سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
خالد كاظم أبو دوح
دائما تكشف الأزمات السمات المخبوءة في بنية المجتمع ومجالاته، وأبرزها تلك الأزمات التي تهدد حياة الأفراد واستمرارية الاجتماع والعمران الإنساني بشكل مباشر، والتي تحمل في طياتها الخطر وعدم اليقين؛ خطر أن يدق الموت بابك بشكل مباشر، أو أبواب من حولك، وعدم اليقين حول مستقبل هذا الخطر، ومتى وكيف ينتهي؟ ووفقًا لتلك المعاني السابقة، أعتبر أزمة تفشي فيروس الكورونا «كوفيد-19»، إحدى الأزمات الكاشفة التي تضرب أرجاء العالم، بلا رحمة أو هوادة.
ويعتبر علم الاجتماع الأوبئة والأمراض المعدية والفيروسات القاتلة، من أقوى أنواع الخطر وأكثرها دلالة؛ تكمن قوتها في حصد الأرواح، وتتضح دلالاتها في الكشف عن خفايا البنية الاجتماعية برمتها، وأنها اختبار حقيقي للإنسان ونوعيته، حيث إن هذا الخطر قد يخرج أحسن ما لديه، أو أسوأ ما يخفيه. وتعد مواجهة الأمراض والأوبئة بمثابة حرب، لكن لا تخوضها الجيوش والدولة بشكل اعتيادي أو بمفردها؛ لأنها حرب تحتاج للكل «الـ نحن» القوية، في سياق فعل جماعي متناغم وقوي. وتزداد صعوبة هذه الحرب في الدول التي تجد نفسها لا تواجه الوباء أو المرض فحسب، لكنها تواجهه إضافة إلى سنوات الإهمال والجهل والفقر والظلم وانعدام المساواة وتدهور الثقة.
يظهر للوهلة الأولى أن تفشي وباء الكورونا كمشكلة فردية، تتمثل في خوف كل شخص من الإصابة أو العدوى، ويمكن أن نتأمل ذلك على ضوء أطروحة «رايت ميلز» Wright Mills حول «الخيال الاجتماعي»، والتي تشير إلى ضرورة التفكير في مشاكلنا الشخصية – مشكلة الخوف من الإصابة بفيروس الكورونا – وفهمها على ضوء القضايا الكبرى، خاصة وأننا في أغلب الأوقات لا نربط مشاكلنا الشخصية بقضايا المجتمع ككل، وقد نعتقد أن مشاكلنا الشخصية يمكن حلها من خلال آليات التأقلم الفردية وحدها، وفي ظل هذا الفهم، تبقى حقيقة واحدة مؤكدة هي أن: فيروس الكورونا وباء عالمي وقضية عامة ومصدر للقلق في العالم كله، ويمثل هذا الاعتراف مجرد بداية، وبعدها يصبح من المهم التقدم نحو فهم هذه المشكلة والكشف عن جوانبها الأخرى.
ولكي نتقدم خطوة ثانية في التحليل، يمكن لنا أن نجد في مقاربة «أولريش بيك» Ulrich Beck حول مجتمع المخاطر العالمي بعض المفاهيم المفسرة لحالنا في ظل هذا الوباء، فلقد أكد «بيك» على أن المخاطر العالمية الناتجة عن التغير المناخي وانتشار الأمراض المعدية والأوبئة عبر العالم، هي إحدى سمات عالمنا الرأسمالي المعاصر، وأنه في سياق كهذا يجب على الأفراد والحكومات والشركات والدول، أن يكونوا قادرين على التعايش مع المخاطر ومواجهتها والتكيف معها، عبر مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك الصحة والمرض. ولقد أكد «بيك» على أنه في حال حدوث أي كارثة أو وباء عالمي، فإن التأثير سوف يكون مدمرًا ويصعب احتواء تداعياته، ولعل هذا بعض ما يتجسد أمامنا ونحن نتابع تطور وسرعة انتشار وباء الكورونا، وحصده لآلاف الأرواح عبر العالم.
على ضوء التحليل السابق، يجب أن نفهم وباء الكورونا، ليس باعتباره مشكلة فردية فحسب، بل خطرا عاما، ومصدرا للقلق يطول الجميع، وعلى هذا الأساس يذكر «بيك» أن هناك ثلاثة ردود أفعال تجاه أي خطر عالمي يمكن أن نعايشه: الإنكار، أو اللامبالاة، أو التغيير. من خلال الإنكار نتصرف كما لو كان الخطر غير موجود. أما من خلال اللامبالاة يمكن للمرء أن يعترف بالخطر دون أن يعطيه أي اهتمام. وبالنظر إلى الواقع القائم في غالبية دول العالم بسبب «وباء الكورونا» لا يمكن الاعتماد على الإنكار أو اللامبالاة، لذلك لا سبيل لنا إلا من خلال التغيير، فمن خلاله يجب على كل شخص إعادة النظر في تصرفاته، وأن يتوافق مع الإجراءات الجماعية العالمية التي ينصح بأن يلتزم بها الجميع.
يجب على كل فرد أن يؤمن بأنه لا خيار أمامه إلا أن يساهم في هذا العمل الجماعي لاحتواء الوباء ووقف انتشاره، حتى لو كنا تحت قيود الحجر الصحي والمنزلي.
ظاهريًا، تبدو جهودنا فردية وشخصية بشكل بحت، وليست على قدم المساواة، مع جهود بعض الأفراد في الحكومة وبعض وزاراتها أو المؤسسات الخدمية، وجهود جميع العاملين في المجال الصحي، ولكن إن بقينا في منازلنا، كما نصحنا الخبراء، وأشارت علينا الحكومة، وتوقفنا عن نشر الأخبار الكاذبة حول الوباء، والتي تغذي الخوف والقلق والارتباك، وتحكمنا في تصرفاتنا وابتعدنا عن السخرية والاستهتار، وتصرفنا بما يراعي معاناة من يقفون في خط الدفاع الأول ويواجهون الخطر، وشاركناهم التضامن واشعرناهم أننا نلحظ جهودهم ونقدرها، وبحثنا عمن تضرروا من الوباء، وعانوا بسببه أكثر منا، وقدمنا لهم الدعم والمساعدة بما يتناسب مع إمكانياتنا ومواردنا مهما كانت قليلة، وقدرنا جهود الحكومة ووثقنا في إدارتها، وفق ما هو متاح لها من موارد وإمكانيات، فإننا بكل هذا نقدم خدمةً كبيرةً وفعلًا عظيمًا ليس لأنفسنا فحسب، بل وللأخرين أيضًا. فبالرغم من أن وباء الكورونا بمثابة «خطر عالمي» إلا أن هذا لا ينبغي أن يخدعنا بأن جهودنا الفردية غير ذات أهمية.
يتضمن علم الاجتماع مقاربات عديدة؛ تُحمل الرأسمالية والسياسات الليبرالية الجديدة مسؤولية ما يحدث من مخاطر وكوارث، وتغيير مناخي في العالم، وأن هذه السياسات سبب مباشر لترسيخ انعدام المساواة وزيادة نسب الفقر والفقراء في العالم، منها ما أشار إليه «أنتوني لوينشتاين» في كتابه بعنوان «رأسمالية الكوارث» قائلًا: لقد خلقت السياسات الرأسمالية للدول الكبرى مآسي وكوارث لشعوب كثير من الدول تحت شعار «تحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والأعمال الإغاثية»، إذ أن النتائج دائمًا ما كانت سلبية وبعيدة عن المخطط له، فضلا عن أنها حاولت إطالة أمد هذه الكوارث ليصبح الأمر أشبه ما يكون بتجارة كبرى تدر المليارات على الشركات والمقاولين.
ولقد تبنت كثير من الدراسات في علم اجتماع الصحة والمرض والأوبئة مثل هذه المقاربات، وأكدت الدراسات في هذا السياق على أن الكثير منا يعرف أن الأوبئة والأمراض المعدية كانت في الماضي، وهذا خطأ، لأننا لم نتخلص من الأمراض المعدية والأوبئة، ونحن منذ 1980م نعايش مرحلة العودة الجديدة للأمراض المعدية، مثل: «فيروس هانتا» و«الجمرة الخبيثة» و«السارس» و«الإيبولا» وغيرها، وهذه الأمراض والأوبئة مخيفة جدًا، وتسببت في معدلات وفيات كبيرة، إلا أن سمتها الوحيدة أنها كانت بعيدة عن مجتمعاتنا، لذلك لم ندرك خطورتها، ولم نرها إلا عبر الأخبار على شاشات التليفزيون، ولأن الحياة الحديثة معقدة ومشغولة للغاية، لم نقلق بشأن الدول أو الأشخاص الذين لا نعرفهم ويعيشون في أماكن بعيدة عنا، وعانوا أو ماتوا بسبب شيء لا نعرفه.
هذا الأمر يدعو للتفكير، وطرح فكرة انعدام المساواة حتى في الصحة والمرض، التي ترسخت مع السياسات الرأسمالية. فبالرغم من أن العالم الحديث يمتلك -أو يعتقد أنه يمتلك- اللقاحات والنظم الصحية الجيدة، والغذاء الصحي، والهواء النقي، والمسكن الجيد، إلا أننا لسنا على قدم المساواة في ذلك، هناك غالبية من البشر لا يعيشون على النحو المأمول، بل يعيشون دون خط الفقر، فهذا العالم يتسم بقدر كبير من عدم المساواة، حيث تعاني القلة من فرط الوفرة والرفاهية، وتكافح الأغلبية من أجل الوصول إلى الحد الأدنى من أساسيات الحياة، تحصل القلة على رعاية صحية مذهلة بينما تفتقر الغالبية إلى أدنى مستويات الرعاية الصحية، وقد يموتون بسبب أضعف الأمراض وأبسطها، وقد يموتون من الجوع، وقد يموتون من فرط أعباء الحياة التي يحملونها على أكتافهم. تأمل هذا المشهد الراهن في ظل «وباء الكورونا»، حيث بيننا جماعات من البشر لا يمتلكون رفاهة الحجر الصحي، لأنهم لا يمتلكون قوت يومهم، ولا تمتلئ خزائن منازلهم إلا بالفراغ، فهم يتحصلون على قوت اليوم في يومه.
يؤكد علماء الاجتماع – أيضًا – أن تاريخ العمر المتوقع للحياة البشرية هو قصة الثروة والفقر في هذا العالم الرأسمالي، فلا يجب أن نكون أغنياء لكي نكون في صحة وعافية وسلامة، إلا أنه من المؤكد أننا إن كنا فقراء فسوف نعاني من نقص في التغذية وفقدان للرعاية الصحية والاجتماعية، وعدم القدرة على الوصول للطعام النظيف والمياه والهواء، وسوف تكون المحصلة أن نمرض ونعاني من صور عديدة من المرض أو الوهن الجسدي.
مقاربة أخرى، تربط بين السياسات الرأسمالية والإنسان الحديث وتدمير النظام الإيكولوجي، وهذا ما ساهم في ظهور الأوبئة والأمراض والفيروسات، التي تنتقل من الحيوان إلى الإنسان. وفي هذا السياق نجد أن المساحة المشتركة بين علماء الأوبئة وعلماء الاجتماع، تتمثل في الفهم الإمبيريقي والاعتقاد في أن الطريقة التي يعيش بها الناس تخلق أنماط الصحة والأمراض التي يعانون منها، ويجب ألا نتجاهل حياة وحركة الحيوانات والنباتات والكائنات الحية الأخرى، وهذا ما يشكل النظام الإيكولوجي أو البيئي الذي ترتبط فيه حركة الإنسان بحركة الحيوان والنبات، فمن سمة هذا الكون تناغم أنظمة حياة البشر في حالتها الطبيعية والمثالية مع أنظمة حياة الكائنات الحية الأخرى.
تؤثر الطريقة التي تنتظم بها حياتنا الاجتماعية على بيولوجيا أجسادنا، وعلى حالة كوكب الأرض، هذه فكرة جوهرية في علم اجتماع الصحة والمرض. فعندما نُفرط في استخدام المضادات الحيوية، أو نسئ استخدامها، فإننا نُصعب من القدرة على إيقاف المرض، عندما نقوم بقطع الأشجار والغابات وبناء السدود والمدن، وتشريد أعداد كبيرة من الناس والحيوانات، فإننا نخلق الفقر وعدم المساواة، وندمر النظم الطبيعية للبيئة المستقرة. وعندما نجعل البشر على اتصال دائم وقريب من الحيوانات التي هجرت بيئاتها الطبيعية، فإننا نزيد من احتمالية مشاركتنا الأمراض معهم، ونخلق فرصة لانتقال الفيروسات منها إلينا أو العكس، وعندما نجبر بعض الناس على ترك أراضيهم والخروج من بيئاتهم، وهجر طرق حياتهم التقليدية، للعمل مقابل أجور منخفضة في المصانع وغيرها، فإننا نخفض من مستوي صحتهم العامة، ونجعلهم ضعفاء جسديًا، ونهيئ كل الأسباب لضعفهم البدني أو لمرضهم.
الخلاصة هنا، أن الارتفاع في نسبة الأمراض المعدية والأوبئة، يتزامن مع انتشار السياسات الاقتصادية والليبرالية الجديدة، التي حولت كل شيء إلى سلعة، وأضعفت من قدرة الدولة ودورها في صنع السياسات الاجتماعية المركزية، فالسبب الرئيس في انهيار عدد من الدول الغربية في مواجهة «وباء الكورونا»؛ هو خصخصة الرعاية الصحية، وتراجع بل انسحاب الدولة من هذا المجال الاستراتيجي. حتى بعض المهن السامية، حولتها الرأسمالية إلى سلعة، فمثلا الأطباء الذين يقفون في خط الدفاع الأول ضد وباء الكورونا، هم أصحاب مهنة، وصدى القسم الذي أقسموه عند تخرجهم مازال يتردد في آذانهم وقلوبهم، ويتجسد في أفعالهم، وهم بالتأكيد مختلفون تماما عن أولئك الأطباء الذين كنا نراهم صباحًا ومساءً عبر شاشات التليفزيون، يكلموننا عن عمليات التجميل للجسد والأسنان، وعن نظم الريجيم وغيرها، فهؤلاء حولوا مهنة الطب إلي سلعة، وللأسف، الصنف الأول من الأطباء يعيشون ويموتون فقراء، أما الصنف الثاني فسوف يصبحون في أقرب وقت جزءا من رأسمالية الطب والرعاية الصحية، ويزدادون ثراء.
المصدر: أصوات أونلاين
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر