في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وافقت “منظمة البلدان المصدرة للبترول” (أوبك) والدول الـ10 الشريكة لها [أي مجموعة أوبك+] على خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً. وجاء القرار متوقعاً وصادماً في آن معاً. بدا القرار متوقعاً، لأن “أوبك +” بقيادة السعودية، بعثت قبل ذلك برسائل سريعة عن خطط تهدف إلى خفض إنتاج النفط. في المقابل، جاء القرار صادماً لأن السعودية والولايات المتحدة شريكان أمنيان مقربان، وقد وجه كبار المسؤولين الأميركيين نداءات شخصية متكررة إلى السعوديين من أجل الإبقاء على مستويات الإنتاج عالية. وقد عقد كثير من أولئك المسؤولين الأمل على أن تبدي الحكومة السعودية تعاوناً، لا سيما في ضوء ارتفاع أسعار البنزين والضغوط التضخمية الأوسع نطاقاً. في الواقع، وفقاً لتقرير حديث نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، اعتقد كبار مساعدي الرئيس الأميركي جو بايدن أن واشنطن توصلت إلى اتفاق خاص تزيد السعودية الإمدادات بموجبه. وعوضاً عن ذلك، أصيب البيت الأبيض بصدمة كبيرة حينما اجتمع وزير الطاقة السعودي مع نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك الخاضع لعقوبات أميركية، ثم أعلنا خفض الإنتاج.
في المقابل، رد صناع السياسة والمحللون الأميركيون على القرار السعودي بتوجيه نقد إلى الرياض بسبب استقلاليتها المفاجئة، وكذلك انتقدوا بايدن بسبب محاولته غير اللبقة لعقد صفقة عن ذلك الشأن. خلال حملته الانتخابية الرئاسية، غالباً ما ندد بايدن بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لكن الرئيس الأميركي فاجأ الجميع وقابل ولي العهد في يوليو (تموز) 2022. بالنسبة إلى بعض المحللين الأميركيين، أتى قرار السعودية بخفض الإنتاج بعيد التحول المفاجئ في موقف الرئيس، دليلاً على أن الرياض لم تكن ستشكل شريكاً موثوقاً (أو مطيعاً) وزيارة بايدن للأمير محمد بن سلمان كانت خطأ سياسياً. على النقيض من ذلك، جادل محللون آخرون بأن تحرك الرياض كان في الواقع خطأ بايدن، وجاء كنتيجة ثانوية متوقعة لغطرسة الإدارة المتمثلة في مطالبة السعودية بوضع المصالح الأميركية قبل مصالحها.
في الواقع، إن المراقبين الأميركيين على حق في أن واشنطن اتخذت قرارات مزعجة بالنسبة إلى السعوديين. ولكن هناك أيضاً داخل واشنطن نقص في فهم طريقة صياغة السعودية سياستها الاقتصادية والخارجية. ببساطة، تستعد السعودية، تحت إشراف الأمير محمد بن سلمان، لاقتصاد سياسي عالمي يختلف بشكل ملحوظ عن ذلك الذي تتصوره إدارة بايدن. في تقرير “استراتيجية الأمن القومي” الذي نشر حديثاً، ركز البيت الأبيض على كيفية الفوز بمنافسة مدارة [بمعنى أنها تخضع لتوجهات مسبقة وليس لاعتبارات السوق] مع الصين. كذلك أوضح تفضيله تقسيم الشراكات الاقتصادية والسياسية إلى مسارين، أحدهما مع الديمقراطيات والآخر مع غير الديمقراطيات، يجري تنفيذهما في إطار عمل المؤسسات الدولية. نظراً إلى موقف الأميركيين الفاتر من الأطر الدولية، فمن المرجح أن يؤدي التزام المسار الثاني إلى خفض تصنيف الدول الاستبدادية.
وعلى رغم أن الديمقراطيين والجمهوريين أصبحوا أقل دعماً للشراكة الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية، إلا أن السياسة الخارجية الأميركية قد لا تكون السبب الرئيس في تصدع العلاقات. في الحقيقة، تصدعت تلك العلاقات نتيجة التغييرات في السياسة الداخلية والخارجية التي تعتمدها السعودية. إذ لا يفكر ولي العهد السعودي بتصور بلاده كلاعب من الدرجة الثانية في نظام عالمي منقسم يشبه النظام الذي ساد خلال “الحرب الباردة” [بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ووصولاً إلى تسعينيات القرن الـ20].
وكذلك يرى أن النظام الجيوسياسي العالمي الأخذ في الظهور، يتمتع بالمرونة، ويتألف من مجموعة من الأجزاء المتشابكة. بالتالي، يعتقد ولي العهد أن الرياض تملك الحق في العمل مع مجموعة متغيرة من الشركاء بغية تحريك الأسواق وصوغ المخرجات السياسية عالمياً. إضافة إلى ذلك، يعتقد الأمير محمد بن سلمان أن السعودية ستضطر إلى حماية اقتصادها بقوة في ظل التقلب في الطلب على الطاقة والنفط في العالم، لكنها إذا نجحت، فلن يتمكن أحد من منعها من شق طريق مستقل وريادة نوع مختلف من التنمية الاقتصادية. تشبه هذه الرؤية حلم “حركة عدم الانحياز” في سبعينيات القرن الماضي، بيد أن السمة المشتركة بينهما تتبدى في أن النفعية الوطنية [تشكل سمتها] حاضراً، وليس صحوة ما بعد الاستعمار.
وقد يكون ولي العهد على حق. إذ يدخل العالم فترة من انعدام الأمن في مجال الطاقة، وسيتزايد الطلب على الهيدروكربونات خلال السنوات الـ20 المقبلة على الأقل، وذلك وضع يمكن أن يمنح السعودية مزيداً من القوة. واستطراداً، تتزايد مرونة النظام الدولي، ويمكن لاقتصادات الأسواق الناشئة بشكل عام، والسعودية على وجه الخصوص، تطوير دور أكثر جوهرية في الشؤون العالمية.
العالم ملكك
من وجهة نظر الرياض، إن المستقبل ملك الأسواق الناشئة. بين عامي 2011 و2021، شكلت هذه الاقتصادات 67 في المئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وباتت تمثل حاضراً 49 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي الشامل. على مدى السنوات الأربع المقبلة، من المتوقع أن تنمو الاقتصادات الناشئة بـ3.9 في المئة سنوياً، أي أسرع من الاقتصادات الموجودة في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، وستشكل نسبة متزايدة من حجم التجارة العالمية.
وتنضوي السعودية ضمن تلك الكتلة من الدول. في الواقع، وفقاً لقادتها، تعتبر السعودية إحدى أهم الأسواق الناشئة في العالم. إذ يمثل ذلك البلد موطناً لاقتصاد كبير مع معدل مرتفع من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى أنه يصدر ما يكفي من النفط للتأثير في أسعار الطاقة العالمية. استضافت المملكة قمة لـ”مجموعة الـ20″ في عام 2020 (لكنها جرت بالتقنية الرقمية الافتراضية). وقبل أربع سنوات من ذلك الحدث، كشفت السعودية النقاب عن “رؤية 2030” التي تقدم مستقبلاً طموحاً تتوقف فيه الدولة عن الاعتماد على الوقود الكربوني، وتبني مدناً مستقبلية يمكنها أن تصمد في وجه أخطار المناخ كافة.
استطراداً، لقد ملأت تلك الرؤية المواطنين السعوديين والمسؤولين الحكوميين على حد سواء، بثقة جديدة. إذ باتت السعودية، وغيرها من دول الخليج، تنظر إلى نفسها الآن كنماذج للنمو والتطور، وتشعر بالحاجة إلى إعادة توجيه تحالفاتها من أجل الاستعداد للعمل ضمن نظام عالمي أقل استقراراً، وربما حتى لحقبة ما بعد أميركا. والجدير بالذكر أن قرار الرياض في عام 2016 بدفع منظمة “أوبك” إلى التنسيق مع الدول غير الأعضاء فيها، بالتالي تشكيل مجموعة “أوبك +”، يعبر بالضبط عن هذا النوع من التخطيط السياسي. ويرجع ذلك إلى أن مجموعة “أوبك +” ليست ملتزمة بأيديولوجية معينة أو معاهدة محددة، بل إنها تحالف من دول ترغب في التعامل مع بعضها بعضاً حينما يتناسب ذلك مع مصالحها المشتركة. وقد تكون تلك المجموعة على استعداد لتحدي الولايات المتحدة من أجل تحقيق أهدافها.
وتعتبر الشراكة الروسية السعودية، التي أطلقت كجزء من “أوبك +”، رمزاً بشكل خاص لوجهة نظر الرياض الجديدة في السياسة الخارجية. بالنسبة إلى السعودية، لم يكن الأمر مجرد مسألة عمل، بل إنه تصرف يهدف إلى الحفاظ على الذات. في العقد الثاني من الألفية الثانية، بدأت الولايات المتحدة في إنتاج كميات أكبر من نفطها الصخري، مما أدى إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط وتسبب في انخفاض الأسعار. وقد شكل ذلك تحدياً لدور السعودية التقليدي باعتبارها مصدراً مهيمناً في الطاقة الاحتياطية لأسواق النفط، وقوض قدرة الرياض على التحكم في الإمدادات العالمية. ولكن من خلال الشراكة مع روسيا، يمكن للسعودية أن تصنع وسيلة ضغط أكثر تحكماً لإجبار أسعار النفط على الانخفاض، مما يؤدي إلى حرمان منافسيها الأميركيين من الاستثمار من طريق جعل تحقيق الربح أصعب على الشركات الأميركية. (تستطيع شركات النفط الوطنية الخاضعة لسيطرة الدولة أن تعمل بسهولة أكبر في ظل حدوث خسائر). في مارس (آذار) 2020، بدت الشراكة الروسية – السعودية أقل بديهية ووضوحاً حينما انهارت السوق الآسيوية للنفط تحت وطأة الوباء [جائحة كورونا]، مما وضع البلدين في منافسة شرسة. وعلى رغم ذلك، ظلت موسكو والرياض تعتبران التنسيق أفضل طريقة من أجل التعامل مع اقتصاد عالمي يحتاج إلى النفط. في المقابل، بفضل الانتقال في مجال الطاقة [بمعنى السعي إلى توسع الطاقة النظيفة]، ثمة تردد متزايد في استثمارات اقتصاد العالمي فيه. نتيجة لذلك، فقد تكاتفتا [موسكو والرياض] معاً.
لم تعد الولايات المتحدة الشريك الأمني الذي كانته في الماضي
من منظور تجاري، أسهم الغزو الروسي لأوكرانيا في منح السعوديين مزيداً من الأسباب لمواصلة الشراكة، إذ إن الرياض ترى أن الإجراءات المنسقة في الغرب من أجل السيطرة على واردات الطاقة الروسية وقمعها، بما في ذلك تحديد سقف أسعار النفط الروسي، بمثابة تصرف من كارتل للمشترين يهدد الاقتصاد السعودي. من وجهة نظر السعودية وأعضاء آخرين في “أوبك+”، يمكن لهذا الكارتل في نهاية المطاف، تصنيف النفط الخام بحسب نقطة المنشأ، وطريقة الاستخراج، ودرجة كثافة الكربون، ثم تسعيره وفقاً لذلك، وهذه الممارسة من شأنها أن تقوض بشكل خطر سيطرتها على التوريد العالمي.
في منحى مقابل، لا شك في أن واشنطن لديها قليل من الصبر حيال حسابات الرياض التجارية، وتنظر إلى تخفيضات الحكومة السعودية للنفط بوصفها صفعة على الوجه ورفضاً للشراكة الأميركية – السعودية. ولكن انطلاقاً من الطريقة التي ينظر فيها ولي العهد السعودي إلى العالم، بعناصره المتغيرة، فإن ما تعتقده الولايات المتحدة لا يشكل عاملاً حاسماً ومقرراً. في الحقيقة، يمكن للرياض العمل مع أية جهة حينما يكون ذلك مناسباً، ويعني ذلك أن السعودية يمكنها أن توازن شراكاتها التجارية، بما في ذلك مع روسيا واحتياجاتها الأمنية، في الأماكن التي تعتمد فيها بشدة على الولايات المتحدة.
وفي سياق متصل، طالبت مجموعة كبيرة من صناع السياسة في الولايات المتحدة، البيت الأبيض أن يثبت للأمير محمد بن سلمان أن توازنه [بين أميركا وموسكو] لا يمكن أن ينجح، وذلك من خلال التهديد بإنهاء مبيعات الأسلحة الأميركية أو خفضها. وعلى رغم أن الرياض تفضل بالتأكيد الاستمرار في شراء الأسلحة الأميركية، إلا أن الأمير محمد بن سلمان قد لا ينظر إلى هذا التهديد باعتباره مثيراً للقلق بشكل خاص. إذ تؤثر الصناعات الحربية بشكل كبير في الكونغرس، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن لديها خطوط إنتاج تدعم آلاف الوظائف الأميركية. وعقود الصيانة الطويلة الأجل للأسلحة والمعدات لا تحدث من دون تخطيط مسبق، ومن المرجح أن يضغط المصنعون بشدة من أجل منع أي توقف في تصنيع الأسلحة للسعوديين.
والأهم من ذلك، أن الخليج شرع فعلاً في ضبط علاقته الأمنية مع واشنطن. لا تتعلق هذه الخطوة بتراجع مبيعات الأسلحة، بل بانخفاض رغبة الولايات المتحدة في استخدام قواتها لحماية دول الخليج. لم تعد الولايات المتحدة الشريك الأمني الذي كانته في الماضي. وقد أوضح الرئيس الأميركي باراك أوباما ذلك حينما أشار إلى أن السعودية يجب أن “تتشارك المنطقة” مع إيران. في المقابل، تقرب الرئيس دونالد ترمب من السعوديين خطابياً، لكنه أيضاً أوضح عدم اهتمام واشنطن من خلال رفضه الرد على هجمات 2019 على البنية التحتية النفطية السعودية. إذاً، لا يشكل خفض بايدن مستوى الشراكة مع السعودية، سوى الحلقة الأحدث ضمن اتجاه أوسع انتهجته السياسة الخارجية الأميركية.
واستكمالاً، تعرف السعودية أنه ليس لديها بديل واحد إذا قطعت الولايات المتحدة إمدادات الأسلحة. (من المؤكد أن روسيا غير قادرة على توفير ما تحتاج إليه الرياض). بالتالي، إنها تحاول تسريع التحول الاقتصادي الذي يربط اقتصادها بشكل أوثق بالأسواق الرئيسة. وقد أظهر ذلك الجهد بالفعل بعض النجاح. إذ اتهمت واشنطن دول الخليج بأنها ودودة للغاية مع بوتين، بيد أن سلوكها هذا لم يمنع الحكومات الأوروبية من الاندفاع إلى أسواق الطاقة في المنطقة، بما في ذلك أسواق السعودية. منذ بدء الغزو الروسي، وقعت الدول الأوروبية اليائسة في مجال الطاقة، اتفاقات تعاون طويلة الأمد في مجال الغاز الطبيعي المسال والهيدروجين والطاقة مع الرياض وحكومات دول خليجية أخرى. والأهم من ذلك، وافقت الحكومات الأوروبية أيضاً على تصدير أسلحة جديدة للسعوديين. حتى ألمانيا التي حظرت مبيعات الأسلحة للسعودية في 2018، باتت تتقرب من المملكة وتبيعها معدات دفاعية. وعلى رغم القلق المفرط في واشنطن، يمكن أن تكون الرياض على صواب. إن النظام الدولي متقلب بما فيه الكفاية، والمملكة مهمة بما فيه الكفاية، لدرجة أنها ليست ملزمة باختيار جانب واحد.
الاستعداد للصدمة
إن قرارات السعودية النفطية لا تستند إلى الشؤون الدولية فحسب. وعلى غرار سعي إدارة بايدن لدى السعوديين إلى إبعاد قرار تخفيضات إنتاج “أوبك +” عن انتخابات التجديد النصفي للولايات المتحدة (وهو طلب يبدو الآن غير حكيم ومستند على المصالح والصفقات التبادلية)، فإن سياسة النفط السعودية جاءت أيضاً نتيجة للحسابات المحلية. يحب ولي العهد السعودي عملية تحديد الأهداف ثم تجاوزها، بما في ذلك ما يتعلق بقرارات “أوبك +”.
وفي وقت سابق، أشارت حكومته إلى أنه سيكون هناك خفض للإنتاج في حدود تراوح بين مليون و1.5 مليون برميل يومياً. وبدا الهدف الأعلى في النهاية مصمماً بصورة تقريبية لعرض قوة ولي العهد السعودي، أي أنه جاء بمثابة توضيح لشعبه أنه على رغم الضغط الخارجي للحفاظ على الإنتاج مرتفعاً، إلا أنه قادر على خفض الإنتاج إلى مستويات أقل من تلك المتوقعة.
والجدير بالذكر أن صيحة استنكار الغرب بشأن إعلان خفض مليوني برميل يومياً لم يكن لها ما يبررها. إذ أنتجت معظم دول “أوبك +” النفط بالفعل بمعدلات يومية أقل من النسب الجديدة المخفضة، بالتالي جاء إعلان الخفض رمزياً إلى حد ما. وعلى رغم الغضب، خلف قرار “أوبك +” تأثيراً ضئيلاً حتى الآن على إمدادات النفط للأسواق. وعادت الأسعار إلى معدلاتها السابقة المسجلة في أكتوبر (تشرين الأول) في غضون أسبوعين. (يشكل حظر النفط الروسي ووضع سقف لأسعاره تهديداً أكبر بكثير لإمدادات السوق [من قرار أوبك+ خفض الإنتاج]).
في المقابل، يخدم قرار “أوبك +” يخدم هدفاً ملموساً في الاقتصاد السعودي. إذ يولد خفض الإنتاج طاقة إنتاجية فائضة للسعودية، مما يمنحها مجالاً لزيادة الإنتاج موقتاً إذا شهد الاقتصاد العالمي انخفاضاً مفاجئاً من مصدر إمداد آخر كروسيا. كذلك يعطي القرار إشارة إلى المستثمرين مفادها بأن الحكومة السعودية ملتزمة بإبقاء النفط مربحاً أو على الأقل خلق حد أدنى للأسعار، مما يشجع الشركات على زيادة الإنفاق على قطاع البترول.
الأهم من ذلك، تمثل الهدف من ذلك القرار بالمساعدة في منع التقلبات الشديدة في أسعار النفط. على رغم ارتفاع الطلب الحالي، تشعر الحكومة السعودية بالقلق من أن رغبة العالم في الحصول على النفط يمكن أن تنخفض بشكل حاد إذا انغمس الاقتصاد العالمي في ركود أعمق وأكثر انتشاراً. وللسبب نفسه، توخت السياسة المالية السعودية اتباع مسار الحذر. من المرجح أن يستند تقرير ما قبل الموازنة الخاص بالبلاد لعام 2023 إلى أسعار نفط تراوح بين 76 دولاراً و78 دولاراً للبرميل، مع تأرجح متوسط إنتاج النفط حول 10.6 مليون برميل يومياً تقريباً. ولا يحمل ذلك السعر سوى زيادة طفيفة عن أسعار عام 2022، حينما سعر النفط بتحفظ عند مستوى أقرب إلى عتبة 70 دولاراً للبرميل. ولم تترجم الأرباح المفاجئة التي حققتها السعودية هذا العام في فورة إنفاق، على الأقل حتى الآن.
بالنسبة إلى السعودية، فإن تراجع سيطرتها على النفط تعني تراجع قوتها بشكل عام
عوضاً عن ذلك، تستعد السعودية لمواجهة التأثير المترتب إما في انهيار الطلب أو في الحاجة غير المتوقعة لإمدادات نفطية جديدة. ولديها أسباب للاستعداد. فمع استمرار الحرب في أوكرانيا واستهداف روسيا للبنية التحتية المدنية والخاصة بالطاقة، ستزداد التهديدات المحدقة بأمن الطاقة العالمي. ومع زيادة العقوبات على روسيا، قد يكون في متناول العالم موارد طاقة نفطية احتياطية أصغر حجماً، وقد يواجه ضغطاً على إمدادات المنتجات النفطية المكررة. وتجدر الإشارة إلى أن سياسات الطاقة الموضوعة قيد الدراسة في البيت الأبيض تسعى إلى حظر تصدير النفط الأميركي. وكذلك من شأن تشريعات الكونغرس (المعروفة بـ”نوبك”) أن تتيح لوزارة العدل مقاضاة المسؤولين عن احتكار الأسعار المحصنين، بالتالي فسيكون لها تأثير مخيف في أي استثمار جديد في قطاع النفط والغاز، وستزيد من تعطيل عمليات تكرير النفط وتسليم المنتجات. في منحى مقابل، عملت الصين، وهي أهم سوق تصدير بالنسبة إلى السعودية، على زيادة وارداتها من النفط الروسي، مما يهدد حصة الرياض في السوق. وتشتري الصين الآن بكميات أقل، بسبب توقعات تباطؤ النمو في البلاد والتزام بكين المستمر باتباع سياسة “صفر كوفيد”. واستطراداً، تثير تلك المؤشرات قلق السعوديين وتهدد عائدات النفط وشرعية الرياض كقوة تحافظ على استقرار سوق النفط العالمية.
والحق أن السعودية والولايات المتحدة تستعدان لاقتصادين عالميين مختلفين وتعدان العدة لهما. يرنو أحدهما إلى دور أكثر قوة في السياسة الدولية والتجارة مع الأسواق الناشئة، فيما يرى الآخر أن الدول تتخذ منحى داخلياً وتركز على استقلالها في مجال الطاقة المحلية، مع التشديد على الانخراط المستند إلى القيم عند التفاعل مع النظام الدولي. وسيظل النفط جزءاً من السياسة الخارجية للبلدين كليهما. في المقابل، من المؤكد أن البلدين يسلكان اتجاهين مختلفين. قد تجد الرياض وواشنطن قريباً أنهما في كثير من الأحيان متنافسان أكثر من كونهما شريكين في أسواق النفط ونماذج التنمية الاقتصادية.