سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
فيليب داندولوف
يميل علماء العلاقات الدولية الواقعيون تقليديًا إلى اعتبار الدول الصغيرة في وضع غير مواتٍ عندما يتعلق الأمر بالقدرة على متابعة مسار السياسة الخارجية المستقلة. وغالبًا ما يُنظر إلى هذه الدول أيضًا على أنها في وضع ضعيف فيما يتعلق بتأثيرات الأزمات العالمية، إذ إن افتقارها إلى القوة المادية، لا سيَّما في المجال العسكري، غالبًا ما يجعلها مجرد ملاحق لضمان الأعمال الجيدة، أو عدم حسن التصرف من جانب القوى المتوسطة والكبيرة.
ومع ذلك، فإن جائحة “كوفيد ــ 19” المستمرة قد تسلط الضوء على كيف يمكن لدولة صغيرة أن تقدم بالفعل عددًا من الفوائد الملموسة من حيث التخفيف بنجاح من آثار “الأحداث الحرجة” من هذا النوع.
سمعة عالمية
من أجل الوضوح المفاهيمي، سيكون تعريف الدولة الصغيرة المستخدم في هذه المقالة تعريفًا لكيان سياسي سيادي يضم عددًا من السكان يتراوح بين 100 ألف نسمة إلى خمسة ملايين شخص. ويستثني هذا التعريف عددًا من الدول الصغيرة، ويعكس أيضًا نهجًا وسطيًا بين فهم المفهوم الذي أيده عالم الديموغرافيا “سيمون كوزنتس” من جهة، والاقتصاديان “إسوار براساد” و”أيهان كوس” من جهة أخرى.
ويبدو أن ما يظهر كإجماع في الآراء بين علماء الأوبئة وخبراء الصحة العامة، هو أن الدول التي تتصرف مبكرًا وبشكل حاسم، وتلك القادرة على تكييف استجابتها للوضع الوبائي الحالي، تتمتع بأكبر احتمالات النجاح في احتواء أزمة “كوفيد ــ 19”.
تتمتع الدول الصغيرة بالعديد من المزايا في هذا المجال. أولاً، من المرجح أن يكون عدد سكان دولة صغيرة أكثر تجانسًا من سكان دولة أكبر، من حيث الانقسامات العرقية والثقافية والدينية، وطبيعة الانقسامات السياسية القائمة، وما إلى ذلك. وبالتالي، فإن هناك احتمالاً أكبر لجاذبية الحكومة للوحدة الوطنية التي يتردد صداها مع المجتمع الأوسع، مما يجعل تنفيذ تدابير غير شعبية مثل إغلاق قطاعات الاقتصاد التي يسهل بيعها للسكان. ويعتقد ــ أيضًا ــ أن السلع العامة مثل الحفاظ على القانون والنظام تتطلب استثمارات أقل في الدول الأصغر، خاصة إذا كانت تناسب تعريف المجتمعات عالية الثقة أيضًا (كما في حالة أيسلندا التي شهدت قصة نجاح أخرى لكوفيد ــ 19)، مقارنة بحالات أكبر من الدول غير المتجانسة. وقد يسهل ذلك بشكل أكبر إمكانية إنفاذ لوائح مكافحة الجائحة.
علاوة على ذلك، يعتقد بعض العلماء أيضًا أن الدول الصغيرة يمكنها أن تكون أكثر مرونة ولديها مساحة إضافية للمناورة السياسية إذا كانت استراتيجية إدارة الأزمات على المستوى الوطني بحاجة إلى تعديل أو تغيير. إن استخدام سلطنة بروناي، على سبيل المثال، لآلية مراقبة شاملة والقدرة على إشراك المسؤولين الدينيين فيما يتعلق بإغلاق المساجد (رغم الشكل المحافظ إلى حد ما للإسلام الذي يمارس في البلاد)، لهو أيضًا دليل على أهمية وجود مجتمع متماسك عند الاستجابة لتهديد عالمي.
لقد كانت التحولات الحادة في السياسة حقيقة لا مفر منها للعديد من البلدان خلال جائحة”كوفيد ــ 19″؛ لأن الطبيعة الجديدة للفيروس أدت إلى بروتوكولات متطورة باستمرار تتعلق بأفضل الممارسات المتعلقة بالاحتواء والعلاج. ما لم تهيمن سياسة “المِظَلَّة الكبيرة” على دولة أكبر (كما هو الحال في روسيا الموحدة، التي وُصفت بأنها حزب مهيمن، تستقطب شريحة كبيرة من السكان تتكون من ناخبين غير أيديولوجيين)، أو أن يكون هناك قوة الثقافة السياسية لبناء “تحالفات كبرى” (حيث تعدُّ ألمانيا مثالاً بارزًا على ذلك)، فضلاً عن أن الاقتتال السياسي والحاجة إلى مفاوضات مكثفة من قبل جهات فاعلة تتداخل مع أطراف مختلفة من الطيف السياسي قد تقوض المصلحة التي يمكن للدولة أن تتفاعل معها.
كما امتد القلق بشأن أوجه القصور البيروقراطية المرتبطة بالكيانات السياسية الأكبر إلى مواقف انتقادية تجاه الاتحاد الأوروبي، كما يتجلى في حالة ممارسة ألمانيا الضغط على الجهاز الطبي للاتحاد الأوروبي (في ديسمبر 2020) لإظهار منفعة أكبر في الموافقة على لقاح شركة “فايزر بايونتيك”.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون من المرجح إلى حد ما أن تقلل دولة صغيرة من قدراتها الخاصة بدلاً من المبالغة فيما يتعلق بجوانب مثل البنية التحتية الصحية للبلد. إن أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت عددًا من جزر المحيط الهادئ، مثل ساموا وفانواتو، إلى اتخاذ إجراءات سريعة جدًا لإغلاق حدودها، يتعلق بإدراكها السريع أنها بعيدة كل البعد عن الاستعداد للتعامل مع أزمة صحية بهذا الحجم. وبالتالي، فإن الحل الوحيد المعقول تمثل في مسار العمل القائم على “وضع البيض كله في سلة الوقاية”.
وهناك عامل آخر مهم يتعلق بمقدار الاهتمام من المجتمع الدولي الذي تتلقاه الدول الصغيرة مقارنة بنظيراتها الكبرى.
فمن المعروف أنه حتى الدول التي يصنفها علماء السياسة بأنها أنظمة استبدادية تدرك الصورة التي تقدمها للعالم الخارجي وتهتم برفع مكانتها في الخارج. إذ تواجه الدول الصغيرة (استثناءات قليلة مثل الدول التي تتمتع بنفوذ دولي غير متناسب مع حجمها) كقاعدة تدقيقًا دوليًا أقل بكثير مقارنة بنظيراتها الأكبر حجمًا. وبالتالي، فإن فشل الدول الصغيرة في استجابات السياسة المحلية عندما يتعلق الأمر بمعالجة فيروس كورونا، من غير المرجح أن يؤدي إلى دعاية سلبية ويؤثر على التعاملات مع الدول الشريكة على عكس حالة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، حيث كانت الجهود المتعثرة للسيطرة على الوباء على الرادار الدولي. ويمكن القول إنها كانت عاملاً حاسمًا في تكليف الرئيس بولاية ثانية. وكلما اتسع نطاق تأثير الدولة، زاد احتمال معاناتها، إذ ربَّما تكون التطورات السلبية التي تؤثر على مجموعة معينة من البلدان مرتبطة بفعل أو عدم تحرك من جانب اللاعب العالمي. وعلى نفس المنوال، فإن توقع أن الدولة الأكبر يجب أن تراعي مصالح استراتيجية معينة قد يضر بعدد من السياسات المتعلقة بصحة مواطنيها، كما يتضح من استمرار “ماهان إير” (وهي شركة لها صلات بالحرس الثوري الإيراني) فيما يتعلق بالرحلات الجوية إلى إيران والصين خلال شهر فبراير 2020، في انتهاك لإعلان الحكومة الإيرانية بتعليق السفر الجوي من وإلى الصين في 31 يناير.
وبالتالي، فيما يتعلق بالعلامة التجارية للأمة (والتي تتصل بإدارة سمعة بلد ما)، فإن الدولة الصغيرة في وضع أفضل جوهريًا من الدولة الأكبر حتى لو تبين أن استراتيجيتها الخاصة بفيروس كورونا لم تكن ناجحة بشكل خاص. وعلى النقيض من ذلك، فإذا تمكنت دولة صغيرة من أن تصبح صانعًا للاتجاه وظهرت كمخطط يجب اتباعه فيما يتعلق بكونها خارجة عن النجاح في التعامل بكفاءة مع تفشي هذا المرض، فإن هذا من شأنه أن يعزز بشكل ملحوظ الجهود المتصلة بالصورة الذهنية للدولة التي تكون قادرة على تمييز نفسها عن الدول الصغيرة الأخرى واكتساب الاعتراف في الدوائر الدولية. ويُعتقد أن نيوزيلندا قد ضاعفت قوتها الناعمة نظرًا لكونها حالة نموذجية عالمية فيما يتصل بمواجهة “كوفيد ــ 19″، مع الكفاءة العالية لنهجها في القضاء على الفيروس الذي يتجاوز التوقعات الأولية للعديد من خبراء الصحة.
وكمثال مضاد، فعلى الرغم من المساعدات الخارجية التي قدمتها إلى الدول الأخرى التي دمرها الوباء، فقد تراجعت صورة الصين العالمية بسبب الشكوك بأنها حاولت في البداية إخفاء حجم وخطورة تفشي “كوفيد ــ 19”.
ومن حيث الجوهر، يبدو أن الدولة الصغيرة تتحمل عبئًا نفسيًا أقل مما تتحمله دولة أكبر من حيث الطريقة التي ينظر بها المجتمع الدولي إلى سياساتها المتعلقة بالوباء، حيث يكون لديها الكثير لتكسبه أكثر مما تخسره فيما يتعلق بمكانتها الدولية.
وفي حين أن الجهود الدولية لإنهاء جائحة” كوفيد ــ 19″ قد شهدت بطبيعة الحال وجود الدول الأكبر في مقعد القيادة من حيث تخصيص الموارد والإنتاج العلمي، فقد ظلت العديد من الدول الأصغر غير متأثرة نسبيًا بتفشي الوباء العالمي بسبب مزيج من أدوات الحكم السهلة والأكثر قدرة على التكاتف معًا في مواجهة أزمة وجودية، فضلاً عن وجود تقييم واقعي لنقاط الضعف الخاصة بها، والفهم الضمني بأن نجاحها المحتمل فيما يتصل بإيجاد الوصفات الصحيحة لمثل هذا الحدث المعاكس ذي الأبعاد العالمية، هو فرصة لا مثيل لها لتتألق على الساحة الدولية.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر