يضاف الى ذلك ان مشكلة تلك الفكرة تكمن في تجاهل بوتين أن العالم متعدد الأقطاب فعلا وأن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع فرض خياراتها أو أولوياتها بمعزل عن الأطراف الأخرى، وضمنهم أوروبا واليابان والصين، وبدرجة أقل روسيا. وتاليا فإن الرئيس الروسي لا يدرك، أو لا يريد أن يدرك، انحسار مكانة روسيا على الصعيد الدولي، وأيضا تراجع مكانتها في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بالقياس للأقطاب الأخرى، إذ لا يمكن المساواة، حتى في عالم متعدد الأقطاب، بين أقطاب غير متساوين، حيث إن حصة كل قطب تتحدد تبعا لقدراته وإمكانياته ومنتجاته، وما يصدره للبشرية.
في المحصلة لا يوجد في جعبة الرئيس بوتين ما يؤيد مسعاه سوى واقع أن روسيا تمتلك القوة النووية الأكبر في العالم وهو ما فتئت تلوّح به أمام الجميع، منذ غزوها أوكرانيا. أما استحواذها على مخزونات هائلة من النفط والغاز، فهذه لم تعد ميزة، مع نجاح أوروبا بتفويت التهديد الروسي بالطاقة، وفك ارتباطها بها، بإيجادها مصادر بديلة، وبتحفيز التحول نحو الاعتماد على الطاقة الخضراء، وتوسيع الاستثمار فيها.
هكذا، ثمة عدد من المسائل تلفت الانتباه في منطلقات “استراتيجية السياسة الخارجية الروسية”، التي أُعلنت مؤخرا (سبوتنيك عربي- 31/3/2023)، لعل أهمها يكمن في:
أولاً، اعتبار الولايات المتحدة المصدر الرئيس للمخاطر على أمن روسيا، و”أن روسيا تعتزم إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة على الشؤون العالمية”. أي إنها قسمت العالم إلى قسمين، بناء على الموقف من غزوها أوكرانيا، علما أن ثمة دولا قليلة ساندتها في ذلك، هي: بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإريتريا. في حين فضلت دول أخرى عدم تأييد الغزو، من دون إدانة روسيا، بمعنى النأي بالنفس، وهذا يشمل الصين، وحتى إيران، في حين أدانت الغالبية العظمى روسيا.
ثانيا، تمييز علاقاتها مع الصين أكثر من أي طرف دولي آخر، رغم أن هذه لم تبد تأييدا لروسيا. وبحسب فو كونغ، السفير الصيني في بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) فإن “الصين لم تقدم مساعدة عسكرية لروسيا، ولم تعترف بعمليتها العسكرية لضم الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم ودونباس”، مشيرا إلى أن بلاده لم تدن العملية الروسية في أوكرانيا، لأنها فهمت مزاعم روسيا بشأن حربها الدفاعية ضد توسع الناتو”. بل إن السفير نفى وجود “صداقة بلا حدود”، معتبرا ذلك مجرد تعبير بلاغي. (“نيويورك تايمز”- 5/4/2023). وتفسير ذلك أن تجارة الصين مع روسيا تبلغ (200 مليار دولار)، في حين أنها أكبر بأربع مرات مع الولايات المتحدة (800 مليار دولار) وبثلاث مرات مع أوروبا (600 مليار دولار)، هذا عدا اعتماد الصين في التكنولوجيا المتقدمة على الغرب.