سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
علي نوار
يحفل المجال العام حالياً بعوامل تدفع باتجاه التعايش مع أجواء سيادة العرق الأبيض، ومن هنا يحدث تطبيع كامل مع وجود أحزاب ومنظّمات وأشخاص يؤمنون بهذا الفكر، في المؤسّسات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
نشرت صحيفة “الباييس” الإسبانية، قبل أيام، عنواناً هو “الولايات المتحدة تضيف تفوّق البيض إلى قائمتها للإرهاب”، ظهر هذا النبأ بعد أيام قليلة من آخر هو: “كبير خبراء 11 سبتمبر: الإرهاب الجديد لن يكون منشأه في سوريا بل في أوكرانيا”، ويبدو أنّه لم يعد بالإمكان غضّ الطرف، أو إنكار هذه الحقيقة، حتى من داخل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ومن المثير حقاً أن نتعمّق في أوجه التشابه، رغم كلّ الاختلافات، وهي كثيرة، بين أوكرانيا وأفغانستان؛ فقد نشأ في البلد الآسيوي ما يُطلق عليه الإرهاب الجهادي منذ التدخّل الأمريكي، كما اعترفت السيدة الأولى ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، قبل أعوام، أثناء مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز”، وبهدف تشكيل هذه المنظمات في مواجهة الاتحاد السوفييتي، كما أنّ الدعم المادي والعيني والفكري، منذ عام 2014، (مليار دولار على الأقل للارتقاء بالقدرات العسكرية) الذي حصل عليه اليمين المتشدّد لتشكيل جماعات شبه عسكرية من النازيين الجدد في أوكرانيا، أثناء النزاع مع روسيا، معروف جيّداً، ومرة أخرى، تبيّن أنّ تقوية هذه التيارات الإرهابية عائد بصورة كبيرة إلى الاستخبارات الأمريكية، انطلاقاً من مصالح جيوسياسية، ومجدّداً يبدو أنّ الوحش قد كسر القيود وانفلت عياره.
وفي الوقت ذاته؛ ينشط هؤلاء الأشخاص في أحزاب سياسية تحظى بتمثيل داخل برلمانات دول مختلفة، مثل: ألمانيا وإيطاليا والمجر وهولندا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا، بل وحتى داخل المفوضية الأوروبية نفسها والمجلس الأوروبي، خاصة منذ الانتخابات الأخيرة؛ حيث حصلوا على ما يزيد عن 10% من المقاعد، وقد تسبّب ذلك، على سبيل المثال، في اقتراح إسناد ملف الهجرة إلى جهة جديدة تحت اسم “نيابة رئاسة حماية أسلوب حياتنا الأوروبي”، وهو القرار الذي لم يخرج إلى النور، انطلاقاً من فرضية الغزو الثقافي التي تتضمّنها أيديولوجية تفوّق العرق الأبيض، لكن النقطة هنا هي أنّ هذا الأمر يفسّر بوضوح العقلية التي تصوغ سياسات الهجرة منذ أعوام.
ففي دولة مثل إسبانيا، وجد “فوكس” لنفسه مكاناً بين الأحزاب السياسية الأخرى، وحقّق نتائج مهمّة للغاية خلال الانتخابات الأخيرة، ووصل الأمر إلى أن سعى حزب عريق، مثل “الحزب الشعبي”، إلى إبرام اتفاق مع “فوكس”، من أجل منح حزب يميني متشدّد آخر هو “إسبانيا 2000” حكم إحدى البلديات.
على الجانب الآخر، تمتلك هذه الأحزاب مقرّات ذات موقف قانوني سليم ومعترَف به، وتحصل أحزاب منها على قروض من المصارف والشركات من أجل تمويل حملاتها الانتخابية، لكن حالة “فوكس” تدعو للسخرية؛ حيث إنّه مموَّل من إيران، وهو الشيء الذي اعترف به الحزب نفسه، ولم يكن لذلك أيّة تبعات قانونية أو سياسية.
والحقيقة؛ أنّ هناك عنصريين يتقلّدون مناصب إدارية رفيعة في شركات كبرى قادرة على تحريك الأشخاص، ويدخلون في تشكيل مجالس إدارة شركات تنشط في مجالات مثل صناعة الأسلحة والأمن، مثل: رافائيل بارداجي، وشركة “إكسبال سيستمز”، بينما يتولّى آخرون إدارة وسائل إعلام خاصة، مثل: “برايتبارت نيوز” و”ريبيل ميديا”، تدافع هذه الوسائل عن فكر سيادة العرق الأبيض وتروّج لفرضية الغزو الثقافي.
ولم تخلُ وسائل الإعلام الرسمية من النماذج العنصرية القيادية أيضاً، ولعلّ أبرزها خوسيه أنطونيو سانشيز؛ الرئيس السابقة لشبكة “إر تي في إي” الحكومية، الذي حاول عام 2017، أثناء فعالية عقدت بمؤسسة (البيت الأمريكي)، الزعم بوجود جانب إيجابي لوصول الإسبان إلى القارة الأمريكية؛ حين صرّح بأنّ “إسبانيا لم تكن مستعمرة، بل نشرت الديانة المسيحية والحضارة”، ما تزال فكرة الحضارة الإسبانية المتفوّقة حاضرة.
ولا ينتشر العنصريون في وسائل الإعلام فحسب؛ بل لديهم وسائلهم الخاصة وبرامجهم التي يمكن متابعتها عبر التلفاز، أو الاستماع لها عبر الإذاعة، وهم ضيوف بشكل شبه دوري على وسائل الإعلام في الوقت الحالي، لكن تظلّ أهميتهم داخل هذه الوسائل محدودة للغاية، لا سيما من حيث القدرة على اختلاق ونشر “الأنباء الكاذبة”.
وقد تمكّنت المنظمات المتشددة والجهات التي لها علاقة بكبار منظّري اليمين المتشدّد، على مستوى العالم اليوم، من إنشاء معاهد أبحاث، مثل “جيتستون”، ومنصّات تستهدف التأثير في الرأي العام، انطلاقاً من اختلاق ونشر أنباء كاذبة والتلاعب بالبيانات الضخمة، ولعلّ الحالة الأشهر هي “كامبريدج أناليتيكا”، التي يديرها ستيف بانون، لكن هناك مؤسّسات أخرى، مثل “بالانتير”، وقد تكشّف الدور الكبير الذي لعبته في انتخابات الرئاسة بالولايات المتحدة والبرازيل، واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن الواضح أننا أصبحنا، مثلما يؤكّد أوين جونز؛ “في حاجة إلى الحديث حول الدور الذي اضطلعت به وسائل الإعلام في نشر تطرّف اليمين المتشدد”، خاصّة أنّ العنصر الرئيس هنا هو أنّ الخطاب المروّج للتعصّب بات يحظى باهتمام إعلامي.
وهذا هو أحد جوانب الاختلاف في المقارنة مع الأنماط الأخرى من الإرهاب، وهو: أنّ هؤلاء الأشخاص يعلو صوتهم بفضل وسائل التواصل الجماهيرية، وكما يقول أوين جونز: “من يغّذي هذا النوع من العنف هم السياسيون والمحلّلون ووسائل الإعلام التي تسير على خطّهم نفسه”، ويرى الكثير من النشطاء المناهضين للعنصرية أنّ خطاب أفضلية العرق الأبيض يقترن دوماً بالتركيز الإعلامي، عن طريق المقابلات والمؤتمرات والمنتديات؛ حيث يمكن وضع أجندات سياسية.
وتمتلك العنصرية مبالغ مالية هائلة ومصادر تمويل عديدة، فروبرت ميرسير ثري ويشرف على تمويل وإدارة “رينيسانس تكنولوجيز”، وعمل ميرسير، أحد مموّلي حملة ترامب، بالتعاون مع واضع الإستراتيجيات ستيف بانون، لتحويل “برايتبارت نيوز” إلى منصة لما يُطلق عليه اليمين البديل، أو “اليمين الأعلى”، وقد صكّ هذا المصطلح ريتشارد سبنسر، وهو من دعاة تفوّق البيض، ومؤيّد لترامب، ومدعوم مالياً من قبل الثري ويليام ريجنري، عبر مؤسسة “معهد السياسة الوطنية”.
نشر ريجنري سلسلة من الكتب المعادية للإسلام والمناهضة لليسار، لمؤلّفين مثل ديفيد هورويتز، مدير “مركز الحرية”، وبعد مساندته لترامب حتى انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، انفصل ميرسير عن بانون و”برايتبارت” واليمين الأعلى؛ فقد تمّ إنجاز العمل.
هناك أسماء أخرى، مثل: روبرت ميرسير، وآرون بانكس، وستيفن ياشلي-لينون، وروبرت شيلمان، وعيزرا ليفانت، وهاريس ميديا، وحتى ستيف بانون نفسه، تبرز على رأس قائمة الداعمين الماليين لحركة تفوّق العرق الأبيض حالياً.
ولا يقتصر وجود المؤمنين بالتفوّق الأبيض على حقل السياسة ووسائل الإعلام فحسب؛ فهؤلاء الأشخاص يظهرون داخل الكنيسة ذاتها، مثل: “الواعظين”، و”كتائب المسيح”، و”أوبوس داي”، كما يلتحقون بصفوف القوات المسلحة والشرطة، وهناك تقارير كثيرة تربط بين جماعة “كو كلوكس كلان” وأجهزة الأمن في عدد من الولايات الجنوبية الأمريكية.
وفي إسبانيا؛ توجد جماعة “الكتيبة الإسبانية”، كما تمّ مؤخّراً تسريب محادثات دردشة بين بعض عناصر شرطة العاصمة، مدريد، يذكر فيها إلقاء المهاجرين في البحر، وكهربة الأسوار الحدودية في سبتة، وكيل المديح للدكتاتور النازي، أدولف هتلر، كما تنتشر أفكار أيديولوجية سيادة البيض بشدّة بين العاملين في شركات الأمن الخاصة، وهو ما كشفته مقاطع فيديو متداولة في الفترة الأخيرة يظهر فيها هؤلاء الأشخاص يسيئون معاملة أفراد ينتمون لأقلّيات عرقية بدم بارد؛ حيث يوجّهون لهم السباب والتهديدات، ويصفونهم بالقتلة، وصولاً إلى الاعتداء بالضرب دون أي مبرّر.
كما يمكننا ملاحظة أيديولوجيا سيادة العرق الأبيض في إعلانات الإيجار التي تنصّ على عدم الترحيب بالأشخاص من ذوي البشرة السمراء، أو حتى التخلّص منهم سريعاً حين يأتون لمعاينة المنازل، وعندما يتوجّه الأشخاص من الأقلّيات العرقية إلى الوحدات السكنية المعروضة للإيجار، يُقابلون بعبارات مثل: “الأحلام هناك في وطنك”، أو “المكان لا يتّسع للجميع”، و”تأتون للعيش من المساعدات الاجتماعية”.
ويندفع الكثير من الأوروبيين والأمريكيين للدفاع عن، أو تبرير، الأفكار التي تروّج لها سيادة العرق الأبيض، مثل شيطنة المهاجرين، ووفق المركز الأوروبي للإحصاءات “يوروستات”؛ فإنّ الهجرة تأتي ضمن أبرز المشكلات من وجهة نظر المواطنين، كما أنّ معدّلات تراجع العنصرية أو أعداد الأشخاص الذين يندّدون بها ويعانون منها يجري التقليل من شأنها.
التعصّب الأبيض ينطبق على الأشخاص الذين يسيرون وراء الادعاءات الإعلامية حول العصابات أو الأنشطة الإجرامية للمهاجرين، وهؤلاء الذين يؤيّدون عدم إنقاذ أرواح البشر الذين يلقون حتفهم، ينطبق على من يقرّرون الذهاب إلى مراكز إيواء القصّر الأجانب كي يوسعونهم ضرباً، وعلى من يختلقون المبرّرات لذلك أو يحرّضون عليه في حديثهم داخل الحانات أو المنتديات عبر الإنترنت، كما يشارك كثيرون بصمتهم عند سماع هذه الذرائع على لسان أصدقائهم أو ذويهم.
رأينا التعصّب الأبيض في إنجلترا؛ حين ثار قطاع من المجتمع البريطاني بسبب قرار الأمير هنري الزواج من ميغان ماركل، التي تنحدر من أصول أفريقية، شاهدناه في ألمانيا هذه الأيام؛ على هيئة تظاهرات لآلاف من النازيين الجدد الذين ملؤوا الشوارع ببعض مدن البلاد، أظهر نفسه في شكل الفصل بين القصّر وعائلاتهم واعتقالهم مثلما يجري على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
هناك إحصائية تفيد بأنّ “73% من جرائم القتل السياسية المسجّلة في الولايات المتحدة، منذ 12 أيلول (سبتمبر) 2001، هي نتيجة أعمال عنف ارتكبها اليمين المتشدّد”، لكنّ الرواية الإعلامية لم تتغيّر، رغم ذلك، وما يزال الحديث يدور حول المهاجرين المسلمين والجهاديين، نلحظ التعصّب الأبيض عند التعتيم على التقارير التي تعدّها الجهات المهتمة بالقضاء على التمييز العنصري، ولا يتمّ فعل شيء حيال هذا الأمر.
كما يمكن رصد هذا التشدّد في التدخلات العسكرية بحجة تقديم المساعدات الإنسانية أو “إيصال الديمقراطية على رؤوس الصواريخ”، والحال نفسه في التدخلات الأجنبية عن طريق الشركات متعدّدة الجنسيات، وكذلك فرض ظروف وعوامل تجبر المستعمرات السابقة على الاستمرار في التبعية بدرجة ما للدول التي احتلتها في السابق عن طريق اتفاقات مجحفة، ويُلحظ أيضاً في الطابع الأبوي عند زيارة رئيس أوروبي لمستعمرة سابقة، مثلما فعل الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، عند زيارته للسنغال، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حتى المحكمة الجنائية الدولية تلاحق حصراً شخصيات غير أوروبية، والأفريقية على وجه التحديد.
العنصرية البيضاء هي 50 ألف شخص ابتلعتهم مياه البحر المتوسط على مدار الأعوام الـ 30 الماضية، ولا مبالاة سياسات الهجرة الأوروبية بهم، تُترجم أيضاً إلى مراكز احتجاز الأجانب وحملات المداهمة العنصرية، وقوانين الأجانب، والمحتوى التعليمي في المدارس، حين يتجاهل الفترات الاستعمارية والعبودية، هي الاحتفاء بيوم وصول كريستوفر كولمبس إلى الأمريكيتَين، في 12 تشرين الأول (أكتوبر) من كلّ عام، هي إعلاء القيم الأوروبية فوق القانون وتمجيد الماضي الاستعماري، هي غياب الشخصيات غير البيضاء عن وسائل الإعلام، وإجمالاً فرض ثقافة البيض، وتمكينها من الهيمنة.
كم عدد الأشخاص في أوروبا الذين لا يعتقدون حقاً بأنّ الحضارة البيضاء، التي يجري تبييضها لأنّها ليست ناصعة البياض لهذه الدرجة، أسمى من الأخريات في نواحي مثل التطور والحداثة والكفاءة… إلخ؟ كم عدد هؤلاء الذين لم يبرّروا الماضي الاستعماري، انطلاقاً من أفكار مثل تلك التي تسود حالياً عن كيف أنّ الاحتلال أسدى خدمة لهذه الشعوب ببناء الجامعات لهم على الأقل؟
يحفل المجال العام حالياً بعوامل تدفع باتجاه التعايش مع أجواء سيادة العرق الأبيض. ومن هنا؛ يحدث تطبيع كامل مع وجود أحزاب ومنظّمات وأشخاص يؤمنون بهذا الفكر، في المؤسّسات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في النهاية، تجري إشاعة الغزو الثقافي والترويج للهمجية الجديدة والعنصرية الثقافية، أو حتى التأكيد على الطبقية بين الحضارات، بغرض تطبيع أفضلية العرق الأبيض، وكلّ ذلك يحدث من حولنا وبشكل ممنهج.
بالطبع يعُدّ تفوّق البيض مرادفاً للعنصرية، والأخيرة هي إحدى الأساسات الهيكلية في مجتمعاتنا منذ نحو 500 عام؛ لذا فإنّها في واقع الأمر أخطر بكثير إذا تفشّت بصورة أكبر مما هي عليه الآن، مقارنة بالإرهاب بكلّ أشكاله، نظراً إلى قدرتها على الانتشار، لا سيما داخل المجتمعات العنصرية بالفعل؛ لذا ليس من المستغرب أن تعود جذور النازية والنازيين الجدد إلى عام 1492، الذي شهد ميلاد النظام العنصري الاستعماري.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر