلٍ فعليٍّ، وساهمت التحولات الديمقراطية التي شهدتها بعض دول القارة اللاتينية، في تمكين القوى اليسارية من جديد، من اكتساب القوة اللازمة لفرض التغيير وإحداثه، سواء عبر تحولات ديمقراطية أو انقلابات ثورية أطاحت النظم العميلة الموالية لواشنطن. وبدأت تظهر نماذج اشتراكية جديدة في العديد من دول أميركا اللاتينية، تباينت فيما بينها في نسبة المزج بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين المساواة والحرية، مع حرص بعضها على الحفاظ، قدر الإمكان، على روابط وثيقة مع الولايات المتحدة والمؤسسات المالية للنظام الرأسمالي العالمي.
ثم أخذت النزعة المناهضة للهيمنة الأميركية بالتمدد والانتشار عالميًا، والتحول من النطاق الإقليمي إلى النطاق الدولي، مع ظهور منظمة البريكس – التي أوصلت كلاً من روسيا والصين إلى الخاصرة الجنوبية للولايات المتحدة – التي شكلت عامل استفزاز شديد لواشنطن، خصوصًا على ضوء العضوية البارزة للبرازيل التي كان لها سياسات اقتصادية ضربت الهيمنة الأميركية ومرتكزات التبعية للولايات المتحدة في العمق، وخاصة الاحتكارات الأميركية وعملاءها المحليين، ثم جاءت سياسات الرئيسة الأرجنتينية، كريستينا كوشنر، التي أهانت السياسة الأميركية من على منبر الأمم المتحدة، وأوضحت مدى فشل الولايات المتحدة في إدارة شؤون العالم بعد الحرب الباردة.
في تلك الأجواء المناهضة لواشنطن، تبلور الدور الفنزويلي بقيادة الرئيس شافيز، الذي استطاع أن يعيد سيطرة الدولة على قطاع النفط، وأن يعزز من دور منظمة أوبك بشكل ساهم إلى حدٍّ ما في ارتفاع سعر النفط، واستخدم الخصيلة في تمويل برنامج “البلوك والحليب” الاجتماعي لعلاج مظاهر الفقر والتخلف التي يعاني منها ما يناهز نصف سكان فنزويلا. وهذا وضع سعى إليه الرئيس البرازيلي السابق دي سيلفا، الذي استطاع تحقيق طفرة اقتصادية، وتمويل البرامج الاجتماعية، ونقل الملايين من البرازيليين من الفقر، وتوسيع الدور الدولي لأكبر دولة في أميركا اللاتينية.
غير أن تجربة فنزويلا في الإنعاش الاقتصادي، وفي التحرر من القبضة الأميركية، أقل ما توصف به أنها سطحية ويغيب عنها التخطيط. فعلى الصعيد الاقتصادي، استهلكت برامج الضمان الاجتماعي التي تبنتها الحكومة، كل عوائد الطفرة النفطية دون أن تهتم الدولة باستقطاع جزء من عوائد تلك الطفرة وتوظيفها في برامج تنمية اقتصادية حقيقية، تُمكِّن الدولة من أداء الأدوار المطلوبة منها في أوقات انخفاض أسعار النفط. والنتيجة الآن، ارتفاع معدل التضخم إلى 720%، وانكماش الاقتصاد بنسبة 8%، وانخفاض إنتاجها من النفط بنسبة 25%، واتجاه الشركات العالمية التي كانت تستثمر هناك إلى مغادرة الأراضي الفنزويلية، وأصبحت الدولة بشكل عام تعاني من انهيار العملة وعدم توفر السلع (ومنها الأدوية)، والنقص الشديد في الطاقة.
على المستوى السياسي، فمع أن اليسار الجديد بقيادة هوجو شافيز وصل إلى السلطة بالطريق الديمقراطي، إلا أنه بدأ يتخذ إجراءات تتناقض مع مبادئ الديمقراطية. ورغم أن العالم اتجه فعلاً نحو الاقتصاد الحر، فإن يسار فنزويلا يسبح عكس التيار العالمي بخططه لتأميم القطاعات الاقتصادية المهمة في فنزويلا، فقد استغل شافيز سيطرته على البرلمان لتمرير مشروع قانون في 2007, يمنحه سلطة الحكم بواسطة مراسيم لها قوة القانون لمدة العام ونصف العام دون الرجوع إلى البرلمان. وأعلن شافيز أنه يحتاج إلى هذه الصلاحيات لإصدار “قوانين ثورية” بهدف إدخال تغييرات جوهرية على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد.
والخلاصة أن اتجاه فنزويلا نحو الشمولية، في عصر أصبحت فيه الصورة الخارجية للدولة تقاس بمدى ديموقراطيتها ومدى احترامها لحقوق المواطنين المدنية والسياسية، أدى إلى عزلتها. ومن هنا، كان الاتجاه إلى إقامة تحالفات مع بعض النظم اليسارية في أميركا اللاتينية، بخاصة في ظل الحرب الباردة الناشبة بينه وبين الولايات المتحدة. كما امتدت سياسات كاراكاس الخاطئة إلى الدخول في تحالف مع إيران، فقد ربط الرئيس شافيز بين انقلاب 2002 عليه، وانقلاب 1953 على حكومة محمد مصدق في إيران، واستخدمه كذريعة لتعزيز علاقة بلاده مع طهران – متناسيًا أن هناك فرقًا كبيرًا بين حكومة محمد مصدق التي كانت تعبيرًا عن حراك شعبي يهدف إلى تحرير مقدرات الشعب الإيراني من أيدي المحتل البريطاني وصديقه الأميركي، وبين نظام سياسي يستخدم الدين من أجل الهيمنة في الإقليم – وبالفعل تمثل المرحلة التاريخية من 2005-2012، وهي فترة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد الذي يمثل التيار الديني المتشدد، أفضل المراحل التي شهدت نموًا وازدهارًا للعلاقات بين الجانبين، إذ استفاد نجاد من علاقاته الشخصية بهوجو شافيز، في تفعيل أواصر التعاون بين الجانبين وفي جعل كاراكاس بوابة إيران الرئيسة في أميركا اللاتينية، وهو ما مكَّن إيران من الحصول على تعهدات من الحكومات المتعاقبة هناك بدعم إيران في مختلف توجهاتها الخارجية. في نفس الوقت الذي لم تجنِ كاراكاس أي فائدة تذكر من دعمها لإيران، لم نسمع عن الدعم التجاري واللوجستي الإيراني الذي ترسله لفنزويلا.
والآن، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، تعمل حكومة الرئيس نيكولاس مادورو، على تعزيز علاقاتها العسكرية مع موسكو من خلال التدريبات العسكرية للدفاعات الجوية الفنزويلية، والتدريبات على إطلاق الذخيرة الحية من الراجمات. كما أخذت في إنجاز صفقات تسليح مع موسكو، وتوسيع التعاون العسكري- التقني المشترك.
أخيرًا، يمكن القول إن خيارات كراكاس الخاطئة على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي، قد قاد إلى الوضع السيئ الذي وصلت إليه البلاد بشكل ينبئ بتحولها إلى دولة فاشلة.
هذه السياسات غير المحسوبة، جعلت العديد من أعضاء الكونجرس يحذِّرون من تكرار واشنطن لنفس الأخطاء المتكررة بشأن التهاون في الدور الإيراني والروسي داخل أميركا اللاتينية، بما يحمله من مؤشرات خطيرة وتهديد لمستقبل الولايات المتحدة.
أكاديمي وباحث في العلوم السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر